“
الساعة تُشير إلى الواحدة بعد الزوال، هدوء يفرضه الجو الحار لمنطقة “ولاد عياد”، قريبا من مدينة بني ملال وسط المغرب، وصمت يخترقه قيل وقال، روايات ونقيضها، اتهامات تلتطم باتهمات، كبحر لُجي يضيع فيه الباحث عن الحقيقة. والخلاصة فتاة قاصر تُدعى خديجة، غابت عن منزل أسرتها لمدة أسبوعين، وعادت بجسد مُشوه، انتشرت في كل أجزائه الوشوم، ولسان يروي حصصاً طويلة من التعذيب النفسي والجسدي، والاغتصاب الجماعي من طرف 15 شابا.
رواية خديجة وأسرتها، ليست الوحيدة، بل هُناك من يقول إنها مُجرد “كاذبة”، ويتحدثون عن إدمانها المُخدرات بشتى أنواعها، وأن الوشوم المنتشرة في كُل أرجاء جسدها ليست جديدة، وأنها رُسمت بطلب منها في وقت سابق.
“المفكرة القانونية”، حلت بمنزل الفتاة، وتنقلت بين أزقة المنطقة وحواريها، واستقت مُختلف الروايات، كما وقفت على جهود حُقوقيين ونشطاء، تطوعوا لمساعدة خديجة على التخلص من الثقل النفسي للحادثة، وأيضا لمحو بعض من علامتها على جسدها الصغير.
اختطاف، اغتصاب، تذعيب وتشويه..
في غرفة صغيرة، حيطانها مُرقعة غير مطلية بلون موحد. يُغطي أرضها “حصيرة” بلاستيكية رديئة الجودة، لا أرائك فيها، ولا أفرشة، ما عدا “زرابي” تقليدية وُزعت على جنباتها، يجلس فوقها الضيوف وأهل الدار نهارا، وفي الليل، تتحول لأسرة تحتوي عظام ساكني المنزل..
زاوية ضيقة، من منزل عشوائي مهترئ، اتخذتها خديجة مجلساً لها، تضم إلى صدرها ساقيها النحيلين، وتُحكم قبضتها عليها بيدين أكثر نحافة، ولا تنبس ببنت شفة، ما عدا عينين تُحملقان في الفضاء المحيط بها، وتتفحصان الزوار المتوافدين على منزل والديها. وغير بعيد منها أمها ووالدها، يحكيان تفاصيل ما وقع، بحسب روايتها.
تقول خديجة، البالغة من العمر 17 سنة، إنها تعرضت للاختطاف تحت تهديد السلاح، في الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان، ليتم اقتيادها نحو منطقة تنمو فيها أشجار الزيتون، وغير آهلة بالسكان، شبيهة بالغابة.
وتحكي خديجة في تصريح للمفكرة القانونية، أنها وبينما كانت تلهو أمام منزل خالتها بمنطقة “ولاد عياد”، وسط المغرب، فاجأها أشخاص يحملون أسلحة بيضاء، ويمتطون دراجة نارية. موضحة أنهم اقتادوها غصباً إلى مكان تناوب فيه على اغتصابها 15 شابا.
وقالت: “بقيت محتجزة في الخلاء طيلة شهرين، إذ تناوبوا على اغتصابي، وقاموا بافتضاض بكارتي، كما منعوا عني الأكل والشرب، بالإضافة إلى إجباري على تناول المخدرات”، مشيرة إلى أنهم قاموا بضربها وتعذيبها، خاصة حينما اكتشفوا ذات يوم أنها كانت تخطط للهرب.
وأوضحت أنها في أحد الأيام استيقظت والألم يعم معظم سطح جسدها الذي كان مُنتفخا بحسب قولها، لتكتشف لاحقا أنهم “قاموا بوشم الكثير من الرسومات غير المفهومة، بالإضافة إلى عبارات متعددة على كُل أطراف جسدها، وحتى عنقها ومناطق حساسة أخرى”، على حد تعبييرها.
وأوضحت أنها كانت فاقدة للوعي حينما قاموا بتشويه جسدها بتلك الرسومات. “لو كنت واعية لقاومتهم أو منعتهم من القيام بذلك، لكنني كُنت فاقدة للوعي، ولم أكتشف فعلتهم إلا بعد استيقاظي”.
وشددت خديجة، أن “المختطفين” كانوا بشكل دائم تحت تأثير الخمر، والمخدرات، إذ لم يأبهوا لتوسلاتها الدائمة، مُشيرة إلى أنها “رجت منهم مرارا إطلاق سراحها، والسماح لها بقضاء عيد الفطر رفقة أهلها”، إلا أن ملتمساتها، كانت دائما تواجه بالرفض والتعنيف، بحسب قولها.
وزادت “كانوا يرمونني من شخص لآخر، كُل واحد منهم يُمارس علي الجنس غصبا عني، ثم يرميني للآخر”، مُضيفة “لقد كانوا مرارا يتشاجرون فيما بينهم بسبب من يستغلني جنسياً، وفي كُل مرة يُطفؤون أعقاب السجائر في جسدي”.
“كذب وبُهتان”..
على بعد عشرات الأمتار من منزل خديجة، وفي نفس الدوار (منطقة سكنية قروية)، يقطن أحد من تتهمهم خديجة بـ”اختطافها واغتصابها، وتشويه جسدها بالوشوم”، الحال هُنا لا يقل حُزنا وكآبة عن نظيره في منزل الفتاة القاصر. فأم الشاب مُنهكة خائرة القوى، ذابلة العينين بفعل الساعات الطوال من النحيب بسبب اعتقال ابنها الذي تقول إنه “مظلوم”. وقضاءها عيد الأضحى بلا طعم ولا لون، بسبب اعتقال “فلذة كبدها”.
وتقول والدة المتهم “م”، إن المدعية معروف عليها إدمانها المخدرات، وتعاطيها إياها بشكل دائم رفقة شباب الدوار، مشددة على أنها أكثر من مرة قامت بضرب أجزاء من جسدها بواسطة آلات حادة، وأيضاً إطفاء السجائر في أجساء جسدها، تحت تأثير المخدرات، على حد قولها.
وشددت المتحدثة في التصريح لـ”المفكرة القانونية”، على أن ابنها لم يقم باختطاف الفتاة، بل رافقتهم بمحض إرادتها، مُضيفة أنها كانت مراراً تُراودهم وتطلب مرافقتهم والجلوس معهم.
وزادت “لو كانت تلك البنت مخطوفة أو مُكرهة على مرافقتها إياهم، كُنت أول من ستنتفض في وجه ابني وغيره من الشباب، لكن أم هذه الفتاة اعتادت الإتجار بعرض طفلتها، والوشوم الظاهرة على جسدها ليست جديدة أبداً، بل رسمتها على جسدها بإرادتها منذ مدة طويلة، بعلم أسرتها”.
وعلقت “لقد حكم المجتمع والإعلام على المتهمين قبل صدور حكم القضاء، هُناك الكثير من الأشياء غير الظاهرة في الملف”.
أما والدة متهم آخر، فقد شددت على أن الكثير من الاتهامات التي تم توجيهها “لا أصل لها من الصحة”، موضحة أن “أفعال الفتاة، وترددها على الجلسات الخمرية للشباب، ومُعاقرة المخدرات، أشياء يعرفها جميع أهل الحي”، إذ أنها “مراراً ما ترافقهم لأيام بمحض إرادتها دون إجبار من أحد، بل أن الكثيرين قاموا بطردها ونهيها عن التحرش بأبنائهم”، على حد تعبيرها.
واتهمت الأم، أسرة خديجة، ب ـ”محاولة استغلال الوشوم الظاهرة على جسد الطفلة، وأيضاً حادثة اختفائها لمدة شهرين، من أجل للحصول على تعويضات مادية”، خاصة وأن “عددا من الجمعيات الحقوقية سواء المغربية أو الأجنبية، دخلت على الخط، وأبدت استعدادها لمساعدة الفتاة”، على حد قولها.
وفي الوقت الذي تتحدث أسر المتهمين، وبعض الجيران عن كون الوشوم الظاهرة على جسد الفتاة القاصر، خديجة، تعود لأكثر من سنة، اعتبر والدها، أن هذه التصريحات “مجرد ادعاءات لا أساس لها من الصحة”، و”هدفها الوحيد التأثير على الرأي العام والقضاء”.
وزاد “الخبرة الطبية ستكشف كُل شيء، ومثل هذه الأمور يُمكن للخبراء والأطباء اكتشافها”.
اعتقالات وتحقيقات..
وسط الاتهامات المتبادلة بين أطراف القضية، دخلت النيابة العامة على الخط، إذ قامت باعتقال مجموعة من المشتبه فيهم، ووجهت لهم اتهامات تتعلق بـ”محاولة القتل، والإتجار بالبشر، والاغتصاب، وعدم مساعدة شخص في خطر”.
وقال بيان للنيابة العامة، إنها قررت ملاحقة 12 شابا يُشتبه بتورطهم في ملف القاصر خديجة.
وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية، نقلا عن “مصدر مقرب من التحقيق”، إن وكيل الملك في محكمة الاستئناف ببني ملال وجه للمتهم الرئيسي الذي لم يكشف عن إسمه، اتهامات إتجار بالبشر والتهديد بالقتل والتعذيب والاختطاف والاحتجاز وإغتصاب قاصر.
ووجهت الاتهامات نفسها إلى عشرة أشخاص آخرين، وأضيفت إليها تهمتا عدم التبليغ عن جناية، وعدم تقديم المساعدة لشخص في حالة خطر.
فيما يلاحق شخص واحد بالاتهامين الأخيرين فقط، ولا يزال البحث جاريا عن ثلاثة شبان آخرين.
وأشار المصدر إلى أن النيابة العامة ستلاحق أي شخص علم باحتجاز خديجة ولم يبلغ السلطات.
وأحيل المتهمون الـ 12 الذين تترواح أعمارهم بين 18 و28 سنة، إلى قاضي تحقيق في حالة اعتقال. ويمكن أن تتغير لائحة الاتهامات والمتهمين تبعا لنتائج الأبحاث التي يتولاها قاضي التحقيق، وينتظر أن يبدأ الاستماع إليهم في السادس من شتنبر، تورد وكالة الأنباء.
وبخصوص ادعاءات أسر المتهمين، بكون الطفلة خديجة قد رافقتم بمحض إرادتها، أشار أحد المحامين في تصريح له لوكالة الأنباء الفرنسية على أن خديجة تبلغ فقط 17 سنة، ما يجعلها قاصراً في نظر القانون، وبالتالي تعتبر “القاصر مسلوبة الإرادة في نظر القانون”، متسائلا “هل يعقل أن ترافق 12 شخصا؟ حتى لو افترضنا أنها رافقت أحدهم برضاها، فإن ذلك يعتبر تغريرا بقاصر يعاقب عليه القانون“.
تضامن..
وخلفت قصة خديجة تضامناً واسعاً، سواء من طرف الجمعيات الحُقوقية المغربية، أو الدولية، كما دشن نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، حملة تحت شعار “كُلنا خديجة”، تدعو إلى معاقبة المجرمين، و”تقديم المساعدة للطفلة، حتى تتخلص من تلك الوشوم وأيضا، تتجاوز الصعوبات النفسية المرتبطة بالحادث.
وأكد والد خديجة، في تصريح للمفكرة القانونية، تلقيه عشرات الاتصالات من حُقوقيين داخل المغرب وخارجه، يُساندون ابنته ويدعمون قضيتها، موضحاً أن هناك أيضا عددا من مراكز التجميل داخل المغرب، وواحد متواجد بتونس، عرض تكلفه بإزالة وشوم خديجة.
إلى ذلك، أعلن نُشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن جمعهم لتبرعات مالية بغرض دعم خديجة وأسرتها، وأيضاً التكفل بحالتها بغرض إعادة إدماجها، وتشجيعها على استكمال دراستها.
وفي نفس السياق، أدانت “شبكة الرابطة إنجاد ضد عنف النوع”، بشدة “الاغتصاب الجماعي والتعذيب الذي تعرضت له الفتاة القاصر خديجة”.
وقالت فتيحة اشتاتو، رئيسة الرابطة، في تصريح للمفكرة القانونية، إن منظمتها تدين كل الجرائم التي تتعرض لها نساء هذا الوطن بسبب النوع، واصفة ما تعرضت له خديجة من “احتجاز، اغتصاب جماعي، تعذيب، وشم على سائر الجسد حتى المناطق الحساسة، كي وحرق بأعقاب السجائر وإكراه على تناول كل أنواع المخدرات والكحول”، بـ”الاعتداء السافر.
وطالبت النيابة العامة في شخص رئيسها بالتدخل الفوري لإيقاف من تبقى من المجرمين في حالة فرار ومعاقبتهم جميعا إنصافا للضحية وإعمالا للقانون، إلى جانب تنديديها بما قالت إنه “صمت مطبق”في محاولة للتطبيع مع ظاهرة العنف أو تبريرها وشرعنتها”.
وقالت إن الاعتداء يسائل وزارة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية ووزارة الداخلية وباقي الأجهزة والقطاعات المعنية عن مدى اضطلاعها بمسؤولياتها من أجل توفير الحماية والأمن للمواطنات والمواطنين على حد سواء، واتخاذ الإجراءات اللازمة على كافة المستويات للتصدي الحازم لظواهر العنف والسيبة وشريعة الغاب والمساس بالحقوق والحريات في الفضاء العام وحماية النساء وتوفير العناية الواجبة لهن من قبل الدولة.
من جهة ثانية، طالبت الدولة بسن قانون إطار يوفر الحماية والوقاية وجبر الضرر وعدم الإفلات من العقاب وتؤكد على قصور قانون 103- 13 في هدا الحانب؛ وتفعيل الدستور المغربي في هذا الشأن وملاءمة القوانين الوطنية مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها المغرب، مُحملة الحكومة كل المسؤولية، في “عدم إدراج جرائم العنف ضمن أولوياتها، الأمر الذي أدى إلى تفشي واتساع ظاهرة العنف بصفة عامة والعنف المبني على النوع بصفة خاصة وغياب هبة المؤسسات”.
وطالبت اشتاتو بـ “إنزال أشد العقوبات في حق المتورطين، حتى لا تُسول لهم أنفسهم تكرار هذه الجرائم”، بالإضافة إلى “جعلهم عبرة للآخرين”.
وقالت “يجب أن يرسل هؤلاء المجرمون إلى سجون بمناطق بعيدة، مع الأشغال الشاقة إما في بناء الطرق أو الفلاحة”، موضحة أنه “على جميع القطاعات التدخل من أجل الوقوف في وجه هذه الجرائم”.
وعزت فاطمة الزهراء هاوش، مساعدة اجتماعية بالمحكمة الزجرية بالبيضاء، تفشي مثل هذه الظواهر إلى “انهيار منظومة القيم بالمجتمع المغربي”، معتبرة أن “تراجع و في بعض الحالات الانعدام التام لدور الأسرة في التربية وعدم قدرتها على استيعاب السلوكات الخاطئة و المتطرفة للأبناء، ولذلك لعدة أسباب منها اقتصادية، اجتماعية، ساهم بشكل أساسي في تشجيع هذه السلوكيات، خاصة في ظل “عدم قدرة المؤسسات التعليمية على ترسيخ الدور التربوي المناط بها وعلى تصحيح و تقويم سلوكيات الأطفال”، و”غياب مؤسسات و بنيات خاصة بتأطير الأطفال و الشباب بالأحياء، مؤسسات كفيلة بترسيخ قيم المواطنة”، وأيضاً “الانفلات الأمني نظرا لتنامي ظواهر العنف بمختلف أنواعه في صفوف الأطفال و الشباب وغياب آليات تطبيق القوانين الخاصة بعدالة الأحداث”، ناهيك عن “الهدر المدرسي في صفوف الأطفال والشباب من كل من المجال الحضري و القروي و الذي يجعل وقت الفراغ مهولا”، تورد المتحدثة.
وقالت فاطمة الزهراء هاوش، في تصريح للمفكرة القانونية: “بالنظر إلى كل هذه العوامل، عندما تغيب الأسرة و المدرسة والمجتمع، يبقى الشارع هو ملجأ هؤلاء الأطفال حيث يسود قانون الغاب، إذ يتحولون من ضحايا ظروف اجتماعية خاصة إلى منحرفين ومجرمين محترفين يتفننون في الإجرام. وإذا كنا سنتساءل عن المجرم الضحية، فكلا الطرفين ضحايا لفشل منظومة الأسرة و المدرسة والمجتمع”.
وزادت “أيضا يجب الحديث عن دور المؤسسات السجنية المراد منها تحقيق معادلة الردع و إعادة التأهيل والإدماج، كما لا يخفى على الجميع الجهود المبذولة في هذا الإطار، كلن دون نتائج إيجابية نظرا لعدة إكراهات. ونجد مؤسساساتنا السجنية لا تحقق لا الردع ولا إعادة التأهيل والإدماج في أغلب الحالات”.
وزادت المتحدثة أنه “من أجل مساعدة خديجة على الخروج من الحالة النفسية التي تعيشها حاليا، أعتقد انها في حاجة ماسة لأخصائي نفسي من شأنه مساعدتها على الخروج من الأزمة النفسية التي حلت بها، وإعادة ثقتها بنفسها، وأيضا سيطرتها على حياتها”.
وأكدت أن “خديجة الآن تعيش حالة من الاهتزاز النفسي، ناهيك عن كونها طفلة، ما يجعلها محتاجة لمعالمة خاصة من طرف جميع المتدخلين في الملف، خاصة الأسرة ومحيطها بالكامل، بالإضافة إلى إعادة الطفلة للمدرسة أو لمؤسسة للتكوين المهني من أجل تسهيل إدماجها لسوق الشغل، وهذا طبعا مع مراعاة ميولاتها واختياراتها الشخصية”.
“