حوارات “محافظة” حول الحقوق الإرثية في تونس: نعم للاجتهاد، لا للإسقاط


2018-10-01    |   

حوارات “محافظة” حول الحقوق الإرثية في تونس: نعم للاجتهاد، لا للإسقاط

ما زالت مسألة المساواة في الإرث تتفاعل في تونس. فبعدما بلغ النقاش حولها أوجّه في 13 أوت (يوم المرأة) من العام 2017 تبعا لدعوة رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي لتكريسها، عادت لتبرز مجددا بعدما وضعها السبسي في رأس أولويات إصلاحاته الحقوقية في 13 أوت 2018.

وبعيدا عن حدة النقاش الايديولوجي السياسي والإجتماعي، برزت مؤخرا مبادرات لفتح قنوات حوار جادّ في هذا الشأن، آخرها جلسة حوار مفتوح دعا إليها مركز دراسة الإسلام والديمقراطية بتاريخ 30 أوت 2018 تحت عنوان: “كيف يكون الإجتهاد في التشريع الإسلامي في موضوع الميراث؟”. وقد ضمت الندوة خمسة من أبرز المفكرين التونسيين المتخصصين بالشأن الديني والفقهي، إلى جانب عدد كبير من الحضور، من ضمنهم سياسيين وباحثين، وطلاب. وفيما تميز صلاح الدين الجورشي (وهو أحد أعضاء لجنة الحقوق الفردية والمساواة) بموافقته على مبادرة المساواة في الإرث، تحفظ الآخرون على مبادرة السبسي لأسباب مختلفة نعرضها أدناه ضمن مواقف أربعة، رغم تسليمهم جميعا بمشروعية الاجتهاد وأهميته.

وقبل المضي في عرض هذه المواقف، تجدر الإشارة إلى أن المركز يعدّ مقربا من حركة النهضة.

الموقف الأول: الاجتهاد ليس مشكلة في ذاته، المشكلة هي في تبعاته

كانت البداية مع أ.حميدة النيفر، وهو من مؤسسي تيار الإسلام اليساري في تونس في سبعينيات القرن الماضي بعد إنشقاقه عن حركة الإتجاه الإسلامي (أي حركة النهضة سابقاً)، ويشغل حالياً منصب رئيس الرابطة التونسية للثقافة والتعدد. تميّز موقف النيفر باعتناقه موقف التيار الإسلامي المحافظ. فقد عبّر في كلمته عن تداعيات إقرار قانون يساوي بين الرجل والمرأة في الإرث على تماسك وترابط الأسرة التونسية، بحكم إيمانه أن نظام المواريث الإسلامي أكثر إنصافاً في توزيع التركات. وفيما أبدى النيفر أن الغاية الأساسية من الإجتهاد في الإسلام هي تحرر الفرد في سبيل تعزيز إمكانية مساهمته في بناء الحضارة، فإنه رأى أن المساواة في الإرث لا ترتبط بهذه الغاية مما ينفي الحاجة للاجتهاد في سبيل تحقيقها. فالمشكلة ليست في الاجتهاد إنما في تبعاته. فلا يكفي النظر فيما إذا كان من الممكن تبرير المساواة في الإرث شرعا، بل يقتضي النظر أولا فيما إذا كان من شأن اعتماد المساواة أن يحرر الفرد ويحقق مصلحة المجتمع.

ولتبيان وجهة نظره، استعان النيفر بنازلة لأحد مشايخ الزيتونة. ففي خضم جدل حول شرعية الشوكولاتة، على اعتبار أنها دخيلة على ثقافة المجتمع، رأى أحد مشايخ الزيتونة أنها حلال بعدما بادر وكيل الشوكولاته إلى صنعها في محضره. “اجتهاده في ذلك كان صائبا ولكن لم يدرك (الشيخ المذكور) أن ادخال الشوكولاته إلى تونس غير النظام الغذائي في البلاد. فهو أعطى اجتهادا من دون النظر في تبعاته”.

الموقف الثاني: المساواة المطلقة هي إسقاط وليس اجتهادا

الموقف الثاني جاء على لسان أ. ناجي الحجلاوي، وهو أستاذ التفسير بالمعهد العالي للحضارة الإسلامية في تونس. فقد رأى الحجلاوي أن الإجتهاد الذي يستند إلى المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة لا يعد إجتهادا بل إسقاطا. فهو لا يسعى إلى استشراف مصلحة الفرد والمجتمع في قضية معينة، إنما ينطلق من مسلمة المساواة المطلقة لإسقاطها على مختلف جوانب الحياة، ومنها المساواة في الحقوق الإرثية.

الموقف الثالث: الاجتهاد من قلب المنظومة الفقهية

الموقف الثالث جاء من أ. محمد القوماني، وهو عضو في المكتب السياسي لحركة النهضة. فبعدما أبدى خلافا لوجهتي نظر “النيفر” و”الحجلاوي”، تأييده لضرورة تطوير فكر المساواة، (بما فيها المساواة في الإرث بين الرجال والنساء) رأى أن ثمة ضرورة لحصول ذلك من داخل المدارس الفقهية. وعليه، إنتقد “القوماني” ما قام به الباجي قايد السبسي واللجنة عموماَ بإبعاد المسائل المطروحة عن الإسلام.

وكان صلاح الدين الجورشي الذي هو من مؤسسي تيار الإسلام اليساري في السبعينيات، دعا المؤسسات الدينية وعلى رأسها جامعة الزيتونة لاستغلال الفرصة الذهبية لتطوير اجتهادها حول المسائل الاجتماعية المتفرقة وبخاصة لجهة تطوير جدلية النص القرآني الثابت مع الواقع المعاش المتحرك. وقد ذكر الجورشي بأن هناك آيات أحكامها واضحة في القرآن، جُمّد العمل بها أو تم التغاضي عنها، مثل تحريم الربى وعقوبة الزنا.

الموقف الرابع: تجديد المنظومة الفقهية أولا

هذا الموقف جاء على لسان أ. محمد الشتيوي، مدير البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة. وقد ركز على وجوب تجديد المنظومة الفقهية أولا واستشراف طرق جديدة لتطوير عملها. ومن اللافت أنه عبّر في سياق مداخلته عن رفضه لمقولات مثل “لا إجتهاد مع النص”، “المعلوم من الدين”، و”نص قطعي الدلالة”، مقترحاً قراءات جديدة للنص الديني بدلاً من معاودة قراءة التأويلات الجاهزة للنص القرآني.

في الواقع، المراقب لتفاعل الجمهور المتواجد في القاعة مع المحاضرين لا يمكن أن يغفل عن حالة الإحتقان والإعتراضات التى وجهها بعض الحضور للمفكرين المناصرين لمسألة المساواة في الإرث. ولكن ما نستطيع إستخلاصه من هذه الجلسة، هي في المقام الأول جرأة طرح موضوع شائك وإشكالي، كما موضوع المساواة في الإرث، أمام العامة والحديث بحرية عن إمكانية الإجتهاد في الإسلام لما فيه تطوير لمنظومة الحقوق والحريات في تونس. إستمرار الحديث عن مثل هذه المواضيع، خصوصاً من داخل الساحة الإسلامية المحافظة، ومن داخل حزب إسلامي كما النهضة، سيخفف من دون ريب من حدّة التمسك الإيديولوجي والسياسي بالمواقف الجاهزة وسيزيد من مرونة وتقبل الآخر، مما يعزز الحظوظ في امكانية التطوير والتحديث في جو ديمقراطي مسالم في تونس. على أمل أن يتوفر الميل للحوار والانفتاح نفسه لدى المنظمات الأكثر قربا من القوى المحسوبة على “الحداثة”.

مقالات ذات صلة

المفكرة القانونية، الحقوق، السياسة ومبادرة الحقوق الفردية والمساواة: التمايز السياسي والأيديولوجي أولاً، المفكرة القانونية – تونس، عدد 12، 2018-09-19

د. وحيد الفرشيشي، “تونس” وضعت تقريرا مميزا حول الحريات الفردية والمساواة: أي حريّات للجمهورية الثانية في ظل “التوجّهات المعاصرة لحقوق الإنسان”؟، 2018-06-12

د.وحيد فرشيشي، تقرير اللجنة التونسية للحريات الفردية والمساواة: أو عندما يصبح للمفاهيم معنى، المفكرة القانونية تونس، عدد 12،  2018-09-18

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني