أزمة الحكم في تونس تعصف بثوابت العدالة الانتقالية وتعلن مصالحة انتقائية


2013-08-09    |   

أزمة الحكم في تونس تعصف بثوابت العدالة الانتقالية وتعلن مصالحة انتقائية

  بعد أن وصلت الأزمة السياسية بين الأغلبية الحاكمة وحلفائها والمعارضة التونسية الى أفق مسدود نتيجة تمسك كل طرف بموقفه الذي يرفض أطروحات الطرف المقابل، وبعد أن تبارى الطرفان في ابراز قوة تأثيرهما في الشارع السياسي من خلال الحملات الاعلامية المنظمة والتحركات الاحتجاجية، عاد الحديث عن التوافقات وسيناريوهات التسوية ليطفو على السطح من خلال رسائل تبادلت توجيهها الاطراف المتنازعة دعمت مارطون الاستقبالات السياسية التي شكلت اختراقات لجدار الفصل بين الطرفين رغم تواصل الجفوة بينهما.
كان الحديث عن التوسيع في تركيبة الحكومة والقبول بمجلس اسناد سياسي لها الرسالة المعلنة التي وجهتها الأحزاب السياسية الحاكمة لنظيرتها المعارضة لتكون عنوانا لمقترح الانفراج في التواصل بينها، بينما كان الحديث عن حكومة وفاق وطني غير متحزبة الطرح الذي قدمته جبهة الرفض للتدليل على قبولها باستمرارية المسار الانتقالي بعدما كانت في بداية الازمة تطرح فكرة القطيعة الكاملة مع جملة الاطراف التي تشارك حاليا في منظومة الحكم القائمة. وبصرف النظر عن المبادرات ذات الصبغة السياسية والتي تتعلق بشكل الحكومة واسلوب الحكم والتي شغلت متتبعي الازمة السياسية في تونس ولم تصل بعد لدرجة من النضج تسمح بالحديث عن مخرج من الازمة، فقد برزت في هامش الرسائل المشفرة المتبادلة تصريحات ومبادرات كشفت عن ان ملف العدالة الانتقالية يحتل في واقع الامر حجر الاساس في التحركات الجارية بما يمكن معه تصور تغييرات جذرية مستقبلا في تعاطي مختلف الاطراف مع استحقاق حل اشكالات تركة الماضي متى بدأت غيوم الصراع المفتوح تنقشع.
تمثلت المبادرات التي طرأت على هامش الازمة في حديث عن امكانية صرف النظر عن قانون تحصين الثورة أو تأجيله ليكون البت في شأنه ضمن قانون العدالة الانتقالية. كما كان في تصريح الحكومة باعتزامها سن قانون خاص يكفل تسوية ملفات رجال الاعمال المتهمين بالضلوع في الفساد من التعبيرات الاخرى التي بينت التوجه الجديد فيما كان استقبال رئيس الجمهورية لشخصيات سياسية محسوبة على النظام السابق العنوان الابرز للمراجعة الشاملة لملف المصالحة الوطنية كأحد مخارج الأزمة الطارئة.
تفجرت الأزمة السياسية يوم 25 جويلية 2013 بينما كانت تونس تحتفل بالذكرى 56 لعيد الجمهورية بعدما تعمدت احدى الخلايا الارهابية اغتيال عضو المجلس الوطني التأسيسي الشهيد محمد البراهمي. ونجح الارهابيون في تحقيق اهدافهم مرحليا من عملية الاغتيال اذ كان لفعلهم الآثم اثر الزلزال المدمر على الساحة السياسية، فتعددت الخصومات السياسية وحاولت بعض الاطراف فرض حل المجلس الوطني التأسيسي والحكومة بفعل الاحتجاجات الشعبية وانسحابات جزء من نواب المعارضة من المجلس فيما عد جزء من النخبة السياسية هذا التمشي قفزا نحو المجهول يحاول استنساخ النموذج المصري.
كانت الازمة في ظاهرها نتيجة لحدث طارئ غير ان هشاشة الوفاق السياسي الذي سبق واقعة الاغتيال بين ان الانفجار الطارئ ليس في واقع امره الا نتيجة حتمية لتباعد الرؤى بين الاطراف الفاعلة على الساحة. ويتضح من مراجعة الازمات التي سبقت القطيعة الطارئة ان الشرخ في الطبقة السياسية يجد جذوره في خلافات عميقة سبقت الاغتيال وعمقها العنف السياسي وكان الاغتيال مناسبة للتعبير عنها بشكل صدامي.
 وبدا ملف المصالحة الوطنية والتعاطي مع تركة الماضي من اسباب الازمات الكامنة وغير المعلنة على اعتبار ان شقا هاما من الطيف المعارض اعتبر في سعي الاغلبية الحاكمة للقفز على قانون العدالة الانتقالية واستباقه بسن قانون للعزل السياسي تحت مسمى قانون تحصين الثورة محاولة من السلطة القائمة لاقصائه كخصم سياسي في المحطات الانتخابية القادمة. فيما اعتبر طيف من رجال الاعمال ان التأخر الحاصل في تسوية ملفات رجال الاعمال المتهمين بالاستفادة من الفساد في ظل النظام السابق سببا في تعطيل الدورة الاقتصادية ومبررا للتصريح بفشل دوائر الحكم والمطالبة بتنحيتها.
وفي هذا السياق بادرت السلطة القائمة في خضم الازمة وعلى وقعها الى اعلان مراجعات هامة لموقفها في الموضوع فأعلن بتاريخ غرة اوت 2013 ان رئيس الحكومة أشرف بقصر الحكومة بالقصبة على جلسة للتنسيقيّة المنبثقة عن المجلس الأعلى للتصدّي للفساد واسترجاع الأموال المنهوبة وممتلكات الدولة والتصرّف فيها.وأبرز الوزير لدى رئيس الحكومة المكلف بالملف السياسي في تصريح اعلامي له عقب الاجتماع أن جلسة التنسيقيّة المنبثقة عن المجلس الأعلى للتصدّي للفساد ناقشت في جزء كبير من أشغالها ملف رجال الأعمال الممنوعين من السّفر مشيرا إلى أن الاتجاه العام داخل المجلس اليوم يسير نحو فضّ هذا الملف وحسمه بشكل نهائي وبات وفي إطار ضمان الاستقلال التام للقضاء، مضيفا انه ينتظر أن تتم التسوية القانونيّة ضمن قانون خاص يمكّن المجموعة الوطنية من استرجاع حقها من هذه الأموال التي نهبت أو تمّت الاستفادة منها دون وجه شرعي، وهو قانون مرتبط فقط بالجرائم الاقتصادية ولا يتعلق بجرائم الاستبداد وغيرها من الجرائم على أن يتم في مرحلة ثانية استثمار هذه الأموال حال استرجاعها في المناطق الأكثر تضرّرا من نظام الاستبداد والفساد وفي إنجاز عدد من المشاريع ذات الطابع الاجتماعي. فيما أعلن رئيس حزب حركة النهضة الاستاذ راشد الغنوشي بتاريخ 05/08/2013 ان حزبه لم يعد يتمسك بقانون تحصين الثورة وأضحى يقبل بصرف النظر عنه، وفي ذات التاريخ استقبل رئيس الجمهورية التونسية يقصر الرئاسة الاستاذ حامد القروي نائب رئيس حزب التجمع الدستوري المنحل والوزير الاول السابق في نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ليتباحث معه في الحلول التي يجب توخيها للخروج من المأزق السياسي القائم.
وفي الجهة المقابلة أي في تجمع المعارضة أضحى التنسيق معلنا بين الجبهة الشعبية التي تمثل أبرز تجمع للأحزاب ذات المرجعية اليساريةوحزب نداء تونس الذي يعد أحد اهم الاحزاب التي تنادي بالسماح لأعضاء الحزب الحاكم السابق وكوادره بممارسة العمل السياسي وتعارض بشدة أي محاولة لإقصائهم. وبرزت المصالحة الفعلية بين الطرفين خصوصا في تحرك قواعدهما المشترك اثناء اعتصام الرحيل الذي يعد اهم تحرك يرفع شعار حل الحكومة وفي البيانات المشتركة بين قيادات الكتلتين السياسيتين المكونتين للجزء الاكبر من جسم المعارضة.
نجحت المعارضة اليسارية في خضم الصراع في بناء تحالف مع من كان قانون تحصين الثورة يستهدف وجودهم السياسي. كما نجحت في استمالة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة أبرز منظمة نقابية تمثل أرباب العمل بتونس الى صفها وكانت هذه المنظمة تبنت بشكل كامل مطالب منظوريها من رجال الاعمال الذين شملتهم تتبعات جزائية في إطار ملفات الفساد المالي والسياسي ابان الحقبة الاستبدادية. وشكل هذا التحرك المشترك تعبيرا صريحا عن تبني رؤية جديدة قوامها الالتفات عن خلافات الماضي وملفاته للتوحد في مواجهة الاغلبية الحاكمة التي يقدرون انها تسعى الى تغيير نمط المجتمع التونسي الحداثي. وتبينت في الشق المقابل الاغلبية الحاكمة مع احتدام الازمة انها فقدت جزءا من حلفائها وأضحت تواجه طبقة سياسية موحدة ترغب في الاطاحة بها جراء تمسكها بما سماه رئيس الحكومة التونسية بالقوانين المثيرة للجدل ويقصد بها اساسا قانون تحصين الثورة.
 ويتضح مما سلف ان تأجيل فتح ملف تركة الماضي والتعامل الانتقائي معه في إطار حامت الشبهات حول خضوعه للحسابات السياسية للأطراف المتصارعة كان من الاسباب الحقيقية التي ذكت الازمة السياسية الراهنة وحددت تحالفات صراعاتها. ويبدو ان التغير الطارئ والذي بدأت تتضح بعض معالمه من خلال التحالفات القائمة ومبادرات الحكومة والاطراف السياسية والذي حكمته المصالح السياسية بعيدا عن حديث المبادئ والشعارات افضى فعليا لتحريك ملف العدالة الانتقالية في اتجاه التسريع بطي صفحة الماضي دون الغرق في المحاسبة في مواجهة الاطراف الفاعلة المعنية أي رجال الاعمال والسياسيين.
 وعليه، أدت الازمة السياسية قبل ان تتجه نحو الانفراج أو تثبت نصر شق على الآخر الى تغييرات جذرية في تصور مختلف الاطراف لملف المصالحة الوطنية فبرزت تحالفات تنبئ عن تحققها فعليا في ساحة المعارضة فيما كشفت الحكومة عن توجهها الى تجاوز الدخول في متاهات المحاسبة. وكان الكاسب الاكبر من الازمة الحاصلة رجال الاعمال وكبار السياسيين الذين تورطوا في منظومة الفساد فأضحت الاستيلاءات على المال العام والاثراء على حساب المجموعة الوطنية مجرد مخالفات اقتصادية في نظر الحكومة وأضحى الحديث عن تركة الماضي بالنسبة للمعارضة التفاتا عن استحقاقات المرحلة.ويتضح مما سلف ان البراغماتية السياسية والرؤية المصلحية عجلت بمصالحة وطنية ولدت في رحم أزمة طاحنة وقامت هذه المصالحة التي ولدت بشكل قيصري على تناسي شعارات استعملت سابقا من قبيل كشف الحقيقة والمحاسبة، في إطار الاستفادة من صراع سياسي على السلطة انتهى الى إرساء قواعد تعامل جديدة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، عدالة انتقالية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني