حوار مع ألان غريش حول الحرب ضدّ غزة: “لم يُفرض الرأي الأوحد في فرنسا كما يحصل اليوم”


2023-10-31    |   

حوار مع ألان غريش حول الحرب ضدّ غزة: “لم يُفرض الرأي الأوحد في فرنسا كما يحصل اليوم”

أجرت الحوار: ألفة لملوم

ألان غريش صحفي وكاتب فرنسي، ولد في القاهرة سنة 1948. اشتغل كرئيس تحرير للدورية الشهرية الفرنسية لوموند ديبلوماتيك، وأسّس سنة 2013 الموقع الإلكتروني اوريون 21،[1] أحد المنابر القليلة في فرنسا المناصرة للقضية الفلسطينية المناهضة للإسلاموفوبيا. نشر العديد من المقالات والكتب حول الصراع العربي الإسرائيلي، نذكر منها:

De quoi la Palestine est-elle le nom?, Les liens qui libèrent, 2010.

Avec Hélène Aldeguer, Un chant d’amour, une histoire française, une réédition actualisée et augmentée, Libertalia, 2023.

التقت المفكرة القانونية بألان غريش لتحاوره حول الموقف الفرنسي من الحرب الجارية على غزة وتطور السياسة الخارجية الفرنسية من القضية الفلسطينية وأداء الإعلام الفرنسي المهيمن حول ما يجري.

المفكرة القانونيّة: فلنبدأ بسؤال شخصي نوعا ما. نحن نشهد منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، عاجزين، كارثة إنسانيّة في غزّة، خلّفت آلاف الضحايا من المدنيّين وخصوصا الأطفال. أمام هذه الحرب الوحشيّة، كيف تصف مشاعرك اليوم، وأنت الذي شكّل الدفاع عن القضية الفلسطينية أحد أعمدة التزامك السياسي لا بل وحتى التزام والدك هنري كوريال[2]؟

ألان غريش: قبل الموقف السياسي، الذي يحاول فهم وتحليل ما يحصل، هناك أوّلا شعور بالسخط، ليس فقط في وجه المجزرة التي تحصل أمامنا، ولكن أيضا أمام تعامل الدول الغربيّة معها. لا يتعلّق الأمر بالمجتمع الدولي. فحتى الأمم المتحدة صدرت عنها مواقف جيّدة، ولكن الإشكال هو أنّها لا تستطيع الفعل إلاّ في حدود ما تسمح به القوى العظمى. السماح بحصول ذلك أمام أعيننا، بل وإيجاد أعذار وتبريرات لذلك، مهما كانت تحليلاتنا لما حصل في 7 أكتوبر، هو حسب رأيي أمرٌ مُعيب. هو معيب بصورة خاصّة في فرنسا، على الرغم من أنّ السياسة الفرنسيّة إزاء المسألة الفلسطينيّة قد شهدت منذ عقد ونصف ما أسميته في كتابي الأخير، “تحوّلا صامتا”. عندما نقارن بين السياسة الفرنسيّة في 1967 على سبيل المثال مع ديغول، وحتى بعد ذلك مع بومبيدو وجيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك، وبين ما يحصل اليوم، مع زيارة ماكرون الأخيرة إلى المنطقة بكلّ ما حملته من تراجع ووقاحة، نشعر بالعجز.

المفكرة: الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعا خلال زيارته الأخيرة إلى اسرائيل، إلى توسيع التحالف الدولي لمحاربة داعش، كي يشمل حماس. بعد ذلك حاولت الدبلوماسيّة الفرنسيّة التخفيف قليلا من وقع هذه التصريحات. كيف تفسّر من جهتك هذا الموقف المفاجئ، ألا ترى أنّه يعكس تحرّر الإليزي من الضوابط الدبلوماسيّة المعتادة في مجال السياسة العربيّة أو الشرق-أوسطيّة لفرنسا؟

غريش: لا يتعلّق الأمر بالإليزي كمؤسسة ولكن بماكرون نفسه. أظنّ أنّه فقد صوابه. هذا التصريح عبثي ولا معنى له، ولا أساس له، حتى من وجهة نظر الدول المشاركة في هذا التحالف، وهي ليست مستعدّة لا سياسيّا ولا عسكريّا للمشاركة في مثل هذا العمل. ولكن مع ذلك سأحاول تفسير دوافعه. هناك أوّلا بُعدٌ فرنسي داخلي في هذا الموقف، وهي خوصصة السياسة الخارجيّة الفرنسيّة لصالح الرئيس ماكرون وحده، أو ربما مع بعض مستشاري الظلّ، ولكن في تجاهل للجهاز الدبلوماسي الفرنسي بالرغم من كفاءته المشهود بها. باستطاعتي أن أؤكد أنّ وزارة الخارجية الفرنسيّة صُدمت من هذا الموقف. للأسف لم تخرج إلى العلن احتجاجات من داخل المؤسسة الدبلوماسيّة، على الرغم من أنّ موقف ماكرون يلزم فرنسا كلّها، ولكن ذلك لا يعني عدم وجود امتعاض داخلها. البُعد الثاني، وهو الأخطر حسب رأيي، هو ما تعكسه من تغيّر في مقاربة المسألة الفلسطينيّة، من منظار شعب يعيش في وضعيّة احتلال، بما يتطلّب إيجاد حلّ سياسي (عموما حلّ الدولتيْن)، إلى منظار الحرب الدوليّة ضدّ الإرهاب. لا يهمّ إن كانت هذه الحرب التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن قد انتهت إلى فشل ذريع وخلّفت ملايين الضحايا. أظنّ أنّ هذه المقاربة الجديدة تفسّر ليس فقط بعوامل تتعلّق بالسياسة الدوليّة، ولكن أيضا بعوامل داخليّة فرنسيّة. إذ يترافق هذا الانزلاق مع تصاعد الخطاب المعادي للهجرة، التي تصوَّر كغزو ديمغرافي وتهديد لفرنسا و”هوّيتها المسيحيّة”.[1]  هو منطق “صراع الحضارات”، الذي يعبّر عنه بشكل واضح ميشال أونفري على سبيل المثال، الذي لا يمكن أن نعتبره مثقّفا، والذي يكرّر أنّنا إزاء صراع بين الغرب اليهودي- المسيحي والإسلام. طبعا، عبارة “الحضارة اليهوديّة- المسيحيّة” هي اختراع جديد مثير للسخرية، عندما نتذكّر تعامل هذه الحضارة مع اليهود طيلة قرون. حسب رأيي، هذا البُعد الداخلي هو الأكثر إثارة للقلق، ونحن نشهد بالتوازي مع ذلك إعدادا لإجراءات جديدة أكثر تشدّدا إزاء الهجرة، في ارتباط مع قوى اليمين وأقصى اليمين. للأسف، الأجندا السياسيّة الداخلية في فرنسا، إيديولوجيّا، يحدّدها حزب التجمّع الوطني (الجبهة الوطنيّة سابقا). يجب أن لا ننسى أنّ اريك شيوتي رئيس حزب الجمهوريين هو وريث الديغوليين، ورغم ذلك هو يركض وراء أقصى اليمين وخطابه. ولا يختلف الأمر أبدا عند ماكرون وحزبه. سياسة الدعم غير المشروط لإسرائيل مرتبطة مباشرة بهذا البعد في السياسة الداخلية الفرنسيّة.

المفكرة: في كتابك الأخير “Un chant d’amour ; Israël-Palestine, une histoire française“، تقفّيت أثر “التحوّل الصامت” في السياسة الخارجيّة الفرنسيّة. متى حصل هذا التحوّل ولماذا؟

غريش: لم تكن هناك لحظة محدّدة. يمكن أن نربطه نوعا ما برئاسة ساركوزي ولكنّه بدأ بشكل تدريجي قبلها. هذا التحوّل ينبغي أن يقرأ من خلال تحوّل أشمل في السياسة الدوليّة الفرنسيّة. فالسياسة الديغوليّة، التي تتشبث باستقلالية القرار الفرنسي، أصبحتْ شيئا فشيئا غير مسموعة، أمام الخطاب الذي يعتبر أنّ وزن فرنسا تراجع ولم يعدْ بإمكانها لعب مثل هذا الدور. توسّع الاتحاد الأوروبي ساهم أيضا في ذلك، عبر تقليص مجال إمكانيّات التحرّك لدى فرنسا.

أنا أسميت ذلك “تحوّلا صامتا” لأنّ الحكومات تنكر أيّ تغيّر في الموقف الفرنسي إزاء المسألة الفلسطينيّة، وتؤكد على مواصلة التشبث بمناهضة الاحتلال وبحلّ الدولتين. ولكنّ الفرق بين سياسة ساركوزي – هولاند – ماكرون، والسياسة السابقة، هو أوّلا، في أنّ مستوى العلاقات الثنائيّة مع إسرائيل كان في السابق مرتبطًا بالمسألة الفلسطينيّة، على عكس ما يحصل اليوم. وثانيا، كان لدينا نشاط سياسي ودبلوماسي للدفع نحو حلّ الدولتين، أمّا اليوم، فنكتفي بالتصريح بالتشبث بحلّ الدولتين، ليس فقط من دون الحديث في الخطوات العمليّة لتحقيق ذلك، بل ومن دون تحديد مسؤوليّة تعطيله وإفشاله، التي تقع على عاتق الحكومات الإسرائيليّة. في السابق، كانت إسرائيل تصرّح بقبول حلّ الدولتين وتفعل كلّ شيء لإجهاضه، أمّا اليوم، فالسلطة الإسرائيلية أصبحت تقول صراحة أنّها ترفض قيام دولة فلسطينيّة. في السابق، كان هناك نشاط سياسي ودبلوماسي فرنسي هامّ في المسألة الفلسطينية. في السبعينات والثمانينات، فرنسا ساهمت بدرجة كبيرة في الاعتراف الأوروبي والغربي عموما بمنظمة التحرير الفلسطينية وبحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. جيسكار ديستان كان أوّل من سمح بفتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس في 1974. وهو الذي بادر بإعلان البندقيّة في 1980 الذي صدر عن تسع دول أوروبية والذي أكّد على أنّ أيّ حلّ للقضيّة يجب أن يمرّ عبر حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وتواصلت المبادرات بعد ذلك. ولكن منذ اتفاقيات أوسلو، اكتفت فرنسا وأوروبا بتمويل السلطة الفلسطينيّة، بشكل ضاعف استفادة إسرائيل من الاتفاق،  حيث واصلت الاحتلال من دون تحمّل الأعباء الماليّة لذلك. اليوم لا توجد أيّ نيّة للقيام بأيّ مبادرة جدّية. وحتى حين يأتي تصريح فيه نوع من الشجاعة من مسؤول سياسي، سرعان ما تنهال عليه الاتهامات بمعاداة الساميّة. لقد أصبح كلّ خطاب مساند لحقوق الفلسطينيّين يجابه بهذه التهمة، وهذا بُعدٌ مستجدّ.

المفكرة: كي نعود إلى كتابك، لماذا اعتبرت أنّ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي هو تاريخ فرنسي، أو قصّة شغف فرنسي؟ أيّ خصوصيّة يمكن أن تفسّر وقع المسألة في النقاش السياسي في فرنسا؟

غريش: هنالك عوامل عديدة، من بينها موقع ومكانة فرنسا في البحر الأبيض المتوسّط، خصوصا منذ انتهاء حرب الجزائر، حين سعى الجنرال دي غول إلى أن يكون له سياسة متوسّطية نشيطة. فرنسا أيضا تضمّ أكبر عدد من اليهود بعد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وأيضا عددا هامّا من المسلمين خصوصا من أصل مغاربي، مما يساهم في أن يكون لهذا الموضوع حساسيّة خاصّة لدى جزء لا يستهان به من الرأي العامّ الفرنسي. هناك أيضا عامل مهمّ حسب رأيي، وهو الانخراط العاطفي لجزء هامّ من النخب السياسيّة الفرنسيّة، خصوصا منذ جريمة إبادة اليهود في الحرب العالميّة الثانية، في دعم وجود إسرائيل. في 1947 و1948 كلّ الأحزاب الفرنسيّة، بما فيها الحزب الشيوعي، ساندت قيام دولة إسرائيل، كما لعبت فرنسا دورا محوريّا في شبكات هجرة اليهود السرّية إلى فلسطين، من دون أن ننسى أنّ فرنسا لعبت دورا حاسما في تمكين إسرائيل من أن تصبح قوّة نووية. ولكن أيضا، حتى لا نختزل الصراع في البعد الطائفي، لا يجب أن ننسى أنّ فلسطين هي آخر القضايا الكبرى للتحرّر من الاستعمار في العالم. إذ لا توجد على حدّ علمي قضيّة أخرى تحرّك الناس في أماكن بعيدة نظريّا عن الصراع في أمريكا اللاتينيّة وإفريقيا وآسيا. الجانب الرمزي للقضيّة الفلسطينيّة مهمّ. عوض الدعوات لعدم “توريد” الصراع داخل المجتمع الفرنسي، وهي دعوات تثير السخرية لأنّها تصدر عن ناس يزورون إسرائيل ليعلنوا تضامنهم مع حكومة تقصف بشكل وحشي قطاع غزّة، الأجدى هو أن نفتح النقاش. هذا النقاش هو الذي سيبرز التضامن مع الفلسطينيّين، الذي لا ينبني على انتماء لدين معيّن، وإنّما على مبادئ كونيّة وعلى توجّه أممي نعبّر عنه بلا عُقد في مواقف أو قضايا أخرى.

المفكرة: هل يمكن أن نفسّر تطوّر السياسة الفرنسيّة إزاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بنزوع الفرنسيّين اليهود أكثر فأكثر نحو اليمين، كما تحدّث عنه الباحث في العلوم السياسيّة فانسون مارتيني؟ هناك على سبيل المثال النائب حبيب ماير، ذو الجنسية المزدوجة الفرنسية الإسرائيليّة، والذي كثيرا ما تقع دعوته في وسائل الإعلام الفرنسي، يدافع بوضوح على التطهير العرقي في قطاع غزّة.

غريش: لا يتعلّق الأمر فقط بالطائفة اليهوديّة. هناك نزعة عامّة في الساحة الفرنسيّة نحو اليمين لأسباب لا علاقة لها بالصراع في فلسطين. يبقى أنّ ذلك يحيلنا أيضا إلى التحوّل الحاصل في 2007، في بداية عهد ساركوزي، حين تحدّث هذا الأخير في خطابه السنوي الأوّل مع السفراء، بشكل متكرّر عن “العالم الغربي”. هذا المصطلح لم يكن موجودًا في الدبلوماسية الفرنسيّة، وهو يعكس انخراطا من النخب بصفة عامّة في اعتبار فرنسا جزءًا من العالم الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبح هناك نوع من الولاء أو التبعيّة لدى هذه النّخب لها. وهو ما نراه اليوم في أوكرانيا مثلا، حيث ترك الأوروبيون للولايات المتحدة إدارة هذا الملفّ. هذا الانخراط في “العالم الغربي” يفسّر التموقع الحالي إلى جانب إسرائيل، التي تصوّر كطليعة الحضارة الغربيّة في الشرق الأوسط، في مواجهة “البربريّة المتوحشة”. وهذه الفكرة كانت حاضرة في الأيديولوجيا الصهيونية منذ البداية. أعتقد أنّ القادة الغربيين يعيشون في عالم مواز. لقد وقع طرد فرنسا من عدّة دول إفريقية وهي بصدد فقدان كلّ مواقعها التقليدية. نحن نعيش حالة من خوصصة السياسة الخارجية الفرنسية من قبل ماكرون ولن يأخذ أحد على محمل الجد تغريداته الجوفاء الأخيرة باللغة العربيّة على تويتر المساندة لحلّ الدولتين.

التحول الحاصل في فرنسا يفسر ليس فقط بعوامل تتعلّق بالسياسة الدوليّة، ولكن أيضا بعوامل داخليّة فرنسيّة. إذ يترافق هذا الانزلاق مع تصاعد الخطاب المعادي للهجرة، التي تصوَّر كغزو ديمغرافي وتهديد لفرنسا و”هوّيتها المسيحيّة”.

المفكرة: في عنوان كتابك الأخير، تحيل عبارة “أغنية حبّ” إلى حادثة معبّرة جدّا، وهي تصريح الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، حين زار إسرائيل، متوجّها إلى نتنياهو، بأنّه، لو أمكنه الغناء، لغنّى نشيد حبّ لإسرائيل وحكّامها. ألا ترمز هذه القصّة لقصّة حبّ طويلة للاشتراكيّين الفرنسيين مع إسرائيل، بالنظر أيضا لقرارهم المشاركة في العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس في 1956؟

غريش: يمكن أن نقول أنّ الاشتراكيّين استرجعوا قصّة حبّ قديمة، ولكن ذلك لم يكن حسب رأيي قارّا وليس أمرا منقوشا في جيناتهم. كانت أيضا هناك فترة أخذ فيها الحزب الاشتراكي مواقف مناصرة للفلسطينيّين، مثلا في 1982 مع اجتياح بيروت، أو في العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينيّة، وغيرها من المواقف. ما يصدمني اليوم، هو العلاقة بين دعم إسرائيل والجناح اليميني للحزب الاشتراكي، ليس فقط في فرنسا، بل كذلك في بريطانيا مثلا مع حزب العمّال. هي نفس المعركة لدفع الأحزاب الاشتراكيّة نحو اليمين ونحو دعم إسرائيل، وما حصل ضدّ جيريمي كوربين مثال بالغ على ذلك. 

المفكرة: العلاقات بين إسرائيل والدول الأوروبية متأثرة بشكل كبير بذاكرة الهولوكوست. كيف يمكن أن نواجه الاستغلال الكولونيالي لهذه الذاكرة، والانحراف بها لتبرير جرائم دولة الاحتلال الإسرائيلي وإنكار الحقّ الفلسطيني في تقرير المصير؟

غريش: هو أمر صعب جدّا. إذ تختلط عناصر كثيرة. أتذكّر، في السنوات الستين، أنّ إبادة اليهود كانت تمثّل في الكتب المدرسيّة للتاريخ بضعة أسطر. ثم أخذ الموضوع شيئا فشيئا أهمّية أكبر، بالنظر إلى مسؤولية فرنسا الخصوصيّة، وأوروبا بصفة عامّة، في هذه الجريمة. ولكن في الوقت ذاته، نحن نرى أيضا الاستغلال السياسي لذلك. حسب رأيي، يجب أن نحافظ على ذاكرة الإبادة، لأنّها جريمة ارتكبناها كأوروبيّين، ولكن مع الحيلولة دون استغلالها. يبقى أنّه، في السياسة، الشعوب المضطهَدة بالأمس يمكن أن تتحوّل إلى شعوب مضطهِدة لغيرها، وهو ما نراه أيضا في رواندا. استغلال إسرائيل لإبادة اليهود لا يجب أن يدفعنا إلى إنكار تلك الجريمة، وهو للأسف توجّه موجود. وفي الوقت ذاته، يجب أن نؤكّد أنّ فلسطين ليست قضية المسلمين أو المسيحيّين أو اليهود، وإنّما هي قضيّة للإنسانيّة جمعاء. لا ينفي ذلك أنّ الناس يتضامنون أيضا بالنظر للروابط العائليّة أو الثقافيّة، ولكن ما يحرّك تضامني أنا مثلا مع الفلسطينيين ليس أسبابا من هذا القبيل، ولا حتّى افتتانا خاصّا بالشعب الفلسطيني أكثر من بقيّة الشعوب. لقد ولّى الزمن الذي كنّا نعتقد فيه أنّ معارك التحرّر الوطني ستحرّر دفعة واحدة الإنسان، وقد رأينا كيف أنّ ذلك لم يقع في الجزائر وفي فيتنام وغيرها، ولن يكون الأمر كذلك في فلسطين أيضا. يبقى أنّ خصوصيّة القضية الفلسطينية هي أنّها آخر المستعمرات المباشرة، وأنّها متواصلة منذ قرن من الزمن، وهي منذ 60 سنة على الأقلّ تحتلّ صدارة القضايا في العالم. الجميع تفاجأ بما حصل في 7 أكتوبر، ولكن بدرجة أولى المسؤولون الأوروبيون الذين اعتقدوا أنّ القضية الفلسطينيّة انتهت وأننا ذاهبون إلى سلام بين إسرائيل والمملكة العربيّة السعوديّة…

المفكرة: حول 7 أكتوبر والموقف منه، هل بإمكانك الرجوع إلى الظروف التي أحاطت بتصنيف السلطات الفرنسية لحماس كمنظمة إرهابية؟ لماذا تم ذلك تحديدا سنة 2002؟  ثم حسب رأيك كيف يمكن الرد اليوم على الاستعمالات السياسية لهذا المفهوم في فرنسا وأوروبا لتكييف ما حصل في 7 أكتوبر، بهدف نزع أية شرعية عن حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال وإضفاء الشرعية على وحشية الحرب على غزة؟

غريش: في الحقيقة أثار إدراج حماس على قائمة المنظمات الإرهابية من قبل الاتحاد الأوروبي في تلك الفترة الكثير من الجدل. كانت فرنسا حينها مقتنعة بأنه من الأفضل أن تكون قادرة على التواصل مع حركة المقاومة الإسلامية، فسعتْ إلى فصلها عن جناحها العسكري أي كتائب عز الدين القسام، التي كانت مدرجة بالفعل في القائمة، تماما كما تمّ فصل كتائب شهداء الأقصى عن فتح. لكن انتهى الأمر بفرنسا للاستسلام لضغوط شركائها، في حين امتنعت في المقابل عن إدراج حزب الله في هذه القائمة، بوصفه تنظيما سياسيّا ممثلاً في البرلمان. لكنّ لا الأمر يتعلّق فقط بقائمة المنظمات الإرهابية التي يضعها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية. فحماس ليست موجودة على أية قائمة أخرى في العالم. ونرى اليوم أنّ حماس تُستقبل في روسيا ولها علاقات مع الدول العربية بعضها جيد والبعض الآخر متوتر.

من جهتي، أرى أنّ تبنّي قائمات لتصنيف منظمات على أنّها إرهابية، فكرةٌ غبيّة. إذ ليس هناك “منظمات إرهابية”، بمعنى أنّها قائمة على أيديولوجيا إرهابية. إنما هناك منظمات اشتراكية، شيوعية، اشتراكية ديموقراطية، فاشية أو مسيانية، الخ، لها أهداف بعينها لكنّ “الإرهاب” ليس هدفا بذاته بل وسيلة. فالإشكال مع مفهوم “المنظمات الإرهابية” كما وضعه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة هو اعتباره هذه المنظمات تجسيدًا للشرّ المطلق، مما يحتّم عدم محاورتها. وعليه فإننا لن نحاور حماس لا بل سنقاطعها على الرغم من فوزها في الانتخابات في غزة. تماما كما لم نحاورْ سابقا جبهة التحرير الوطني في الجزائر لأننا اعتبرنا أنّها قامت بعمليات إرهابية. في سياق نضالات التحرر الوطني، تم تصنيف جلّ الحركات المنخرطة في ذلك على أنّها إرهابية، ثم انتهى بنا الأمر للتفاوض معها. فإذا تصورنا اليوم أنّه من الممكن الانقضاض على حركة حماس التي تمثل 40% من الشعب الفلسطيني فإننا واهمون تماما.

ثم إذا ما اعتمدنا على تعريف “الإرهاب” بأنّه يشمل العمليات العسكرية التي تستهدف المدنيين والتي تُصنّف حسب التعريف القانوني في خانة جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، حينها يمكن اعتبار أنّ ما وقع يوم 7 أكتوبر يحتوى على بُعدٍ إرهابي بمعنى أنّه، حسب ما روّج له، هناك جريمة تستوجب المثول أمام المحاكم. لكن لا يمكن الاكتفاء بهذا، فمن بين القتلى الإسرائيليّين في العمليّة، هناك على الأقلّ 300 جندي، وعليه لا يمكن اعتبارها مجرد عملية إرهابية. ومع ذلك حتى ولو افترضنا أننا أمام “عملية إرهابية” فإنّه من الضروري المناداة كذلك بإحالة القادة الإسرائيليين على المحاكم. إذ لا يمكن اعتبار قتل الفلسطينيين للمدنيين الاسرائيليّين عملا مشينًا، وفي نفس الوقت نبارك قتل الإسرائيليين للمدنيين الفلسطينيين.

شخصيا يمكن أن أقبل اعتبار تصنيف بعض عمليات المقاومة في خانة “الإرهاب” لكنّ هذا الأمر يستدعي منا التفكير حيث لا توجد حركة تحرير وطني في التاريخ، بما فيه حزب المؤتمر الإفريقي في أفريقيا الجنوبية، لم تقم “بعمليات إرهابية” وأنا هنا طبعا لا أعني الكفاح المسلح، بل أتحدث عن عمليات من نوع وضع متفجرات تستهدف قتل مدنيين، ورغم ذلك انتهى الأمر إلى التفاوض مع هذه الحركات.

لكنّ الأهمّ هو أن نفهم ما الذي حدا مثلا بحزب المؤتمر الإفريقي إلى اللجوء بشكل هامشي جدا إلى استعمال سلاح الإرهاب؟ الجواب يحيل إلى أنّ حزب مانديلا كان يحظى بمساندة البلدان الاشتراكية وكان مسلّحا ومدرّبا من طرفها كما كان يحظى بمساندة كلّ حركة عدم الانحياز كما كانت هناك حركة مقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض عقوبات عارمة، لم يتجرأ أي طرف على تجريمها في ذلك الوقت. كما يذكر أنّ الكوبيين قاتلوا آنذاك في أنغولا في مواجهة جيش إفريقيا الجنوبية.

حين تكون هناك آفاق سياسية ودبلوماسية يكون هناك مجال لشيء آخر غير العنف، لكن حين يغيب ذلك تتغير المعادلة. فجبهة التحرير الوطني في الجزائر التجأت في بداية المقاومة كثيرا إلى عمليات وضع المتفجرات في المقاهي والسبب في ذلك يعود كما لخصه التصريح الشهير للمجاهد الجزائري الحبيب بن مهدي حين تمّ إيقافه من طرف الجيش الفرنسي وسؤاله عن ذلك “أعطوني طائراتكم الميراج وأنا مستعدّ لتسليمكم سلاّتنا التي نضع فيها المتفجرات”.

المفكرة: كيف تقيّم تعامل الإعلام الفرنسي السائد مع الحرب وكيف تفسّر انحيازه شبه الكامل للسردية الإسرائيلية كما اتضح بشكل مفضوح في قصة “ذبح الأطفال الرضع” او اتهام حماس بالضلوع في قصف مستشفى المعمداني أو تهميش الأصوات الداعية لوقف الحرب؟

غريش: حقيقة وبالرجوع إلى كلّ تجربتي في فرنسا لم أعرف فترة ساد فيها الرأي الأوحد المفروض من قبل السلطة والإعلام بهذا الشكل. حتى خلال الحرب على العراق في 1990-1991 والتي ساهمت فيها فرنسا مباشرة، كانت هناك أصوات مهمة مندّدة بالحرب تمّ استدعاؤها من قبل الإعلام لتعبّر عن موقفها. طبعا إذا أمعنّا النظر نجد أنّه تم فتح المجال لبعض الوجوه المعارضة في الإعلام الفرنسي، لكن في الحقيقة لم يسمح لها فعليا بالتعبير عن وجهة نظرها وووجِهت وبشكل آلي بالسؤال إن هي “تعتبر حماس منظمة إرهابية أم لا”. والإجابة بالنفي عن هذا السؤال تنزع فعليا الحقّ في في التعبير عن موقفنا. والأمر يتعدى ذلك في الحقيقة، ففي فرنسا تمنع المظاهرات المساندة لفلسطين وهو ما لم نرَ مثيلا له منذ حرب التحرير في الجزائر. كما يتمّ إيقاف المواطنين الذين يتجرؤون على وضع الكوفية الفلسطينية بالرغم من أنّه أمر لا تُجرّمه القوانين الفرنسية، ويتمّ تهديد المقيمين الأجانب بانتزاع بطاقات إقامتهم وطردهم من فرنسا إن هم جاهروا بمساندة الفلسطينيين. كما تمّ استدعاء بعض الجامعيين على إثر نشرهم لتغريدات على تويتر مساندة للفلسطينيين، وهي كلها أشياء مثيرة جدّا للقلق خلقت أجواءً من الخوف جعلت كثيرين يمتنعون عن التصريح بموقفهم وهو ما عزز احتكار الرأي. الاستثناء الوحيد هي وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني حيث توجد سردية مغايرة. ونحن في “أوريون 21” نُحسّ بذلك حيث تضاعف عدد الزائرين لموقعنا بأربع أو خمس مرات لأننا نقدّم خطابا مغايرا. وكما أصرّح بذلك دائما أنا لا أطالب وسائل الإعلام الأخرى بتبنّي خطابي، بل أطالب فقط بأن يكون هناك تعدّد حقيقيّ للآراء. ومن المفارقة بمكان أنّه وفي بلد تظاهر فيه الملايين تحت راية “أنا شارلي” دفاعا عن حرية التعبير تصادر فيه اليوم حرية التعبير للآخرين.

لماذا هذا التموقع من قبل الإعلام المهيمن؟ أظنّ أنّ الأسباب كثيرة، منها ما هو سياسي، باعتبار مواقف الحكومة الفرنسية، وأيضا الكيفية التي تمّت بها السيطرة السياسية على الإعلام. إن وزن صاحب الأعمال فانسون بولوري في الإعلام الفرنسي ليس بالأمر الهين اليوم. فخوصصة الإعلام وبالخصوص الإعلام المرئي لها تبعاتها على مستوى المحتوى والخط التحريري. [2] وهو ما يبعث على الاستهزاء في العالم العربي، حيث لا يتمتع الإعلام بالحرية. لكن حين يرى العرب ما تعنيه حرّية الصحافة في فرنسا اليوم فمن حقهم أن يرفضوا هكذا “حرية”.

المفكرة: لو نغادر قليلا فرنسا ونذهب إلى بلدك الثاني مصر، كثيرة هي الدراسات الأكاديمية التي حلّلت وبينت الترابط بين الحراك الثوري سنة 2011 في مصر الذي أطاح بمبارك والاحتجاجات المساندة للانتفاضة الثانية أو للعدوان على العراق. ألا تعتقد أنّ الحرب على غزة باعتبار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعيشها مصر من شأنها أن تضعف نظام الجنرال السيسي وتحيي النشاط الاحتجاجي في مصر؟

غريش: في الحقيقة علمتني تجربتي السياسية الطويلة تفادي التنبؤات. لكن إلى حدّ الساعة أعتقد أنّ النظام المصري نجح في إدارة الأزمة. فهو يستند على الحسّ القومي المصري ليعلن رفضه، وهو محق في ذلك، لاستقبال فلسطيني غزة وتوطينهم في سيناء لأنّ ذلك يعني بالتأكيد نكبة جديدة. وبالتوازي يسمح بخطاب إعلامي مساند للفلسطينيين كما أيضا بتنظيم مسيرات مساندة للسيسي وللفلسطينيين في نفس الوقت. حتى وإن حصلت بعض التجاوزات في ميدان التحرير حيث تمّ رفع شعارات ثورة 2011 لكنّ الأمر بقي محدودا.

طبعا لا يمكن التنبؤ بارتدادات الحرب في المستقبل. يبقى أنّ الكارثة التي يواجهها النظام والتي لم يجد لها حلاّ هي اقتصادية بامتياز. وأنا شخصيّا أرجّح حصول انتفاضة اجتماعية عفوية على شاكلة ما حصل في 1952 حين حُرقت القاهرة، باعتبار عمق استئصال كل أشكال الاحتجاج المنظمة والمعارضة في مصر. مع ذلك فإنّ السلطة لم تعدْ قادرة على السيطرة المحكمة على كلّ الفضاءات في مصر، فقد رأينا كيف خسرت معركة نقابة الصحفيين وهو ما كان غير ممكن في الماضي خصوصا وأنّ رئيس النقابة الحالي معارض حقيقي للنظام. بعض المؤشرات تدلّ على تراجع في إحكام السيطرة لكنّ ذلك ليس كافيا حاليا لخلق حراك. فقبل 2011 كان بالإمكان القول أنّنا نأمل حصول شيء ما حتى تتغير الأوضاع، الآن حصل ما كنا نتمناه لكن الأمر لم ينجح. ومن الصعب القول أنّنا سنعيد نفس التجربة. فنحن لا نعرف ما الذي يمكن فعله.

المفكرة: السؤال الذي يبقى مطروحا هو ما هو هدف إسرائيل من الحرب على غزة؟ فهم يعرفون جيدا كما كان الحال مع حزب الله في 2006 أنهم لن يستطيعوا اجتثاث حماس.

غريش: صراحة أعتقد أنّهم هم أنفسهم لا يعرفون. سنة 2006 كان لهم هدف عسكري واضح. أمّا اليوم فمن المؤكّد أنّ القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل لا هدف واضح لها. خصوصا وكما يبدو فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما لم يحصل بتاتا في الماضي، أصبحت تسيطر بشكل ما على القرار الإسرائيلي. ففيما مضى سعى الإسرائيليون وإن اعتمدوا على الولايات المتحدة كحليف استراتيجي، إلى اعتبار أنفسهم كمسؤولين أولين عن الدفاع عن كيانهم. لكنّ اليوم يبدو بايدن وإن أكد دعمه اللامشروط لإسرائيل، حريصًا على الإعلان عن بعض الحدود. بالإضافة إلى ذلك، هناك نقاش داخل القيادات الاسرائيلية عن جدوى إعادة الانتشار في غزة. مع ذلك فإنّهم قادرون على المضيّ في مشروع نكبة جديدة، سيصعب تحقيقها في ظل الرفض المصري لتوطين الفلسطينيين في سيناء.

الأمريكيون يتساءلون في حال إجهاز إسرائيل على المقاومة، أي تصفية قيادة حماس، على اعتبار أنّ هذه الفرضية ممكنة، وإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في غزة، كيف سيتمّ السيطرة على مليوني ونصف فلسطيني فيها؟ ومن سيعهد له بذلك؟ سيما وأنّ السلطة الفلسطينية منزوعة الشرعية غير قادرة على لعب هذا الدور.

 ثم هناك كذلك من الجانب الإسرائيلي تخوفات عسكرية حقيقية. إذ أن قدرات الجيش الإسرائيلي البرّية ليست بالمتألقة. وقد رأينا ذلك في حرب 2006 وحتى في حرب 2014 على غزة. فهم يمتلكون تقنيات متطورة جدا تضمن تفوقهم في القصف. لكن اجتياحًا بريّا لغزة يعني معارك في مناطق حضرية. هناك مسؤولون أمريكيون بصدد تحذيرهم مما وقع للجيش الأمريكي في الفلوجة ومدن أخرى حيث واجهوا كابوسًا حقيقيا. وستكون غزة بالتأكيد كابوسا للجيش الإسرائيلي. لذلك هم مترددون في الشروع في اجتياح شامل عدا ما تطرحه مسألة الرهائن الإسرائيليين من تعقيدات.

أعتقد أنّ اسرائيل تسلك سياسة ربح الوقت. فيقوم جيشها ببعض الاختراقات للادعاء بأنهم بصدد الفعل. هناك تروما حقيقية داخل المجتمع الإسرائيلي جراء عملية 7 أكتوبر، لربما هي أقوى من تلك التي ولدتها حرب 1973 حين باغتت مصر وسوريا إسرائيل. هناك اليوم وعي بضعف إسرائيل وعجزها باعتبارها أصبحت المكان الأقلّ أمنا لليهود بعد أن ادّعت فيما مضى أنّها الضامنة الوحيدة لأمنهم.

لماذا هذا التموقع من قبل الإعلام المهيمن؟ أظنّ أنّ الأسباب كثيرة، منها ما هو سياسي، باعتبار مواقف الحكومة الفرنسية، وأيضا الكيفية التي تمّت بها السيطرة السياسية على الإعلام. فخوصصة الإعلام وبالخصوص الإعلام المرئي لها تبعاتها على مستوى المحتوى والخط التحريري.

المفكرة: كيف ترى الوضع الداخلي في إسرائيل اليوم باعتبار وقع الحرب خصوصا وأنّ عديد الملاحظين يعتقدون أنّ نتنياهو قد انتهى وسيسقط لا محالة بعد الحرب على غزة؟

غريش: الوضع في إسرائيل متحرك جدا ويصعب التكهّن بما سيحصُل مستقبلا. في الماضي تنبأنا مرارا بموت نتنياهو، لكنه رجع من جديد في كلّ مرة. ليس هناك في إسرائيل من يقترح بديلا عن سياسته اليوم. فقبل أن يربح الانتخابات، لم يكن من حكموا قبله أحسن منه. وقد قتل في عهد تلك الحكومة أكبر عدد من الفلسطينيين في الضفة منذ 2005، كما تواصلت سياسة الاستيطان. الفارق الوحيد أننا اليوم أمام مسؤولين فاشيين بشكل علني، عنصريين وحاملين لأيديولوجية التفوق العرقي لليهود كبن غفير (Ben Gvir) وغيرهم.

هناك في إسرائيل بعض الأصوات الشجاعة التي يجب أن تستند على فلسطينيي 1948. بالتأكيد فإنّ التروما التي أصابت الإسرائيليين ستحتاج لوقت حتى يتم تجاوزها. وربما ستساهم في تغيير سياسة إسرائيل لما هو أسوأ، خصوصا حين نرى اليوم بن غفير وأتباعه يوزّعون الأسلحة على المستوطنين في الضفة والذين يتراوح عددهم بين 700 إلى 800 ألف مستوطن، ونتيجة ذلك ارتفاع عدد القتلى الفلسطينيّين في الضفة وما يستهدفهم من جرائم هي أشبه بالبوغروم.

المفكرة: هل ترى أنّ المظاهرات والتعبئة الجارية في الدول الغربية مثل بريطانيا والولايات المتحدة من أجل وقف إطلاق النار وضدّ حرب الإبادة الإسرائيلية العرقية في قطاع غزّة، هي بصدد الضغط على حكومات هذه البلدان لتغيّر بعض الشيء من ميزان القوى لصالح الفلسطينيين؟ وهل تتلمس بعضا من ذلك مثلا في اللائحة التي تبناها الاتحاد الأوروبي من أجل هدنة إنسانية؟

غريش: حتى في فرنسا هناك تعبئة، فالتجمّع الذي نظّم في ميدان الجمهورية في باريس كان أكبر حراك جماهيري مساند للفلسطنيّين شهدناه منذ حرب 2014 على غزة. هناك اليوم هوّة حقيقية بين سردية الإعلام المهيمن والرأي العامّ في البلدان الغربية. ولا شكّ أنّ تمادي إسرائيل في حربها الوحشية سيدفع إلى تصاعد أصوات أخرى جديدة. كما يجب الثناء على أصوات المنظمات غير الحكومية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس واتش وغيرها… ولكنّ المعركة صعبة جدّا. فبرغم مختلف الهزّات التي عرفها الشرق الأوسط، بما فيها الحروب الستّة التي على غزة منذ 2006، نحن اليوم أمام حرب مختلفة بالكامل. عملية 7 أكتوبر حتى لمن ينتقدها أخلاقيا، وضعت من جديد في الصدارة القضية الفلسطينية وهو ما يتفق عليه الأوروبيون أنفسهم.

ومن المهمّ هنا الوقوف على خطاب بايدن الذي أكد فيه بشكل لافت أنّه حال انتهاء الحرب، سيتم تنظيم مؤتمر ويجب انهاء الاحتلال وتبنّي خيار الدولتين. طبعا لن يتم ذلك لكن من الواضح أنّ هناك شعور بضرورة الإعلان عن بعض الإجراءات. وكما ذكرت فإنّ الهدنة الإنسانية التي تبنّاها الاتحاد الأوروبي تعكس هذا الحرج نفسه.


[1] يمكن الاطلاع على تغطية موقع Orient XXI للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي عبر هذا الرابط.

[2] ولد سنة 1914 في القاهرة واغتيل يوم 4 ماي 1978 في باريس. أسّس الحركة المصرية للتحرير الوطني، وهو تنظيم شيوعي، قبل أن يطرده الملك فاروق سنة 1950. أسس في ستينات القرن الماضي حركة التضامن لدعم كفاح الشعوب من أجل استقلالها.


انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، منظمات دولية ، الحق في الحياة ، مقالات ، تونس ، فلسطين ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، إعلام ، فرنسا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني