“
بتاريخ 4 يوليو، قضت محكمة النقض المصرية[1] بإلغاء قرار إدراج نجم كرة القدم المعتزل محمد أبو تريكة و1537 شخصًا على قوائم الإرهابيين[2] إلا أن ذلك ليس نهاية المطاف أمام أبو تريكة والآلاف غيره. ففي اليوم التالي للنطق الحكم، الخميس، صدر قرار رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة التحفظ والتصرف في أموال الإرهابيين[3] تفعيلًا للقانون الصادر في إبريل 2018[4]. والغرض من هذا القانون، حسب مذكرته الإيضاحية، هو تنظيم الإجراءات القانونية اللازمة للتحفظ على أموال جماعة الإخوان الإرهابية بموجب الحكم الصادر من محكمة القاهرة للأمور المستعجلة في سبتمبر 2013، بحظر أنشطة الإخوان المسلمين، والتحفظ على جميع أموالها والأموال المملوكة للأشخاص المنتمين إليها[5].
وبموجب نصوص هذا القانون، أُنشئت لجنة تشكل من سبعة قضاة بمحاكم الاستئناف[6]، تختص باتخاذ إجراءات تنفيذ الأحكام الصادرة من “القضاء المدني” باعتبار جماعة أو شخص ينتمي إلى جماعة إرهابية. ومن بين هذه الإجراءات، حصر الأموال والتحفظ عليها وإدارتها، والتصرف فيها[7]. وأوجب القانون على اللجنة أن تعرض أمر التحفظ على الأموال على قاضي الأمور الوقتية لإصدار أمر “وقتي” مسبب بشأنه، ويكون نافذًا فور صدوره. ويكون التظلم من هذا الأمر أمام محكمة القاهرة للأمور المستعجلة، واستئنافه أمام محكمة استئناف الأمور المستعجلة، ومن ثم يعد حكمها نهائيًا، وغير قابل للطعن عليه[8] أمام محكمة النقض. وإذا تطرق حكم التحفظ إلى مسألة التصرف في المال المتحفظ عليه، فيحق للجنة أن تطلب من قاضي الأمور المستعجلة مصادرة الأموال-المتحفظ عليها-لصالح الخزانة العامة للدولة[9].
ومن اللافت للنظر حول أحكام هذا القانون، أنه خرج على القواعد المستقرة في النظام القضائي المصري، في سبيل القضاء نهائيًا على ضمانات الحق في الملكية الخاصة، وهو ما نحاول إلقاء الضوء عليه من خلال هذا المقال.
إبعاد القاضي الجنائي عن اختصاصه الطبيعي
الوجه الأول: القاعدة المستقرة في النظام القضائي المصري، هي اختصاص القضاء الجنائي بالفصل في ارتكاب الجرائم الجنائية، كما يختص القضاء المدني بنظر المنازعات الحقوقية المدنية. واستثناء من هذا الأصل يمكن اللجوء للقاضي الجنائي للفصل في الحقوق المدنية في ظرف واحد، وهو طلب التعويض عن ضرر نشأ عن جريمة[10]. وفي هذه الحالة تنظر المحاكم الجنائية الدعوى المدنية مع الدعوى الجنائية. ومن ثم، لم يكن في منظومة التقاضي في مصر طوال تاريخها أي اختصاص للقاضي المدني للنظر في جرائم جنائية.
وعلى خلاف المستقر عليه، جاء قانون التحفظ والتصرف في الأموال ليمنح القاضي المدني اختصاصا بنظر مدى انتماء أو انضمام شخص إلى جماعة إرهابية، وإصدار أحكام نهائية في هذا الشأن. وهو ما يمثل في حقيقة الأمر جريمة جنائية[11]، يختص بالفصل في مدى وقوعها وترتيب عقوبتها القضاء الجنائي وحده، باعتباره صاحب الولاية العامة-دون غيره من جهات القضاء الأخرى-بالفصل في كافة الجرائم، وهو أصل عام لا يرد عليه أي استثناء. ويكون القانون حين نقل الاختصاص بنظر الجريمة المُشار إليها، من القضاء الجنائي، وهو قاضيها الطبيعي، إلى قاضٍ آخر بالقضاء المدني، قد أدخل بدعة على أبجديات النظام القضائي المصري.
الوجه الثاني: ومن المستقر قانونًا أيضًا، أن قضاء الأمور المستعجلة وإن كان يختص في بعض الأحوال الاستثنائية[12] بنظر منازعات فرض الحراسة على الملكية الخاصة أو التحفظ عليها لتوافر حالة الاستعجال في مثل هذه المنازعات، وبوصفها محض إجراء تحفظي مؤقت، لا يمس أصل الحق في الأموال الخاضعة للحراسة أو التحفظ؛ وفقاً لأحكام القانون المدني[13]. إلا أنها وفي جميع جوانبها يكون القصد منها تحقيق “مصالح خاصة” في إطار من قواعد القانون الخاص، وأمام قاضيها الطبيعي وهو قاضي المنازعات المدنية.
وعلى الجانب الآخر، فإن وضع الأموال الخاصة تحت الحراسة أو التحفظ عليها أو منع مالكيها من التصرف فيها، حين يفرض في مواجهة أشخاص، توافرت “أدلة” على ضلوعهم في جرائم جنائية ومنها الانتماء إلى جماعات إرهابية يكون لسببين. من جانب أول، يكون لضمان السيطرة بداية على مصادر تمويل تلك الجماعات كتدابير احترازية. ومن جانب ثان لضمان ما عسى أن يقضى به من غرامة، أو رد، أو تعويض، أو مصادرة، كعقوبات تكميلية في مواجهة أموال هؤلاء الأشخاص. وبالتالي، فإن ذلك بالقطع يقصد منه تحقيق “مصلحة عامة” للمجتمع، داخل إطار القانون العام، وهي بذلك حراسة يختلف الغرض من فرضها كلية مع الحراسة المتفرعة من المنازعات المدنية.
وبإخراج هذا الأمر من اختصاص القاضي الجنائي-قاضي القانون العام- وإسنادها إلى قاضي الأمور المستعجلة-قاضي القانون الخاص- يكون القانون قد سلب اختصاصًا أصيلًا من القاضي الجنائي بفرض التدابير الاحترازية مثل التحفظ على الأموال، وكذلك توقيع العقوبات التكميلية كمصادرة المال المستخدم في/أو المتحصل من جريمة.
مصادرة الأموال بحكم نهائي من قاضٍ يصدر أحكامًا مؤقتة
كما أسلفنا، يحكم قاضي الأمور المستعجلة بصفة مؤقتة، في الأمور التي يخشى عليها من فوات الوقت، عند قيام حالة الاستعجال، شريطة عدم المساس بالحق[14]. وتقديره-خطأ كان أم صوابا- وقتي، لا يفصل في أصل الحق المتنازع فيه، إذ يبقى محفوظًا سليمًا يناضل فيه ذوو الشأن أمام الجهة المختصة، لكون حكم قاضي الأمور المستعجلة لا حجية له أمام محكمة الموضوع[15]. وعليه، فإن إسناد أمر الفصل في مصادرة أموال الأشخاص-المتحفظ على أموالهم من قبل ذلك- لقاضي الأمور المستعجلة، يُعد مساسًا بأصل الحق في الملكية الخاصة من قاض غير مختص؛ وينتهك شروط المحاكمة العادلة.
وضع الأموال تحت التحفظ دون حكم قضائي
أتاح القانون استصدار أمر “وقتي” بالتحفظ على أموال الأشخاص، وهو بطبيعته يصدر في غيبة من الخصوم[16]، وهو الأمر الذي يخالف الحماية الدستورية المقررة للملكية الخاصة، من وجوب استصدار حكم قضائي حال التحفظ عليها أو وضعها تحت الحراسة[17]. وهو الأمر الذي أكدت عليه المحكمة الدستورية العليا حينما قررت أنه لا يكفي لفرض الحراسة على الأموال الخاصة مجرد أمر على عريضة يصدر في غيبة الخصوم، بل يكون توقيعها فصلاً في خصومة قضائية تقام وفقًا لإجراءاتها المعتادة، وتباشر علانية في مواجهة الخصوم جميعهم[18].
مصادرة عامة محظورة للأموال
من ناحية أخرى، فإن وضع الأموال الخاصة تحت الحراسة أو التحفظ عليها، بحسب طبيعتها، يفرض كإجراء وقائي مؤقت، أو كتدبير احترازي. وبالتالي فإنها تشمل جميع صور وعناصر الملكية الخاصة للذمة المالية للشخص المتحفظ على أمواله، لرفع يده عن التصرف أو التعامل عليها. أما المصادرة فهي نوعان، الأولى تتناول العناصر الإيجابية لكامل الذمة المالية؛ وهي بذلك تعد مصادرة عامة للأموال حظر الدستور توقيعها حظرًا مطلقًا. والثانية تكون مصادرة خاصة، التي يكون محلها شيء أو أشياء معينة بذواتها، تلك التي أجاز الدستور توقيعها بحكم قضائي[19].
ويلاحظ أن هذا القانون قد أورد تعريفًا عامًا للأموال[20] يشمل جميع أنواع وأشكال الملكية الخاصة، بما يعني أن القانون قد دمج بين المال محل التحفظ والمصادرة. وذلك في حين أن المصادرة يجب أن تقتصر هنا، وفي حدود فلسفة هذا القانون، على الأموال التي استخدمت في ارتكاب جريمة الانتماء لجماعة إرهابية أو التي استحصلت بفعلها، وهو ما تخطاه القانون. وهو الأمر الذي يعني أن القانون يجيز مصادرة كل المال المتحفظ عليه دون التفرقة بين الجزء “المشروع” و”الغير مشروع” منه؛ وبالتالي رتب مصادرة عامة للملكية الخاصة حظر الدستور توقيعها.
ختام: الغاية الحقيقة المستترة وراء إصدار القانون
بعد إجالة البصر فيما أدخله هذا القانون من بدع على النظام القضائي، وما أتى به من تجاوز للمحظورات الدستورية، يسهل علينا استخلاص غاية أخرى مستترة من وراء إصدار هذا القانون بخلاف تلك المُعلنة، وهي إبعاد محاكم مجلس الدولة، والجنايات المراقبة من محكمة النقض (الدوائر الجنائية)، عن ملف قضايا التحفظ على الأموال بعد مرور أربع سنوات صدر خلالها العديد من الأحكام ببطلان إجراءات التحفظ. بالإضافة إلى نقل الاختصاص بنظر جميع منازعات ملف التحفظ على الأموال إلى محكمة الأمور المستعجلة، ووضع آجال قصيرة لإصدار أحكام باتة فيها[21]، وإلغاء رقابة المحاكم العليا كمحكمتي النقض والإدارية العليا. وأخيرًا إسدال الستار عن مآل هذه الأموال بمصادرتها نهائيًا. وفي سبيل الوصول إلى هدم الحق في الملكية الخاصة بمصادرتها وهي غاية فاسدة، جاءت الوسيلة وهي نصوص هذا القانون، بتشويه نظام التقاضي المصري كلية.
[1] حكم محكمة النقض الصادر في الطعن رقم (2) لسنة 87 قضائية، بجلسة 4 يوليو 2018.
[2] للقراءة حول قانون قوائم الإرهاب: أحمد حسام “الإدراج على قوائم الإرهاب في مصر: نصوص ملتبسة وتفسيرات مضطربة وعدالة ضائعة” المفكرة القانونية 12-4-2018
[3] قرار رئيس الجمهورية رقم (290) لسنة 2018.
[4] القانون رقم (22) لسنة 2018 بتنظيم إجراءات التحفظ والحصر والإدارة والتصرف في أموال الجماعات الإرهابية والإرهابيين. نُشر بالجريدة الرسمية في 21 إبريل 2018.
[5] الحكم الصادر من محكمة القاهرة للأمور المستعجلة في الدعوى رقم 2315 لسنة 2013، بجلسة 23 /9 /2013.
[6] يصدر قرار بتشكيل أعضائها من رئيس الجمهورية بناء على ترشيح وزير العدل، وبعد موافقة مجلس القضاء الأعلى.
[7] المواد 1، و2، و3 من القانون رقم (22) لسنة 2018.
[8] المواد 5، و6 من القانون رقم (22) لسنة 2018.
[9] المادة 11 من القانون.
[10] حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم 19 لسنة 8 قضائية، تاريخ الجلسة 18-4-1992، وحكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم 52 لسنة 27 قضائية، تاريخ الجلسة 3-3-2013.
[11] قانون العقوبات المصري رقم (58) لسنة 1937 بالباب الثاني من الكتاب الثاني “الجنايات والجنح المضرة بالحكومة من جهة الداخل”، وكذلك قانون مكافحة الإرهاب رقم (94) لسنة 2015.
[12] تراجع المادة (45) من قانون المرافعات المدنية والتجارية رقم (13) لسنة 1968.
[13] المادتان (336، و337)، والمواد من (729 إلى 738) من القانون المدني رقم (31) لسنة 1948.
[14] مثل دعوى إثبات الحالة (المادة 133 من قانون الإثبات)، ودعوى سماع شاهد (المادة 96 من قانون الإثبات)، والمنازعات الوقتية في التنفيذ (المادة 312 من قانون المرافعات)، يراجع في ذلك الوسيط في قانون القضاء المدني-د/ فتحي والي، طبعة 2009، صفحة 129.
[15] يراجع أحكام محكمة النقض المصرية (الدائرة المدنية) في الطعن رقم 3929 لسنة 61 قضائية، تاريخ الجلسة 5-4-1997، والطعن رقم 243 لسنة 20 قضائية، تاريخ الجلسة 20-12-1951، والطعن رقم 146 لسنة 28 قضائية، تاريخ الجلسة 20-12-1962.
[16] يراجع حكم محكمة النقض (الدائرة المدنية) في الطعن رقم 450 لسنة 48 قضائية، بجلسة 18-12-1978.
[17] المادة (35) من الدستور تنص على أن “الملكية الخاصة مصونة، وحق الإرث فيها مكفول، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون، وبحكم قضائي، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل يدفع مقدماً وفقاً للقانون”.
[18] حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم 26 لسنة 12 قضائية بجلسة 5-10-1996.
[19] المادة (40) من الدستور نصت على أن: “المصادرة العامة للأموال محظورة. ولا تجوز المصادرة الخاصة، إلا بحكم قضائي”.
[20] ورد بالمادة (1) من القانون تعريف الأموال بأنها: الأموال: جميع الأصول أو الممتلكات أيا كان نوعها سواء أكانت مادية أو معنوية ثابتة أو منقولة بما في ذلك المستندات والعملات الوطنية أو الأجنبية أو الأوراق المالية أو التجارية والصكوك والمحررات المبينة لكل ما تقدم، وأيا كان نوعها أو شكلها بما في ذلك الشكل الرقمي أو الإلكتروني وجميع الحقوق المتعلقة بكل منها.
[21] لقراءة أوسع حول ملف التحفظ على الأموال في مصر، راجع:
محمد بصل “واقع قانوني جديد لملف التحفظ على أموال الإخوان” الموقع الإلكتروني لجريدة الشروق 24-4-2018، ومحمد عادل سليمان “استخدام التشريع للالتفاف على أحكام القضاء في مصر: التحفظ على أموال الإخوان نموذجًا” المفكرة القانونية 23-4-2018.
“