إحداث محاكم استئناف في تونس: تطور للخريطة القضائية يخفي ارتجالا في إصلاح القضاء


2014-10-10    |   

إحداث محاكم استئناف في تونس: تطور للخريطة القضائية يخفي ارتجالا في إصلاح القضاء

قررت الحكومة التونسية يوم 26-9-2014 إحداث محكمتي استئناف جديدتين بكل من باجة والقيروان. وأتى القرار استجابة لطلبات محامي القيروان وباجة الذين اضربوا عن العمل بداية سنة 2014 للمطالبة بإحداث محاكم استئناف بجهاتهم. باشر محامو جندوبة اضرابا عن العمل اول ايام شهر اكتوبر 2014، للمطالبة بدورهم بمحكمة استئناف بولايتهم. فبدت حركة الاحتجاج التي تقودها الفروع الجهوية للمحامين بدعم من عمادة المحامين في تونس، عامل ضغط على الحكومات المتعاقبة. ويلاحظ أن تلك الحكومات تستبق نهاية عهدتها باصدار أوامر احداث محاكم استئناف تسترضي بها هؤلاء. وكلما صدر أمر باحداث محكمة استئناف جديدة، لحق ذلك احتجاج من محامي جهة اخرى تتم الاستجابة له لاحقا بالطريقة نفسها.

ويكشف رصد حركات الاحتجاج التي تطالب ببعث محاكم استئناف عن توجه لمحامي الجهات للانكماش بجهاتهم، ورفضهم لفكرة المحاكم التي تضم مناطق متعددة. كما يبين من جهة ثانية عن خطورة تحول احداثات المحاكم الى اسلوب للترضيات بشكل يضر مستقبلا بتصورات مشروع اصلاح القضاء.  

محامي الجهات والتوجه نحو فرض محكمة استئناف لكل ولاية:
أعلنت وزارة العدل التونسية بداية شهر جوان 2013 عزمها افتتاح محكمة استئناف بجهة القصرين يشمل مرجع نظرها المحكمة الابتدائية في هذه الجهة الى ججانب المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد. بدا القرار عند صدووره مبررا باعتماد المعطيات الاحصائية اذ كان يرجى منه تخفيف ضغط العمل بمحكمة الاستئناف بالكاف من خلال سحب المحكمة الابتدائية بالقصرين منها والحد من ضغط العمل بمحكمة الاستئناف بقفصة من خلال سحب المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد من مرجع نظرها. فيما يكرس بعث محكمة الاستئناف بالقصرين كما تم التخطيط له التوجه نحو جعل مرجع النظر الترابي لكل محكمة استئناف يقتصر على مساحتي ولايتين لا غير وهو امر يبدو ممكن التحقيق باعتبار امكانيات الدولة التونسية.[1] وكانت المؤشرات الإحصائية والاعتبارات الجغرافية تؤكد حقيقة الحاجة لبعث محكمة الاستئناف تلك فيما بشر التطور النسبي لعدد قضاة الرتبتين الثانية والثالثة وتطور عدد كتبة المحاكم بعد الثورة بقدرة المؤسسة القضائية على إنجاح الاستحداث الجديد.

غير أن ما كان متوقعا ومبرمجا تعثر بعد أن أعلن محامو جهة سيدي بوزيد رفضهم لإلحاق محكمتهم الابتدائية بمحكمة الاستئناف بالقصرين وتمسكوا بالمطالبة بإحداث محكمة استئناف بجهتهم. برر الرافضون موقفهم بأهمية النزاعات بجهتهم بما يسمح باستحداث محكمة استئناف بها من جهة وبالبعد الجغرافي لمقر محكمة الاستئناف بالقصرين عن أطراف ولايتهم الجنوبي والذي يصل إلى مائتين وعشرين كيلومترا في بعض المناطق بما يلحق ضررا بالمتقاضين ويحملهم اعباء للتنقل قد يعجزون عنها من جهة أخرى.

وباشر محامو سيدي بوزيد تحركاتهم الاحتجاجية فأعلنوا الإضراب في محكمتهم، وسحبوا مرشحيهم من انتخابات فرع المحامين بقفصة. ولقيت تحركاتهم دعما شعبيا في منطقتهم ومساندة من عمادة المحامين وأدت بالنتيجة الى تراجع سريع من الحكومة التي أعلنت يوم 19-6-2013 "أن مجلس الوزراء قرر إنشاء محكمة استئناف في ولاية سيدي بوزيد."

ادى تراجع الحكومة الى إلزام وزارة العدل بإحداث محكمتي استئناف فيما كان خطط لانشاء واحدة فقط. والأهم من ذلك، أن نجاح احتجاجات محامي سيدي بوزيد دفع محامي القيروان وباجة الى تحركات مشابهة لفرض محاكم استئناف بجهاتهم. فخرج محامو القيروان في  وقفات احتجاجية في 25-11-2013 للمطالبة بذلك، وكذلك نظم محامو باجة في 7-1-2014 وقفة مماثلة للغرض نفسهبعدما هددوا بإيقاف العمل في جميع محاكم الجهة إلى حين الحصول على وعود إيجابية بشأن مطلبهم.

سارع وزير العدل التونسي الذي سبق وأن عاين الصعوبة التي جابهت الهيئة الوقتية للقضاء العدلي في توفير الاطار القضائي لمحكمتي الاستئناف بالقصرين وسيدي بوزيد الى تمرير امر احداث محكمتي استئناف باجة والقيروان من قبل حكومته قبل نهاية مدة عملها باسابيع قليلة. وادى قراره الذي اتى ليحقق مطالب المحامين دون ان يستند الى دراسات مسبقة ليثير حفيظة محامي جهات اخرى بما يكشف عن صعوبة ارضاء نسق المطالبات قبل تحقيق محكمة استئناف بكل ولاية.

يبدو تحرك المحامين من اجل تمييز جهاتهم بمحاكم استئناف محمودا من منظور جهوي لكونه يؤكد دور المحامين كنخب في تطوير مناطقهم وتحسين مرافقها. كما يظهر ان حسابات مصالح مكاتب المحامين كانت أيضا من دوافع تحركهم اذ يعتبر المحامون وجود محاكم الاستئناف ببلدان بعيدة عن مكاتبهم مصدر أعباء إضافية لهم بما يحفزهم على المطالبة ببعث محاكم استئناف بمقراتهم. وفي مقابل ذلك، يبدو سعي الحكومة لاسترضاء المحامين دليل غياب رؤية اصلاح للقضاء لدى جهة القرار.
 
إحداث محاكم الاستئناف: ارتجال يضر بمشروع اصلاح القضاء
تولت الحكومة التونسية خلال سنتي 2013 و2014 احداث اربع محاكم استئناف ليرتفع بذلك عدد محاكم الاستئناف الى أربع عشرة محكمة في طفرة غير مسبوقة. ويبدو التوجه نحو زيادة عدد محاكم الاستئناف بوتيرة سريعة خطوة هامة نحو تحقيق شعار تقريب القضاء من المتقاضين خصوصا وأن هذا التوجه أثمر خصوصية جديدة للخريطة القضائية التونسية تتمثل في طغيان ظاهرة محكمة استئناف لكل ولاية "محافظة" بما تجاوز ما كان مخططا له باشواط كبيرة. فقد باتت نصف محاكم الاستئناف ذات نظر جغرافي يقتصر على حدود ولاية واحدة بعد ان كان المأمول ان تكون لكل ولايتين محكمة استئناف.

اكتفت الحكومة باصدار قرارات احداث محاكم الاستئناف دون ان تنظر في مدى قدرة مرفق القضاء على تحمل التضخم الذي طرأ. وتوجهت ادارة القضاء في تعاطيها مع الواقع الجديد الى تقسيم مواردها المحدودة بين المحاكم الجديدة والقديمة. وقد أدت بالتالي كثرة الاحداثات التي وردت في حيز زمني محدود الى منع المحاكم التي تعاني من ضغط على مستوى عدد القضايا من الاستفادة من اطار قضائي واداري اضافي يساعد على تحسين الخدمات القضائية. كما جعلت المحاكم الجديدة تنطلق في العمل باطار قضائي واداري يعاني من نقص عددي. اكدت بالتالي زيادة عدد المحاكم التي لم ترافقها انتدابات واعتمادات مالية التوجه نحو تحقيق تطور عددي في مؤسسات القضاء مع اهمال تطوير مؤسسة القضاء بشكل نوعي يضمن تحقيق المحاكمة العادلة.

ويمكن القول ان احداثات المحاكم الجديدة على اهميتها بالنسبة لاهالي الجهات التي احدثت بها لم تكن قرارات اصلاح لقضاء بقدر ما كانت قرارات سياسية استرضائية. فاختزال اصلاح القضاء في تقريب المحاكم من المتقاضين في عهد الطفرة الرقمية وتطور المواصلات، تصور يستنزف الطاقات في احداثات تعيق بفعل الاعباء التي تفرضها كل سعي مستقبلي لتصور اصلاح حقيقي للقضاء.



[1]يستثنى من ذلك محكمة الاستئناف بالكاف التي يضل مرجع نظرها يشمل ثلاث ولايات و محكمة الاستئناف بتونس التي يشمل مرجع نظرها اربع ولايات بواقع خمس محاكم ابتدائية و محكمة الاستئناف بصفاقس التي يشمل مرجع نظرها ولاية واحدة بواقع محكمتين ابتدائيتين
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني