القضاء التونسي في 2013 (6): أبرز القضايا والأحكام القضائية


2014-03-11    |   

القضاء التونسي في 2013 (6): أبرز القضايا والأحكام القضائية

شغل القضاء جزءا من الرأي العام بحراك هياكله وصراع مؤسساته مع السلطة التنفيذية في سياق الحديث عن استقلالية القضاء. وعاد ذات القضاء ليشغل خلال سنة 2013 الرأي العام من خلال عدد من القضايا القضائية، وفي مقدمها القضايا المتصلة بحرية التعبير أو بالشأن السياسي.

حرية التعبير في محاكمات قضائية
اعتبرت الاوساط الاعلامية التونسية سنة 2013 سنة لترهيب الصحافيين بالمحاكمات الجزائية. وذكر مركز تونس لحرية الصحافة انه معدل احالة الصحافيين الى المحكمة الجزائية في تونس بلغ أربعة شهريا للمحاكمة خلال هذه السنة[1]. وسجلت الأوساط الحقوقية بمناسبة جملة المحاكمات التي شملت صحافيين ومثقفين ومدونين على خلفية أعمالهم المهنية أو المواقف التي أبدوها أن السلطات القضائية وخصوصا النيابة العمومية استندت الى تهم تتعلق بـ “التشهير” و”الاعتداء على أعوان الدولة” و”تهديد النظام العام”، وهي تهم تصل عقوباتها للسجن. كما أكدت ذات المنظمات أن مختلف التتبعات كانت تستند في منطلقها لشكايات تقدمت بها شخصيات عامة على خلفية انتقادات تعرضت لها[2].
ودفعت المحاكمات نقابة الصحافيين التونسيين الى إعلان اضراب عن العمل في 17/09/2013 احتجاجا على تتبع الصحافيين بمقتضى احكام القوانين الجزائية الموروثة عن الحقبة الاستبدادية وتجاهل السلطات مقتضيات المرسوم عدد 115 لسنة 2011 مؤرّخ في 2 نوفمبر 2011 الذي يتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر والذي ألغى العقوبات السجنية في جرائم الصحافة[3].

وكان من آثار التتبعات الجزائية التي طالت الاعلاميين ان اعتبرت” منظمة مراسلون بلا حدود ” تواتر تلك المحاكمات مؤشرا على انقلاب الحكومة على حرية التعبير[4]. وهو أمر سعت الحكومة لتأكيد عدم علاقتها به بعدما نفت رئاستها، في بيان صدر عنها، تدخلها في سير أعمال السلطة القضائية خاصةً وتمسكت رئاسة الحكومة إنه “بقدر احترامها لقطاع الإعلام والعاملين فيه والتزامها بحفظ حقوقهم بقدر احترامها للسلطة القضائية ولاستقلاليتها”، مشددةً على حرصها “على تفادي كل ما يمكن أن يمس من استقلالية القضاء وهيبته وحرمة القضاة والمحاكم وعلوية القانون على الجميع دون تمييز أو يحد من حرية الإعلام[5].

حولت المحاكمات الجزائية التي طالت اعلاميين ومثقفين وفنانين القضاء الى خانة الاتهام ورسمت ملامح علاقة صدامية بينه وبين حرية التعبير[6]. كما كان الاهتمام العام بعمل القضاء في هذا المجال اداة لممارسة الرقابة على أعمال القضاء، على نحو أسهم في كشف الاختلالات وأوجد وعيا بضرورة الإصلاح، وذلك على مستوى علاقة الشخصيات العامة مع النقد والانتقاد الذي يوجه لها وعلى مستوى تعاطي القضاء مع جرائم الثلب.

وفي سياق التعرض لأبرز القضايا التي طالت اعلاميين خلال سنة 2013، يتضح ان القضايا توزعت بين القضاء العسكري والقضاء العدلي بشكل يكشف عن توجهات مشتركة في التعاطي مع جرائم التشهير.

حرية التعبير أمام القضاء العسكري:
تمكنت المؤسسة العسكرية عقب الثورة التونسية من استصدار المرسومين عـدد69 و70 لسنة 2011 المؤرّخين في 29 جويلية 2011 واللذين يتعلقان بتنظيم القضاء العسكري وضبط النظام الأساسي الخاصّ بالقضاة العسكريين وتنقيح مجلة المرافعات والعقوبات العسكريّة واتمامها. وكان من أبرز ما افضى اليه القانونان المذكوران توسيع صلاحية المحاكم العسكرية في التعهد بالقضايا التي يتهم فيها مدنيون: فعلاوة على ما كان يجيزه لها القانون سابقا من مقاضاتهم في القضايا العسكرية، باتت المحكمة العسكرية تقاضي المدنيين الذين يتهمون في قضايا تضرر منها عسكريون اذا قامت رابطة بين الجرم وصفة المتضرر[7]. وأدى اعمال الصلاحية التي اسندت للمحاكم العسكرية في مقاضاة المدنيين الى تعهد هذه المحاكم بقضيتين تعلقتا بتهم اتصلت بحرية الرأي.

القضية الاولى:
تم سنة 2012 الشروع في التتبع القضائي في حق المدون والمستشار السابق لرئيس الجمهورية ايوب المسعودي امام القضاء العسكري على إثر شكاية رفعها كل من وزير الدفاع السابق عبد الكريم الزبيدي ورئيس الأركان الفريق أول رشيد عمار وطلبا خلالها تتبع المسؤول السابق من اجل المس من هيبة الجيش الوطني بعد التصريحات الإعلامية التي أدلى بها بخصوص قرار تسليم رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي واتهمصلبها القيادة العسكرية بتضليل رئاسة الجمهورية. وقضت المحكمة العسكرية في طورها الابتدائي موفى سنة 2012 بالسحن لمدة 4 اشهر مع اسعافه بتأجيل التنفيذ. ونظرت المحكمة العسكرية الاستئنافية في القضية كمحكمة درجة ثانية اصدرت بتاريخ 04 جانفي 2013 وقضت بالترفيع في العقاب البدني الى السجن لمدة سنة مع الاسعاف بتأجيل التنفيذ وتأييد العقوبة التكميلية المتمثلة في الحرمان من الاشتغال بالمناصب العامة. الا ان محكمة التعقيب تولت نقض القرار الاستئنافي واعادت القضية لمحكمة الاستئناف العسكرية لإعادة النظر فيها مجددا واصدرت المحكمة العسكرية حكمها مجددا بتاريخ 07 نوفمبر 2013 بالحط من العقوبة السجنية الى ثلاثة أشهر.

القضية الثانية:
نشر المدون التونسي “حكيم الغانمي” مقالا بمدونته “ورقات تونسية” انتقد صلبه مدير المستشفى العسكري بقابس ونسب اليه ما اعتبر انه اختلالات مهنية. ومن جراء ذلك، تمت احالته للمحاكمة العسكرية من اجل تهم “المس من كرامة الجيش” وفق الفصل 91 من مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية وبالإساءة للغير عبر شبكات الاتصالات وفق الفصل 86 من مجلة الاتصالات ونسبة أمور غير قانونية لموظف عمومي متعلقة بوظيفته دون أن يدلي بصحة ذلك وفق الفصل 128 من المجلة الجزائية.

وقضت المحكمة العسكرية الدائمة بصفاقس ابتدائيا بتاريخ 03/07/2013 بتخطئته بأربعين دينارا تونسيا من اجل تهمة نسبة امور لموظف عمومي وعدم سماع الدعوى فيما زاد على ذلك ولا زالت القضية على بساط النشر في الطور الاستئنافي العسكري.

حظيت المحاكمتان باهتمام حقوقي بالنظر لتعلقهما بحرية التعبير ولتعهد القضاء العسكري بمناسبتهما بمقاضاة مدنيين. وتحولت مجريات المحاكمات الى محاكمة لصلاحيات المحكمة العسكرية ولتوجه المؤسسة العسكرية الى فرض قانون الصمت بما يتصل بها من خلال اعتماد سلاح المحاكمات الجزائية. وبالتوازي مع المحاكمات العسكرية، تعهد القضاء العدلي خلال ذات المدة بمقاضاة اعلاميين ومثقفين بناء على شكايات جزائية من اجل مواقف وآراء تم ابداؤها.

حرية التعبير أمام القضاء العدلي:  
تعهد القضاء العدلي سنة 2013 بعدد هام من القضايا التي تعلقت بإعلاميين ومثقفين على خلفية تصريحات اعلامية وكان منطلق القضايا شكايات طلب مثيروها التتبع الجزائي ويلاحظ ان الشخصيات العامة بمختلف تنوعاتها تولت التشكي من ذلك. ومن أبرز هذه الشكايات:
-شكاية رئيس الجمهورية التونسية بتاريخ 10 /09/2013 في حق الصحفي اللبناني سالم زهران والصحفي التونسي زهير الجبس على خلفية برنامج اذاعي استضاف خلاله الصحفي التونسي نظيره اللبناني الذي ادعى ان الرئيس التونسي يتسلم مبالغ مالية من قناة الجزيرة لقاء مقالات صحفية يكتبها، وطلب المكلف العام بنزاعات الدولة في حق رئاسة الجمهورية مقاضاتهما من اجل نشر أخبار زائفة من شانها أن تنال من صفو النظام العام والثلب وهي من جرائم الحق العام[8]،

– شكاية رئاسة الجمهورية ضد مدير قناة الحوار التونسي الطاهر بن حسين بتاريخ 18 جويلية 2013 وطلب تتبعه من اجل تهم الدعوة لتبديل هيئة الحكم وقلب النظام على خلفية الدعوات التي أطلقها الصحفي بقناته لممارسة العصيان المدني،
-شكاية عضو المجلس الوطني التأسيسي والمقرر العام للدستور الحبيب خذر خلال شهر مارس 2013 ضد الاستاذة الجامعية والناشطة الحقوقية رجاء بن سلامة على خلفية اتهامها له بتدليس مشروع الدستور،

– شكاية وزير الخارجية التونسي السابق رفيق عبد السلام ضد المدونة الفة الرياحي بتهمة الثلب بعدما اتهمته بسوء التصرف المالي،

– شكاية وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس خلال شهر ماي 2013 ضد الصحفي زياد الهاني على خلفية اتهام الصحفي للمسؤول القضائي بالكذب في خصوص مجريات التتبعات التي تعلقت بالمصور الصحفي مراد المحرزي، المصور التلفزيوني الذي قام بتصوير حادثة قيام أحد المحتجين بإلقاء بيضة على وزير الثقافة. واتهم بالمشاركة في الإعداد لمهاجمة موظف عمومي والمسّ بالأخلاق الحميدة بناء على شكاية تقدم بها وزير الثقافة.

وفي مقابل تعدد الشخصيات العامة التي تولت تشكي مثقفين واعلاميين وطلبت تتبعهم جزائيا[9]، كان توجه القضاء موحدا في تجاهل المرسوم المنظم للإعلام والاعتماد على احكام القانون الجزائي الذي يسلط عقوبات سجنية في محاكمات المشتكى بهم وهو امر القى بظلاله على عمل القضاء وخصوصا منه الادعاء العام وقلم التحقيق الذي اتهم بالخضوع لتعليمات السلطة التنفيذية وظلت الاتهامات مجردة وغير مثبته ونفتها السلطة التنفيذية الا انها اضرت بالثقة العامة في القضاء. وشابت المحاكمات توترات بين الجهات القضائية المتعهدة والدفاع وافضت لاحتجاجات ضد القضاء. وكانت من أبرز القضايا التي شغلت الرأي العام بملابساتها جلسة استنطاق الصحفي زياد الهاني يوم 13/09/2013 بمكتب التحقيق العاشر بالمحكمة الابتدائية بتونس.

حضر جلسة الاستنطاق عدد هام من المحامين. وكان وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس استبق جلسة الاستنطاق بتقديم طلب استجلاب لملف القضية من دائرة المحكمة لغيرها من المحاكم على اعتبار تعارض صفته كممثل للادعاء العام وشاك. وبجلسة الاستنطاق طلب المحامون انتظار مآل طلب الاستجلاب وقرر قلم التحقيق الاستجابة للطلب الا انه أمر بايقاف المتهم تحفظيا على ذمة القضية. أثار الايقاف موجة هامة من الاحتجاجات في اوساط المحامين وأعلنت نقابة الصحافيين الاضراب العام في القطاع يوم 17/09/2013 وتم اعتبار القرار القضائي انتصارا فئويا من القضاة لأنفسهم باعتبار ان الشاكي كان شخصية قضائية. غير ان مواقف عدد من الرموز القضائية والهياكل القضائية رفعت اللبس بعد أن صدرت ادانات قضائية صريحة لمجريات المحاكمة ولمحاكمة الصحفيين باعتماد المجلة الجزائية من ذلك موقف مرصد استقلال القضاء[10] وموقف جمعية القضاة التونسيين. وكانت جمعية القضاة قد اصدرت بلاغا بتاريخ 13/09/2013 ادان استعمال القضاء في التضييق على حرية التعبير والاعلام[11].

وأدت ردة الفعل القوية من المجتمع المدني ومن هياكل القضاة ومن الهياكل المهنية للصحافيين الى تراجع موجة التتبعات الجزائية بالصحافيين باستعمال مواد القانون الجزائي. غير أن ثقافة التشكي الجزائي في جرائم التشهير ظلت حاضرة لدى الشخصيات العامة بما يتعارض مع المعايير الدولية التي تقتضي ان يعتمد التقاضي المدني في قضايا التشهير والتي تطلب من الشخصيات العامة قدرة أكبر على التحمل في مواجهة الانتقادات. كما أن محاكمات 2013 كشفت عن حاجة القضاء التونسي لتأهيل في مجال حقوق الانسان بما يحقق دوره كحام للحريات.

قضايا رأي عام أخرى
كان كلا من القضاء العدلي والاداري والمالي والعسكري موضع اهتمام بمناسبة قضايا تولاها. وقد تحول الاهتمام العام والمتابعة في حالات معينة الى مصدر ضغط على القضاء فيما كانت متابعة الرأي العام في صور اخرى اداة لتقييم اداء القضاء.

القضاء العدلي تحت ضغط قضايا يتابعها الرأي العام
تعددت المحطات القضائية التي حظيت بمتابعة اعلامية واسعة النطاق، وكان اداء القضاء فيها موضوع سؤال وتقييم. ويمكن تبويب هذه القضية بحسب مواضيعها وفقا للآتي:

قضايا العنف السياسي:
عرفت تونس موجة من العنف السياسي كان منطلقها عمليات اعتداء على التجمعات والندوات الحزبية وتطورت لتصل في 06/2/2013 لدرجة الاغتيال السياسي باستعمال السلاح والذي استهدف الناشط السياسي الراحل شكري بلعيد. وتضخمت الظاهرة بعد ان تم الكشف عن وجود خلايا ارهابية تنشط داخل المدن وفي المناطق الجبلية الغابية. وتكرر الاغتيال السياسي بتاريخ 25/7/2013 باستهداف نائب المجلس التأسيسي الراحل محمد البراهمي دون ان تنتهي بذلك موجة العنف. وتعهد القضاء الجزائي بجملة القضايا التي تبعت الكشف عن الجرائم وكان القضاء في خضم ذلك موضوع سؤال حول ادائه في ظل التقييمات المختلفة لعمله كما كانت خصوصية الجرائم وطابعها المنظم تحديا من نوع خاص على قضاء لم يتعود التعاطي مع مثلها.

تعهد قضاة التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس التي تختص بموجب القانونعدد 75 لسنة 2003 مؤرخ في 10 ديسمبر 2003 والذي يتعلق بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب، بقضايا الاغتيالات السياسية وقضايا المجموعات الارهابية. ورغم أن المحاكم لم تفعل من قانون الارهاب الا الاحكام التي تتعلق بالاختصاص الحكمي واستثنت جملة الاجراءات الاستثنائية التي تمس بحقوق المتهمين الشرعية الا ان استعمال قانون الارهاب في الاحالات الجزائية ادى لتعرض عملها لانتقادات واسعة في الاوساط الحقوقية التي طالبت الحكومة بسن قانون جديد يضمن التعاطي مع خصوصيات القضايا الارهابية وحقوق الانسان[12]. وفي الجهة المقابلة وجهت نقابات الامن واوساط سياسية انتقادات للقضاء متهمة اياه بالتساهل مع المجموعات الارهابية من خلال الافراج عن عدد من المنتمين لها ووصلت الى حد اتهام قضاة بتأييد الجماعات الارهابية[13]. كما تعرض عدد من القضاة الذين يباشرون الابحاث في القضايا الارهابية لتهديدات بالتصفية الجسدية وصفت بالجدية واستدعت وضعهم تحت الحراسة الأمنية.  ويسجل هنا ان القضاء التونسي ورغم التهديدات الارهابية والتقارير الامنية التي ذكرت ان مقر المحكمة الابتدائية بتونس بات مهددا بأعمال انتقامية ارهابية تمسك بإجراء اعماله داخل هذه المحكمة في سياق يبرز تمسكه بقواعد المحاكمة العادلة. وكان لافتا ان تدخلت الدبلوماسية الاجنبية في سياق الضغط على القضاء اذ ان سفارة الولايات المتحدة الامريكية بتونس وبعد صدور حكم قضائي يوم 28/5/2013 بالسجن مؤجل التنفيذ على متهمين في واقعة الاعتداء عليها الحاصلة في 14/9/2012، أصدرت بيانا شاجبا للحكم الذي لم “يثبت ما سبق وتعهدت به الحكومة التونسية من معارضة لمن يستخدمون العنف”.

ولعبت الهياكل المهنية للقضاة وجمعياتهم وخصوصا منها مرصد استقلال القضاء[14] دورا في التخفيف من حدة الضغط الذي تعرض له القضاء من خلال بيانات وضحت للرأي العام ظروف القرارات القضائية وملابساتها، ومنعت بالتالي استعمال “فزاعة الارهاب” كمظلة لاستعادة الوصاية الامنية على القرارات القضائية او لفتح المجال امام التدخل الخارجي والداخلي في العمل القضائي. غير انه يلاحظ أن نقص الاطار القضائي والاداري بالمحاكم واكتظاظ مراكز الاحتفاظ والايقاف يؤدي فعليا لإيجاد معوقات جدية لتحقيق شروط المحاكمة العادلة، سواء بعدم احترام الحقوق الاساسية للمتهمين اثناء فترة التحقيق بمراكز الايقاف أو من خلال البطء في فصل القضايا.

محاكمة مغني الراب ولد 15:
تعهد القضاء التونسي سنة 2013 بقضايا استولت على اهتمام الرأي العام المحلي والدولي لطبيعة المتهمين ونوعية التهم وكانت محاكمة المغني التونسي المعروف باسم ولد 15 من اجل وصفه لأعوان الامن بالكلاب ودعوته لقتلهم في اغنية اصدرها من المحاكمات التي استحوذت على اهتمام واسع وبعيدا عن الجدل القانوني الذي دار حول اعتبار الاغنية تعبيرا عن رأي وعمل فني لا تجوز محاكمة من قام به أو اعتبارها خطابا يحرض على الكراهية والعنف ويستحق بالتالي المؤاخذة. وقد كشفت مجريات جلسة المحاكمة في 13/6/2013 بالمحكمة الابتدائية ببن عروس عن تسرع المحاكمات الجزائية في تونس بما يتعارض مع قواعد المحاكمة العادلة، اذ اصدرت الدائرة القضائية حكمها فورا في حق المتهم وقضت بسجنه مدة عامين اثنين مع الاذن بالنفاذ العاجل للعقوبة دون ان تختلي للمفاوضة[15]. وقد أدى الحكم في سرعته الى موجة احتجاجات بمحيط المحكمة. وتعد سرعة النطق بالحكم متى تحولت الى تسرع من المؤشرات التي تدل على غياب قواعد المحاكمة العادلة. ولم يؤثر اصدار محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 02/07/2013 حكم مخفف على المتهم باستبدال عقوبة سنتين النافذة بعقوبة ستة أشهر مؤجلة من الاثر السلبي للحكم الابتدائي. وتستدعي قضايا مماثلة تطوير ثقافة استقلال القضاء ومراجعة ضغط العمل بالمحاكم مع تكوين موجه في المجال يشمل القضاة. غير ان ذات ضغط العمل لم يمنع المحاكم التونسية من اصدار احكام في عدد من القضايا تميزت بجرأة قانونية وكانت موضوع اهتمام.

أحكام جريئة بينت أهمية فقه القضاء “الخلاق”:
في سياق السعي لرصد أبرز الأحكام التي كشفت عن جرأة في التعاطي القضائي مع المادة القانونية وكان لها صدى لدى الرأي العام اعاد الاعتبار لفقه القضاء، يمكن التعرض لموقفين قضائيين هامين صدرا عن محكمة الاستئناف بتونس الاول في المادة الاستعجالية والثاني في إطار اختصاص النظر كمحكمة استئناف لقرارات الهيئة الوطنية للمحامين.

الموقف الأول: تكريس مبدأ الحقوق ما فوق الدستورية
بمناسبة نظر محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 05/2/2013 في نزاع استعجالي عرض عليها وفي سياق تسبيب حكمها، انتهت المحكمة الى اعتبار أن أحكام دستور غرة جوان 1959 أول دستور للجمهورية التونسية ما يزال نافذا في مواده التي تتعلق بحماية الحريات الأساسية. وتجاهلت المحكمة في قرارها بجرأة مقتضيات الفصل27 من القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية والذي أقر ما اقتضاه المرسوم عدد 14 المؤرخ في 23 مارس 2011 من تعليق للعمل بالدستور وانتهى للتصريح على انهاء العمل به.كان الحكم في ظاهره متعارضا مع أحكام دستور الجمهورية المؤقت بما قد يؤدي للقول بعدم دستوريته، الا أن ما قرره الحكم شكل انتصارا لعلوية المبادئ الدستورية بما أنه اعتبر الحقوق الأساسية لا يمكن تعليق العمل بها. فرادة الحكم وأهميته دفعت الأستاذة الجامعيين في القانون الى الاحتفاء به واعتباره حكما يؤسس لنظرية المبادئ فوق الدستورية بما يؤسس لحماية قضائية للحريات تتجاوز النصوص الدستورية [16].

الموقف القضائي الثاني: الاعفاء ليس عقوبة
أصدرت دائرة الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بتونس بجلستها التي انعقدت يوم 09/7/2013 حكمها في سبع عشرة قضية تتعلق بترسيم مجموعة من القضاة الذين شملتهم قرارات الاعفاء بجداول المحامين. اعتبرت المحكمة صمت الهيئة الوطنية للمحامين على المطالب التي تقدم بها القضاة المعفيون رفضا ضمنيا لترسيمهم وقضت نهائيا بنقض قرارات الرفض الضمني للترسيم والاذن بترسيم الطاعنين في جداول المحاماة.
وقد انتهت قرارات محكمة الاستئناف الى التأكيد بأن الإعفاء لا يعد إجراء تأديبيا وتوصلت لكون من شملهم يحق لهم طلب الترسيم بالمحاماة. وأنهت بذلك الأحكام التي صدرت تبعا للحملة الإعلامية التي رافقت قرارات الإعفاء وكشفت أن الإعفاء لم يكن كما روج له إجراء ثوريا تأسس على حجج دامغة تثبت الفساد في حق من شملهم وانما كان اجراء اتسم بالارتجال وتمثل في استعمال آلية قانونية في غير موضع استعمالها[17]. ذات الجرأة في التعامل مع المقررات الادارية التي سعى الساسة الى تحصينها بدعوى الثورية او المصلحة الوطنية ميزت عمل المحكمة الادارية الذي شغل المتتبعين.

قرارات المحكمة الادارية: جرأة في تطبيق القانون
تعددت قرارات المحكمة الادارية التي شغلت الرأي العام. ويمكن تصنيف هذه القرارات ضمن فئتين: القرارات التي تعلقت بقرارات التقاعد الوجوبي والاعفاء التي وردت بعد الثورة والقرارات التي تعلقت بعمل الحكومة والمجلس التأسيسي في جانبه الاداري خلال المرحلة الانتقالية.
قضاء يلغي مقررات “ثورية” تمسكا بالقانون:

اصدرت المحكمة الادارية بتاريخ 22/04/2013 قرارا استئنافيا بإلغاء قرار احالة على التقاعد الوجوبي تعلق بإحدى القيادات الامنية التي شملتها قرارات الاحالة على التقاعد الوجوبي غداة الثورة. وقد أتى القرار الاستئنافي ليؤيد حكما ابتدائيا صدر خلال شهر جويلية 2013 تعلق بذات المسؤول الامني. كما أصدرت بتاريخ 25/12/2013 احدى الدوائر الابتدائية بالمحكمة الادارية قرارين في الغاء قرارات اعفاء تعلقت بقضاة. تعلق القرار الاول بمدير المصالح العدلية قبل الثورة والذي صدر في شانه امر الاعفاء بتاريخ 10 فيفري 2011 صحبة ستة قضاة اعتبروا من ركائز أذرع السلطة الاستبدادية في القضاء، وتعلق قرار الالغاء الثاني بأمر اعفاء يتعلق بأحد القضاة الذين شملتهم قائمة اعفاءات سنة 2012.
وأكدت قرارات الالغاء التي اصدرتها المحكمة الادارية في مادة تجاوز السلطة استقرار فقه قضائها الذي يتمسك برفض الانحراف بالإجراءات الادارية ولو كانت الحجة في الانحراف تطهير الادارة.

اثارت احكام المحكمة الادارية ردة فعل سلبية في الاوساط السياسية خصوصا منها الممثلة للأغلبية الحاكمة. فكان ان صرح النائب بالمجلس الوطني التأسيسي والقيادي بحزب المؤتمر من اجل الجمهورية سمير بن عمر بانه ” لو قام المجرم بن علي باللجوء الى المحكمة الادارية لقضت بإرجاعه أيضا” وذلك احتجاجا على اصدار المحكمة الادارية لقرار اعفاء مدير المصالح العدلية لطفي الدواس رغم انه موضوع تتبعات جزائية”[18].

كما تولى رئيس الحكومة التونسية الاستاذ علي العريض في تصريح صحفي بتاريخ 12/10/2013 تأكيد عدم التزام حكومته بالتنفيذ الآلي لجملة أحكام الالغاء التي اصدرتها المحكمة الادارية في قرارات الاحالة على التقاعد الوجوبي التي شملت قيادات امنية وذكر “ان وزارة الداخلية ستقيّم الاحكام بحسب الحالات لتنتهي الى عدم تطبيق القرارات القضائية القاضية بإرجاع اطارات أمنية للعمل متى كان لديها معطيات تفيد بتعارض هذا الارجاع مع المصلحة العامة. وفي شرحه لموقفه، بيّن رئيس الحكومة “أن وزارة الداخلية تحتفظ في حالات معينة بأسباب لقراراتها لم تدل بها أمام الجهة القضائية المختصة وبالتالي فان الأحكام القضائية لا يمكن تطبيقها متى كانت الاسباب الخفية تجعل من عودة الاطارات الامنية مصدر خطر على عمل المؤسسة الأمنية”[19].

وكشفت مواقف السياسيين سواء كانت في سياق ابدائهم لآراء شخصية او في سياق ابراز تصورهم للموقف الحكومي الرسمي عن مقاومة السلطة لأحكام القضاء في المجال بدعوى تعارضه مع متطلبات الثورة. وذات التصادم بين السياسي والقضائي تجدد بمناسبة تعهد المحكمة الادارية بنزاعات تشمل العمل الاداري للمجلس الوطني التأسيسي.

أعمال السلطتين التأسيسية والتنفيذية في ميزان المحكمة الادارية:

بعد ان اوقفت المحكمة الادارية بتاريخ 18/10/2012 قرارات صدرت عن رئيس المجلس الوطني التأسيسي بتاريخ 21/7/2012 تقضي بالترفيع في منح نواب المجلس التأسيسي وتغير من طرق صرفها، تبين بشكل جلي ان القضاء الاداري يتمسك بالقيام بدوره في مراقبة شرعية القرارات الادارية التي تصدر عن السلطة التأسيسية الاصلية.

وقد عرفت سنة 2013 صراعا كبيرا بين السلطة التأسيسية التي اختارت أن تمارس وظائف ترتيبية علاوة على دوريها التأسيسي والتشريعي والمحكمة الادارية التي أكدت تمسكها بممارسة رقابة المشروعية على الاعمال الترتيبية. وكانت اعمال لجنة فرز الترشحات لعضوية الهيئة المستقلة للانتخابات التي انبثقت عن المجلس الوطني التأسيسي أحد مواضيع الصراع القانوني. فقد اصدرت المحكمة الادارية قرارا بتاريخ 14/5/2013 يقضي بإيقاف اعمال لجنة الفرز بعد ان اعتبرت ان اللجنة المذكورة بإرسائها لسلم تقييم للترشحات، لم تحترم قواعد المساواة بين المترشحين لعضوية الهيئة المستقلة للانتخابات. وكان ان اعتبر رئيس المجلس الوطني التأسيسي التونسي بوصفه رئيس لجنة الفرز ان قرار المحكمة الادارية “يؤدي حتما الى تعطيل المسار الانتقالي مع ما يترتب على ذلك من احتقان وخطر على بناء الدولة والسلم الاجتماعية نظرا لخصوصية المرحلة”[20]. غير أن لجنة الفرز عادت يوم 15/5/2013 لتعلن امتثالها لقرارات المحكمة الادارية واعتبر رئيس المجلس الوطني التأسيسي “قرار اللّجنة الامتثال لحكم المحكمة الإداريّة تركيزا لدولة القانون،

حاولت الطبقة السياسية تجاوز قرار المحكمة الادارية الذي فرض ضرورة اعتماد معايير موضوعية، فتوصلت الكتل النيابية التي تمثلها بالمجلس النيابي الى الاعتماد على توافقات بينها في تحديد قائمة الستة وثلاثين مرشحا الذين ستعرض اسماؤهم على الجلسة العامة لانتخاب تسعة منهم لعضوية اللجنة المستقلة للانتخابات. غير ان المحكمة الادارية عادت بقرار صدر عنها بتاريخ 20/09/2013 لتأذن مجددا بإيقاف اعمال لجنة الفرز بعد ان اعتبرت ان معيار التوافق السياسي في تحديد المترشحين يتعارض مع وجوب اعتماد معايير موضوعية في التمييز بينهم.
أدى اصرار المحكمة الادارية على فرض سلطة القانون على لجنة فرز الترشحات للجنة المستقلة للانتخابات الى بروز امتعاض من الساسة من تدخل القضاء في مجال يعتبرونه سياسيا. وتوصل نواب المجلس التأسيسي الى تنقيح قانون لجنة الفرز بشكل يسند لأعضائها سلطة تقديرية مطلقة في تحديد الترشحات غير ان المحكمة الادارية عاودت بتاريخ 11/11/2013 التدخل مجددا لتؤكد في مرحلة اولى عدم دستورية التنقيح وتنتهي لإبطال اعمال لجنة الفرز مجددا.

اذعن المجلس الوطني التأسيسي لقرارات المحكمة الادارية رغم انتقادات بعض اعضائه لعملها واتهامهم اياها بالسعي لإفشال الحوار الوطني، وتم تنقيح قانون الهيئة المستقلة للانتخابات بشكل استجاب لاشتراطات المحكمة الادارية ووفر شفافية اعمال لجنة الفرز.

ابرزت السلطة التأسيسية التزاما باحترام قرارات القضاء الاداري وتولت تنفيذ احكامه وان رافق ذلك انتقاد للمحكمة واتهام لها بالتسيس وعدم الاستقلالية غير ان وزارة العدل التونسية لم يكن لها ذات الموقف واختارت ان تتجاهل احكام القضاء الاداري.

فقد اصدرت المحكمة الادارية بتاريخ 11/11/2013 قرارين استعجاليين يقضيان بتأجيل تنفيذ الامرين الذين صدرا عن رئيس الحكومة التونسية بتاريخ 07/11/2013 وقضيا بتعيين متفقد عام لوزارة العدل ورئيس اول للمحكمة العقارية دون الالتزام بالرأي المطابق للهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي. غير ان وازرة العدل رفضت تنفيذ قرارات المحكمة الادارية بعلة أن ارجاء التنفيذ يتعذر لكونه قد تم تنفيذ الاوامر فعليا. وعادت المحكمة الادارية بتاريخ 09/12/2013، لتصدر قرارين في المادة الاستعجالية يؤيدان قراريها السابقين. وقد نص القراران الاستعجاليان على ارجاء تنفيذ قراري رئيس الحكومة لحين تمام البت في أصل النزاع القضائي المنشور والمتعلق بالطعن فيها لتجاوز السلطة.وبينت رئاسة المحكمة الادارية في أسانيد قراريها أن القانون المحدث للهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي اسند للهيئة صلاحية شاملة في الاشراف على المسارات المهنية للقضاة في مختلف الرتب والخطط القضائية، بما يجعل مباشرة رئيس الحكومة لقرارات تعيين لقضاة دون الاستناد لرأيها المطابق عملا اداريا مشوبا بعدم المشروعية. وتبعا لذلك، انتهت رئاسة المحكمة الى عدّ ايقاف التنفيذ حتميا نظرا ل”الاضرار التي يصعب تلافيها والتي تنجم عن تنفيذ اوامر الحكومة على سير مرفق العدالة وعلى هيئة القضاء العدلي”[21].

رفضت وزارة العدل التنفيذ التلقائي للأحكام مجددا. وبتاريخ 28/12/2013 أصدر وزير العدل بلاغا صحفيا ادعى صلبه انه يلتزم بتنفيذ قرارات المحكمة الادارية لكن في حدود منطوقهما دون التفات لسنداتهما. وكان ان كرست وزارة العدل في توجهها فكرة التنفيذ الانتقائي لأحكام المحكمة الادارية. وكانت بذلك فعليا أول وزارة ترفض علنيا تنفيذ الاحكام القضائية في مفارقة مستهجنة.

المحكمة العسكرية:
حققت اجراءات محاكمة المتهمين في قضايا شهداء وجرحى الثورة تقدما خلال سنة 2013 اذ اصدرت المحاكم العسكرية احكاما استئنافية في عدد منها. غير ان قضايا شهداء وجرحى الثورة بإقليم تونس الكبرى وولاية القصرين تعطل نظرها خلال شهر ديسمبر 2013 بعد خلاف بين دفاع القائمين بالحق شخصي والقضاء العسكري حول ظروف المحاكمة والتي تتعلق اساسا بضيق قاعة جلسة المحكمة.
ويتبين من مواقف اهالي الشهداء وجرحى الثورة وموقف نواب المتهمين عدم الرضاء العام بأداء القضاء العسكري الذي اتهم بالعجز عن كشف الحقيقة. ويبدو ان طبيعة المحكمة كمحكمة استثنائية كان لها دور في منع التوصل لمحاكمات تحظى بثقة المتقاضين.



[1]                            تصريح الصحفي الفاهم بوكدوس رئيس المركز التونسي لحرية الصحافة يوم 28/11/2013 خلال افتتاح الملتقى العربي السادس لحرية الصحافة
[2]                                     تقرير منظمة هيومن رايت واتش – تونس سلسلة من المحاكمات بسبب حرية التعبير – 13/09/2013
http://www.hrw.org/ar/middle-eastn-africa/tunisia
[3]قال جو ستورك، القائم بأعمال المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: “تعتمد السلطات القضائية بشكل متكرر على نفس الأحكام القانونية الواردة في المجلة الجزائية  كوسيلة قمعية لخنق حرية التعبير. وبدلا من محاولة إخماد المنتقدين، يتعين على الحكومة تمحيص ادعاءاتهم، وتعديل القوانين الموروثة عن النظام القمعي والتي تجرّم انتقاد الشخصيات العامة”.
تقرير منظمة هيومن رايت واتش  -المرجع السابق
انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني