الحركة القضائية في تونس، 2019: تدابير محدودة لتحفيز قضاة الرتبة الثالثة وتواصل التكليف رغم انحساره


2019-08-30    |   

الحركة القضائية في تونس، 2019: تدابير محدودة لتحفيز قضاة الرتبة الثالثة وتواصل التكليف رغم انحساره

صدرت بتاريخ 29-08-2019 الحركة القضائية للقضاة العدليين في تونس للسنة القضائية 2019-2020. وبالنظر إلى أهميتها، وكعادتها، تنشر “المفكرة” الحركة القضائية مرفقة بملاحظات أولية حولها، يتبعها في وقت لاحق قراءة لأهم تفاصيلها على ضوء ما يتبين من معطيات و من ردود أفعال.

ملاحظة أولى: تاريخ إعلانها

أعلنت الحركة القضائية قبل نصف شهر فقط من بداية السنة القضائية التي تتعلق بها. وبذلك، يخرق المجلس الفصل 47 من القانون الأساسي المنظم لعمله، والذي يوجب أن تعلن الحركة القضائية السنوية قبل موفي الشهر السابع من كل سنة. ويؤدي هذا الخرق الإجرائي للمس من حق القضاة في أن يعلموا مواطن عملهم القضائي قبل أجل معقول من بداية السنة القضائية، وتاليا من حقهم باتخاذ التحضيرات اللازمة لأنفسهم وأسرهم، لما قد يلزمهم من تنقلات من مدن إلى أخرى.

كما يمس هذا الخرق من حسن سير مرفق القضاء، بحيث أن إعلان الحركة القضائية قبل أجل معقول من بداية السنة القضائية يتيح لمن ينازعون بنتائجها التظلم منها قبل بداية السنة القضائية، مما يضمن استقرار هيئات الحكم ويمنع الاضطراب الذي قد يتولد عن مراجعات نتائج الحركات القضائية خلال فترة العمل القضائي. ويلاحظ أن هذا الخرق حصل في الحركتين القضائيتين السابقتين، مما يؤكد أن المجلس لم ينجح في تسريع أدائه رغم ما وجه له من انتقادات بسببه. كما يلاحظ أن تقصير مجلس القضاء العدلي في احترام الآجال القانونية لإعلان الحركة القضائية السنوية يعد نسبيا فعلا أقل فداحة من الخرق المتواصل من مجلس القضاء الإداري له من خلال الامتناع عن إجراء حركة قضائية سنوية بدعوى خصوصية المحكمة الإدارية.

ملاحظة ثانية: المشمولين بالحركة أو حجمها

شملت الحركة 659 قاضيا من جملة 2337 قاضيا عدليا مباشرا أي تقريبا ربعهم. وقد شملت 283 قاضيا على مستوى الرتبة الثالثة و115 على مستوى الرتبة الثانية و261 على مستوى الرتبة الأولى. كما عززت الحركة السنوية المحاكم بثلاثة وسبعين قاضيا جديدا من خرجي المعهد الأعلى للقضاء.

تماثل الحركة الحالية في حجمها الحركة القضائية التي سبقتها. كما يؤكد توزيع من شملتهم حسب الرتب ما سبق وبرز من توجه الجسد القضائي للتقلص العددي على مستوى الرتبة الثانية في مقابل تطور عدد قضاة الرتبتين الأولى والثالثة. وتبدو هذه الظاهرة على علاقة مباشرة مع:

1- سياسة الانتدابات التي انتهجت بعد الثورة والتي سمحت بتطور عدد القضاة من 1875 خلال السنة القضائية 2010 -2011 إلى 2410 خلال السنة القضائية 2019-2020[1].

2- اعتماد مبدأ الترقية الآلية والذي كرس حق القضاة في الارتقاء من رتبة إلى أخرى بما أدى لتشبيب كبير في الرتبة الثالثة.

3- دخول تعديل قانون التقاعد حيز النفاذ، بما أدى لعدم إحالة قضاة على التقاعد خلال السنة القضائية الفائتة.

ملاحظة ثالثة: إنفاذ المجلس لقراره الترتيبي المتعلق بشروط إسناد الخطط رغم عدم نشره بالجريدة الرسمية 

أصدر المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 15-01-2019 أول قرار ترتيبي خلال عهدته وتعلق بضبط الخطط التي يمارسها القضاة من الصنف العدلي. لم تقبل رئاسة الحكومة نشر هذا الأمر الترتيبي بالجريدة الرسمية وأصدرت في المقابل بتاريخ  06-03-2019 أمرا حكوميا ينقح الأمر عدد 436 لسنة 1973 المتعلق بضبط الوظائف التي يمارسها القضاة من الصنف العدلي[2]. كشف هذا في حينه على رفض السلطة التنفيذية لتوجه المجلس لفرض استقلاله بسلطته الترتيبية وإصرارها على أن تظلّ تمارس هذه الصلاحية. تاليا وبمناسبة إصداره لمعايير الحركة القضائية، أكد مجلس القضاء العدلي أنه سيعتمد معايير إسناد الخطط التي وردت في الأمر الترتيبي الذي أعدّه رغم أنه لم ينشر. وهو أمر أكدته الحركة خصوصا على مستوى مراجعة شروط إسناد خطتي رئيس محكمة ابتدائية ووكيل جمهورية لديها وتنظير خطتي رئيس دائرة اتهام وعميد قضاة تحقيق بخطة رئيس دائرة تعقيبية.

أفضى التنظير الجديد إلى:

  • إسناد صفة رئيس دائرة تعقيبية على شاغلي 36 خطة قضائية. ويفتح هذا آفاقا مهنية جديدة لقضاة الرتبة الثالثة تعالج جزئيا مشكل انسداد تلك الآفاق بفعل قلة عدد الخطط المتوفرة في ظل المخطط الوظيفي الذي كان قائما.
  •   تعيينات جديدة هامة في خطط رئيس محكمة ابتدائية ووكيل جمهورية شملت:
  • 21 رئيس محكمة ابتدائية منهم 13 قاضية،
  • 22 وكيل جمهورية جميعهم من جنس الذكور بما يكشف عن ممارسة تمييز جندري من المجلس في مواجهة المرأة القاضية في هذه الخطة،

ويبدو عموما اجتهاد المجلس الأعلى للقضاء في تصور حلول للتغيرات التي حصلت في توزيع القضاة بين الرتب القضائية وبحثه عن حلول لإشكالية انسداد الآفاق المهنية لقضاة الرتبة الثالثة محمودا. كما يظهر إصرار مجلس القضاء العدلي على إنفاذ أول قرار ترتيبي صدر عن المجلس الأعلى للقضاء رغم معارضة السلطة التنفيذية له موقفا نضاليا يستحق التحية. ويكون من المهم انتظار كيف سيتعاطى الطرف الحكومي معه على مستويين أولهما نشر الحركة القضائية بالجريدة الرسمية وثانيهما تمتيع القضاة المنتفعين به بحقوقهم المالية والعينية المترتبة عنه.

ملاحظة رابعة: مصلحة العمل

تمت نقلة 64 قاضيا من المحاكم التي كانوا يعملون بها إلى محاكم أخرى تبعد عنها جغرافيا لمصلحة العمل في إطار الاستثناء لمبدأ عدم نقلة القاضي بدون رضاه يتوزعون إلى 27 قاضيا من الرتبة الأولى و13 قاضيا من الرتبة الثانية و24 قاضيا من الرتبة الثالثة. يتطابق عدد المشمولين بهذه النقلة مع عدد من شملتهم خلال الحركة القضائية لسنة 2018-2019. ويعود عدم تضخم هذا العدد فعليا لرفض المجلس إرجاع  من شملتهم النقلة لمصلحة العمل لمراكز عملهم قبل قضاء ثلاث سنوات كاملة من تاريخ نقلتهم.

وكشفت في هذا الإطار تحركات احتجاجية قادتها فروع الهيئة الوطنية للمحامين بالجهات المعنية بالنقلة لمصلحة العمل أياما قليلة قبل إعلان الحركة القضائية عن كون هذه الآلية لم تنجح في تحقيق جودة العدالة، كما أنها لم تعالج إشكالية نقص عدد القضاة بتلك المحاكم. ويبدو من المحتّم في سياق البحث عن حلول أنجع للمشكل تصور نظام تحفيزي للقضاة العاملين بالمناطق الداخلية.

ملاحظة خامسة: التكليف

تم تكليف سبعة قضاة بخطة مساعد وكيل جمهورية في حين أنه لا يتوفر فيهم شرط الأقدمية القانونية اللازمة لممارسة تلك الخطة. ويذكر أن ذات المجلس في الحركة القضائية لسنة  2018- 2019 كلف 11 قاضيا بذات الخطة فيما كان في الحركة التي سبقت أي حركة سنة 2017 -2018 كلّف 13 قاضيا بخطة قاضي ناحية، وكلّف 21 قاضيا بخطة مساعد وكيل جمهورية، وقاضيين بخطة قاضٍ فردي، كلهم لا يتوفر لديهم شرط الأقدمية. وفيما يستفاد من هذه المقارنة حصول تراجع كمي ونوعي هام في التعويل على التكليف، إلا أنه يكشف في الوقت نفسه عن تواصله بما لا يتناسب مع معايير استقلال القضاء أو حسن سير المرفق القضائي. فمن جهة أولى، من شأن التكليف أن يؤدي إلى إضعاف القاضي المعني به في علاقته بالمسؤولين على المحاكم، باعتبار أنه امتياز مؤقت يمكن سحبه منه في صورة تقييمه سلبيا. وهو من جهة ثانية، يمسّ بحق المتقاضي بالولوج إلى جهة قضائية تتوفر لديها الشروط المحددة قانونا لتحقيق الكفاءة المهنية (الأقدمية).

وترى “المفكرة” أن التعويل على التكليف في خطط قضائية يمس الحريات العامة ويشكل أمرا سلبيا يجب العدول عنه مستقبلا حماية لحق المواطن في قضاء مستقل وكفؤ كما ترى من المتعين التفكير في تطوير معايير إسناد الخطط القضائية بما يؤدي لإنهاء الحاجة لمثل هذه الممارسة.

وينتظر أخيرا ما سيكون من ردود فعل داخل الوسط القضائي على هذه الحركة وكذلك تفاعل المعنيين بمرفق العدالة معها لتبين نجاح المجلس من خلالها في الالتزام بالمعايير التي أعلنها وفي الاستجابة لحاجيات المحاكم من الإطار القضائي.

وتتولى في هذا الإطار المفكرة القانونية نشر الحركة القضائية تعميما لها ولا يفوتها بالمناسبة تهنئة القضاة الذين شملتهم متمنية لهم النجاح في الاضطلاع بالمهام المسندة لهم وفيما ينتظر منهم من سعي لأن يكونوا حماة للحقوق والحريات وأن يخدموا مصالح شعبهم بولاء وإخلاص.

مقالات ذات صلة:

  • وصدرت الحركة القضائية 2018-2019 في تونس… تجاوز للمهل ونقل للمصلحة العامة وتواصل ممارسات التكليف
  • ملاحظات أولية حول الحركة القضائية الجديدة في تونس
  • الحركة القضائية في تونس 2016-2017: خاتمة حركات الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي
  • قراءة في الحركة القضائية لسنة 2015 في تونس: معايير موضوعية رغم الصعوبات العملية
  • قراءة اولية في الحركة القضائية 2014-2015 في تونس

 

 


[1]   الغاية من تلك الانتدابات  تحسين ظروف عمل القضاء والاستجابة لحاجيات المحاكم من القضاة خصوصا منها المحاكم التي أحدثت خلال ذات المدة وهي 7 محاكم استئنافية  – باعتبار محكمة استئناف سليانة ومحكمة ابتدائية ومحكمتي ناحية (بئر علي بن خليفة – غمراسن).

[2]  أمر حكومي عدد 220 لسنة 2019 مؤرخ في 6 مارس 2019 يتعلق بتنقيح الأمر عدد 436 لسنة 1973 المؤرخ في 21 سبتمبر 1973 المتعلق بضبط الوظائف التي يمارسها القضاة من الصنف العدلي

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني