في قراءة نقدية للنسخة الثالثة لمشاريع قوانين السلطة القضائية في المغرب (2): المتغير والثابت في فلسفة المشاريع الحكومية


2013-12-30    |   

في قراءة نقدية للنسخة الثالثة لمشاريع قوانين السلطة القضائية في المغرب (2): المتغير والثابت في فلسفة المشاريع الحكومية

أي جديد في مسودة 25/12/2013؟
لا بد من الاشارة بداية إلى أن الأمر يتعلق بثالث نسخة من النسخ المعلن عنها بخصوص مسودة مشاريع قوانين السلطة القضائية، وذلك بعد نسختي شهري سبتنبر وأكتوبر. ويلاحظ تحسن ملحوظ على مستوى بعض المقتضيات الواردة فيها على مستوى صياغة الفصول، والتبويب، والمذكرة التقديمية، وبعض ضمانات استقلال القضاء، مع استمرار الثبات المسجل على مستوى المواقف من بعض القضايا الكبرى التي تمس جوهر القوانين التنظيمية. كما يلاحظ أيضا أن عددا من التوصيات التي قدمتها الجمعيات المهنية للقضاة تم الاستجابة لها، وان بنسب متفاوتة. وقد انصب التعديل على تغيير في عدد مواد المشروعين، وترتيب بعض الفصول، وتحسين صياغة فصول أخرى، واضافة تعديلات جزئية. فإلى أي حد استجابت النسخة الجديدة لمطالب الجمعيات المهنية للقضاة؟
إذا حاولنا تحليل هذه التعديلات يمكن التمييز بين الثوابت والمتغيرات في مشروع القوانين التنظيمية، أي تلك المواضيع التي حاولت وزارة العدل ادخال بعض التعديلات عليها استجابة لمطالب القضاة التي عبروا عنها من خلال مذكراتهم، وكذا تلك المواضيع التي لم يمسها أي تعديل.
 
1-المتغير في مسودة مشاريع القوانين التنظيمية:
على مستوى المضامين يمكن القول أن المسودة الجديدة استجابت إلى عدد من المطالب التي قدمتها الجمعيات المهنية القضائية وهو ما يبدو على مستوى اقرار التعديلات التالية:
· حذف التمييز بين قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة بخصوص معايير البت في طلبات انتقال القضاة؛
· حذف درجة القاضي النائب،والتنصيص على مقتضيات جديدة تقضي بتعيين كل القضاة المتمرنين والمتخرجين من المعهد العالي للقضاء قضاة للنيابة العامة لمدة سنتين؛
· مراعاة الوضعية الاجتماعية للقضاة عند تدبير وضعيتهم المهنية؛ وإضافة معايير جديدة بخصوص انتقال القضاة تتعلق بمراعاة البعد الجغرافي. وبالنسبة لتعيين القضاة الجدد، اضافة معيار التعيين بحسب الاستحقاق على ضوء نتائج امتحان نهاية التدريب إلى جانب معايير أخرى، مع حذف معيار التكوين التخصصي للقضاة وميولهم العلمية؛
· تقليص مدد تعيين المسؤولين القضائيين من 5 سنوات قابلة للتجديد، إلى 4 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، مع امكانية اسناد مناصب مسؤولية جديدة لهم في محاكم أخرى؛
· حذف امكانية توجيه تنبيه كتابي للقضاة من طرف الرئيس الأول أو الوكيل العام بمحكمة الاستئناف؛
· اعتماد النظام التصريحي للجمعيات المهنية أمام المجلس الأعلى للسلطة القضائية، عوض مقترح اخضاعها لنظام ترخيصي مسبق يستوجب مصادقة المجلس الأعلى للسلطة القضائية على القانون الأساسي للجمعية، والإبقاء على خضوعها للقواعد العامة المنظمة للجمعيات، وحصر أثر الشروط الاضافية المتطلبة على الاستفادة من صفة المخاطب من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية دون أن تمس تلك الشروط بالحق في التأسيس؛
· اقتراح تحديد مدة ولاية الرئيس الأول للمجلس والوكيل العام لديه وكذا الشخصيات التي يعينها الملك لعضوية المجلس في مدة 5 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة؛
· تقييد المقتضيات المتعلقة بانتداب القضاة بحصر امكانية انتداب القاضي، مرة واحدة في كل 5 سنوات والتنصيص على وجوب موافقة المسؤول المباشر للقاضي المنتدب، ومراعاة القرب الجغرافي؛
· فتح الباب أمام تظلم القاضي بشأن تقرير الأداء الخاص به أمام المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛
· مراجعة آجالالطعون المتعلقة بانتخاب المجلس الأعلى للسلطة القضائية وتحديدها في 5 أيام عوض 48 ساعة؛
· تعديل المقتضى الذي كان يعتبر أن عدم بت المجلس في الاستقالة المقدمة من طرف قاض داخل أجل 60 يوما يجعل الاستقالة غير مقبولة، والتنصيص على أنها مقبولة في هذه الحالة؛
· تعديل المقترح السابق بخصوص رفع سن تقاعد القضاة إلى 65 سنة، والابقاء على السن الحالي المحدد في 60 سنة، ولكن مع الابقاء على آلية التمديد.
 
2-الثابت في مسودة مشاريع القوانين التنظيمية:
مبدئيا يمكن القول انه تم تغير ترتيب الفصول وتم تعديل بعض المواد جزئيا. لكن بالمقابل، تم الابقاء على نفس الفلسفة العامة للمشروع، ذلك ان الثوابت التي نلحظها في مسودة مشاريع القوانين التنظيمية التي اقترحتها وزارة العدل والحريات تكمن في الفلسفة العامة التي قامت عليها هذه المشاريع، والتي لم تستطع يد التغيير أن تمس جوهرها، بالرغم من التعديلات الشكلية التي أدخلت بإلحاح من طرف الفاعلين في منظومة العدالة، وفي مقدمتهم الجمعيات المهنية القضائية، والجمعيات الحقوقية المهتمة؛ وأهم هذه الثوابت:

– الرغبة الأكيدة في محاصرة تجمع القضاة بتقييد حق تأسيس جمعيات مهنية قضائية، ومنع الحق في تأسيس نقابات قضائية واعتبار ذلك خطأ موجبا للمسؤولية التأديبية، وإفراغ تجمعات القضاة من أي أدوار حقيقية (اغفال حق الجمعيات المهنية في مؤازرة القضاة أمام المجلس، أو حضور أشغال المجلس بصفة مراقب في اطار انفتاحه على محيطه، أو وجوب استشارة المجلس للجمعيات المهنية القضائية قبيل اصدار التقارير أو الآراء الاستشارية..).

– استمرار نفس العقلية الاقصائية التي تستهدف الأفواج الجديدة للقضاة التي أسهمت في الحراك القضائي الراهن، والتي من المنتظر أن ترتفع أعدادها لتصل إلى حوالي 1000 قاض، أي ما يناهز حوالي ثلث قضاة المملكة (باحتساب الأفواج الجديدة التي ينتظر أن تتخرج من المعهد العالي للقضاء في غضون أقل من سنة). وهكذا احتفظت مسودة 25-12-2013 بنفس المقتضيات التي كانت محل نقد من طرف فعاليات حقوقية وجمعيات مهنية قضائية أهمها حرمان قضاة الدرجة الثالثة من الاستفادة من نسق الترقية الجديد وإبقائهم خاضعين للنظام الأساسي الحالي للقضاة. في المقابل، عمل المشروع المحين على تقليص مدد ترقية كبار القضاة من 7 سنوات إلى ست سنوات فقط، وتعديل المادة التي تنص على تقاضي القضاة المنتخبين والأعضاء المعينين بالمجلس لتعويض يساوي التعويض النيابي، بإضافة عبارة "على الأقل". وفي نفس السياقوبعدما فشلت الوزارة في استحداث منصب القاضي النائب اهتدت الى مقترح جديد ضمنته آخر مشاريعها يقضي بتعيين جميع القضاة الجدد خريجي المعهد العالي للقضاء قضاة للنيابة العامة لمدة سنتين، مما يطرح أكثر من سؤال حول دوافع هذا المقترح وسبب اصرار الوزارة على تعيين جميع القضاة في منصب النيابة العامة قبل ممارستهم لقضاء الحكم، وما اذا كان ذلك يعتبر محاولة منها لتطبيع القضاة على تلقي التعليمات والانضباط لها في اطار السلطة الرئاسية، وما يدفع للتشكك حول هذا الأمر كونه يأتي كمقترح بديل لنص سابق تضمن كل معاني المس الخطير باستقلال القضاة (مقترح استحداث منصب القاضي النائب).

من جهة أخرى حافظ المشروع على تقييد حرية القضاة الجدد في الترشح لعضوية المجلس باشتراط أقدمية لا تقل عن 5 سنوات من العمل الفعلي بالمحاكم مما يؤكد وجود نفس النية الاقصائية للأفواج الجديدة للقضاة، وتتأكد هذه الروح الاقصائية بوجود مقتضيات لا تقيم أي اعتبار للشواهد العلمية المحصل عليها، كمحفزات للاستفادة من بعض المقتضيات التي تصنف كامتيازات في نظر البعض، ويكفي في هذا الصدد الاشارة الى استمرار تنصيص المسودة الجديدة على امكانية تكليف القضاة بالقيام بمهام أعلى من مهامهم، وتخويل سلطة البت في ذلك للرئيس المنتدب دون ربط هذه الامكانية بضوابط موضوعية تكفل مراعاة عنصر الاستحقاق وتكافؤ الفرص، وكذلك الحال بالنسبة للمقتضيات المتعلقة بإلحاق القضاة أو الاستفادة من التمديد الذي لم يراع فيه التنصيص على معايير موضوعية.

– رفض دمقرطة طريقة الوصول إلى مراكز صنع القرار القضائي لا سيما التعيين في مناصب المسؤولية، ومنصب المفتش العام، واستمرار التجاهل المتعمد لدور الجمعيات العامة بالمحاكم، وإغفال دور المقاربة التشاركية في تجنب مخاطر تركيز السلطات في يد جهات تمثل الادارة القضائية خاصة على المستوى المركزي، والتي يمكن أن تصبح وسيلة للتأثير في استقلال القضاة،  خاصة مع استمرار نفس المقتضيات المنتقدة وعلى رأسها الانتداب الذي ظل وإلى وقت قريب يشكل سيفا مسلطا على رقاب القضاة، وجاءت التعديلات التي اقترحتها المسودة دون مستوى التطلعات حيث اكتفت بتقييد الانتداب باستشارة المسؤول القضائي، والحال أن القاضي المعني بالأمر هو الأولى بالاستشارة، مع الاحتفاظ بإمكانية انتداب قاض لتصفية قضية معينة، مع كل علامات الاستفهام التي تطرحها هذه المسألة، كما أن التنصيص على امكانية نقل القضاة بمناسبة ترقيتهم يؤكد أن وزارة العدل والحريات تلجأ إلى سياسة صم الآذان، فمطلب الغاء هذا المقتضى الذي رفعته كافة الجمعيات المهنية القضائية لم يجد أدنى صدى في الوزارة، رغم التجارب الماضية التي أكدت كيف تتحول الترقية كحق للقاضي من نعمة إلى نقمة.

– اصرار وزارة العدل على الابقاء على منفذ لها للتدخل في شؤون السلطة القضائية:
من الثوابت التي ظلت مستقرة في مسودة مشاريع قوانين السلطة القضائية رغم التعديلات المتلاحقة، تلك المقتضيات التي تنص على ايجاد منافذ جديدة لتدخل وزارة العدل في شؤون السلطة القضائية، فبالرغم من الاعتراف باستقلال النيابة العامة والمفتشية العامة للشؤون القضائية عنها، فقد تم افراغ هذه المقتضيات من جوهرها، من خلال ما تضمنه المشروع من أحكام تكرس التدخل من جديد للسلطة التنفيذية ممثلة بالأساس في وزارة العدل التي تم تغيير اسمها إلى "السلطة الحكومية المكلفة بالعدل":
– احداث آلية للتنسيق بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية والسلطة الحكومية المكلفة بالعدل في مجمل شؤون العدالة (المادة 51)، وليس فقط في الأمور المتعلقة بالإشراف الاداري والمالي على المحاكم؛
– تولي السلطة الحكومية المكلفة بالعدل الاشراف الاداري والمالي على المحاكم (المادة 52)، وتدبير الوضعية المالية للقضاة ولا سيما تنفيذ مقررات المجلس المتعلقة بالمسار المهني للقضاة (المادة 53)؛
– وجوب مراعاة المجلس للتقارير التي تعدها وزارة العدل حول مستوى أداء المسؤولين القضائيين بشأن الاشراف على التدبير والتسيير الاداري للمحاكم، وذلك عند البت في اسناد مناصب المسؤولية، (المادة 17)؛
وقد أوجد المشروع منفذا جديدا لتدخل وزارة العدل في شؤون القضاة من خلال تخويلها حق تقديم شكايات بالقضاة بخصوص الاختلالات التي يمكن أن تكون محل متابعة تأديبية، بل وخولتها المسودة الأخيرة في هذا الصدد على غرار سابقتها رتبة متقدمة حيث تعد الجهة الثالثة بعد الرئيس الأول والوكيل لمحكمة النقض التي يمكن أن تقدم مثل هذه الشكايات، وقبل المفتش العام والمسؤول القضائي والمؤسسات والهيئات الدستورية المكلفة بحماية الحقوق والحريات، والمجتمع المدني (المادة 81). وهذه الأمور انما تؤكد أن وزارة العدل وبحسب المشروع الذي أعدته بهذا الخصوص تبقى سيدة القرار في المجال القضائي، حيث تتحكم في الوضعية المالية للقضاة، وتتحكم في الادارة القضائية تحت مسمى تقييم مستوى أداء المسؤولين القضائيين، بل وتمارس رقابة حقيقية على عمل القضاة من خلال التقارير التي ترفعها للمجلس بخصوص ما يمكن أن يشكل بحسب وجهة نظرها اخلالا منهم قد يكون محل متابعة تأديبية.

– افراغ حق القضاة في الطعن في جميع المقرارات المتعلقة بتدبير وضعياتهم الفردية:
ان حق الطعن الذي يعتبر أهم المكتسبات التي كرسها دستور 2011 تم افراغه على مستوى جوهر مشاريع قوانين السلطة القضائية، وذلك باكتفائها بإقرار ممارسة هذا الحق على مستوى الغرفة الادارية بمحكمة النقض دون التنصيص على وجوب احداث محكمة ادارية عليا، أو مجلس للدولة، من أجل تفعيل هذه الضمانة الدستورية التي خولت للقضاة، ومن أجل تحقيق جميع شروط المحاكمة العادلة كما تحددها الوثائق المرجعية للأمم المتحدة من استقلال وحياد وعلنية، وضمان حقوق الدفاع، وامكانية الطعن. هذه الشروط التي يبدو أن حضورها في مشاريع القوانين المرتقبة يبقى محل نظر.

– تغليب المقاربة الأمنية على المقاربة الحقوقية وقطع سبل الحوار:
حافظت مسودة المشاريع في نسختها الأخيرة على نفس الفلسفة العامة التي تكاد تكون مشتركة بين أغلب المسودات السابقة، وهي فلسفة تقوم على تغليب الهاجس الأمني على المقاربة الحقوقية المستمدة من المبادئ الدولية لاستقلال القضاء والتي يلاحظ أنها لم تحظ بأي اعتبار أثناء العمل على صياغة المشروع الجديد، الذي جاء محكوما بعقلية تميل إلى التحكم والرغبة الأكيدة في تطويق الحريات الأساسية للقضاة، وهكذا تم منعهم من تكوين نقابات مهنية مع أنه حق لم تمنعه الوثيقة الدستورية، بل وكرسته كل المواثيق الدولية ذات الصلة، وهو حق ممارس على نطاق واسع بين قضاة العالم حتى في بلدان الجوار (الجزائر، تونس، فرنسا..)، وتم مصادرة حق القضاة في الاضراب، دون تقديم أي بديل لهم من أجل الدفاع عن مصالحهم المهنية المشروعة وحماية استقلالهم.

وحتى المقتضيات الموجودة في مسودة المشاريع الجديدة على علتها، تم افراغها من جوهرها، وهكذا تم تخويل القضاة الحق في تأسيس جمعيات مهنية، لكنها وبمقتضى التعديل الأخير لا تكتسب صبغة المخاطب من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية إلا بعد سنة، ووفق شروط تبدو تعجيزية، لا سيما إذا استحضرنا الابقاء على حظر الانتماء لأكثر من جمعية مهنية. وهذا يعني أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية لن يكلف نفسه حتى عناء الحوار مع مجموعة من القضاة المنضمين إلى جمعية مهنية حديثة، يرغبون في التغيير ويرفضون الانضمام إلى الجمعيات المهنية القائمة التي قد لا تعبر عن مشاغلهم وهمومهم.

ففي ظل رفض الحوار من طرف أعلى مؤسسة تمثيلية تجسد السلطة القضائية، وفي ظل تجريم حق الاضراب كحق دستوري، وفي ظل هشاشة المقتضيات المتضمنة لتبليغ القضاة عن محاولات التأثير غير المشروعة التي تواجههم، من دون أن يكون المجلس ملزما بالقيام بالتحريات والأبحاث اللازمة في البلاغات التي تصله ضمن مهل معينة (طالما أن المشرع استعمل عبارة "عند الاقتضاء" ولم يحدد أي آجال لتدخل المجلس)، تصبح امكانية خضوع القضاة لضغوط أو محاولات تأثير أمرا قائما ومتوقع الحصول.

يبقى السؤال قائما ماذا بقي للقضاة من وسائل مشروعة لحماية أنفسهم والدفاع عن مصالحهم المهنية المشروعة والذود عن استقلالهم؟
 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، مقالات ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني