تعليق العمل بالعفو الرئاسي في الأعياد في تونس: اقتراحات غير موفقة لجعله مسؤولية وليس امتيازا


2013-07-25    |   

تعليق العمل بالعفو الرئاسي في الأعياد في تونس: اقتراحات غير موفقة لجعله مسؤولية وليس امتيازا

أعلنت رئاسة الجمهورية التونسية في بلاغ صدر عنها يوم 23 جويلية 2013 أن رئيس الجمهورية لن يعلن عفوا[1]عن المساجين بمناسبة عيد الجمهورية يوم 25 جويلية. ولأن جريان العمل وعرف الممارسة كان يقتضي أن يعلن رئيس الجمهورية التونسية بمناسبة كل عيد عفوا يشمل عددا من المساجين، فان امتناع رئيس الجمهورية عن ممارسة العفو في مناسبة وطنية هامة يشكل حدثا ذا دلالة. وسعيا لتوضيح أهداف القرار وخلفياته تضمن بلاغ رئاسة الجمهورية "أن رئيس الجمهورية كون لجنة ضمت ممثّلين عن الوزارات المعنية ومنظمات المجتمع المدني المهتمة بشأن المساجين، وانتهت اللجنة إلى صياغة جملة من التوصيات التي تهدف في جانب منها إلى مراجعة معايير العفو الخاص، وفي جانب آخر إلى مراجعة جوانب ترتيبية وتنظيمية، ومنها ما يتعلق بمواعيد العفو الخاص.
وتهم التعديلات خصوصا مسألة التشدد في معايير العفو بالنسبة للعائدين من مرتكبي جرائم السرقة وترويج المواد المخدرة، والمرونة في معاملة مطالب العفو التي تهم النساء. وبالنسبة لمواعيد العفو فقد تقرر فصل مواعيد العفو الخاص عن مواعيد السراح الشرطي الذي يمنحه وزير العدل في إطار ما تخوله له أحكام مجلة الإجراءات الجزائية لتخفيف الانعكاسات الأمنية للإفراج عن المساجين بموجب الآليتين المذكورتين. وانتهى للتنبيه كونه بالنسبة لعيد الجمهورية وعيد الفطر المبارك، فقد تقرر تطبيق مبدأ فصل المواعيد وذلك بمنح السراح الشرطي بمناسبة عيد الجمهورية ومنح العفو الخاص بمناسبة عيد الفطر."

بين البلاغ أن غياب العفو الرئاسي عن عيد الجمهورية لن يكون حدثا عابرا وانما ستعقبه غيابات أخرى للعفو في غيره من الأعياد. ويأتي غياب العفو المتعمد ليقطع مع تقليد يربط آليا بين الأعياد والمناسبات الرسمية والعفو عن المساجين ويكشف للعموم أول ثمرات مراجعة مقاييس العفو.
             جاء القرار المعلن على خلفية حملة انتقادات وجهت سابقا لآلية العفو الرئاسي خصوصا بعد أن تم في إثر الثورة في المناسبات الوطنية والأعياد الرسمية الافراج عن عديد كبير من المساجين عاد البعض منهم ليقترف جرائم مباشرة بعد الافراج عنهم[2]. وان سعت رئاسة الجمهورية للتأكيد على تمسكها مستقبلا بممارسة العفو الخاص على اعتبار أنه صلاحية قانونية فان مجرد القبول بإخضاع العفو للمراجعة النظرية يدفع ضرورة لطرح السؤال حول علاقته بمنظومة العدالة الجزائية من جهة العلاقة التي يرسيها مع الاحكام القضائية والاشكالات النظرية التي تترتب على ذلك خصوصا منها دوره في السياسة العقابية للدولة بعد مرحلة الحكم وخلال تنفيذه.
           وتبين المقاربة النظرية أن العفو الخاص يمنح رئيس الجمهورية سلطة مراجعة الأحكام القضائية النهائية في اتجاه الحط من العقوبات التي تضمنتها أو في اتجاه منع تطبيقها مع استمرار مفاعيلها كسوابق عدلية ويصل الى حد استبدالها بعقوبات دونها في درجات سلم العقوبات. ويعد بالتالي الاعتراف لرأس السلطة التنفيذية بممارسة العفو قبولا صريحا بحقه في التدخل في مجال عمل القضاء. إذ يحول العفو الرئاسي فعليا مدد العقوبات التي تصدر بها الأحكام الى مجرد عقوبات نظرية تقبل الحط خصوصا في حالات المدد السجنية الطويلة التي تتم مراجعتها دوريا في اتجاه التنقيص منها وفي حالات العقوبات السجنية القصيرة التي يرفع مفعولها بشكل شبه آلي بمناسبة العفو. فيما يكون تصريح رئيس الجمهورية بالعفو دون أن يكون المحكوم عليه قد قضى أي مدة من العقوبة أو استبداله للعقوبة المحكوم بها بغيرها تعبيرا منه عن تقديره لعدم تلاؤم العقاب المحكوم به مع الفعلة أو اعتباره أن تسليط العقاب يتعارض مع مصالح أخرى لا يطالب بالإفصاح عنها.
ويؤدي الربط بين العفو كآلية لمراجعة العقوبات ونظرية تفريد العقوبات التي يفترض أن يحرص القضاء على تحقيقها في كثير من الحالات إلى إفراغ العقوبة المحكوم بها من دورها بعد ان يتم اختصار مدتها كما أدت اليه المبالغة في إعلان العفو الرئاسي بحثا عن أغراض سياسية بعيدة عن منطق العدالة الجزائية الى تنمية حالات العود الجزائي[3] بعدما متع بالعفو عدد من المحكوم عليهم لم يثبت سلوكهم بالمؤسسات السجنية تطورا في اتجاه الابتعاد عن السلوك الانحرافي فكان العفو عندهم مناسبة ليعاودوا ذات الأفعال الإجرامية التي حوكموا من أجلها سابقا.
وفي المقابل، فان العفو الرئاسي يلعب في المثال التونسي ذلك دورا ايجابيا داخل المنظومة السجنية اذ أن سعي عدد من المحكوم عليهم بمدد سجنية طويلة إلى معاودة الحياة الاجتماعية يدفعهم الى الانخراط في منظومة الإصلاح السجنية بتلقائية بغاية التحصل على تزكية ترشحهم للتمتع بالعفو بما يطور من سلوكهم في اتجاه الالتزام التلقائي بالنظام الداخلي للسجون ويسهل تعامل ادارة السجون معهم بما يقلل من حالات الخروج عن النظام. فيكون العفو بالتالي أداة للإصلاح تحفز المحكوم عليهم وتزرع لديهم أملا بعد صدور أحكام باتة في حقهم. كما أضحى العفو بعد أن اكتظت المؤسسات السجنية بأعداد هامة من الموقوفين والمحكوم عليهم بعقوبات سجنية قصيرة تتجاوز الطاقة الفعلية لقدرة السجون على استيعاب نزلائها متنفسا هاما يخفف من أزمة المؤسسة السجنية ويمنع انهيارها.
 ويتبين مما سلف أن حق العفو الخاص إجراء بات حسن تطبيق العقوبات يفرض تواصله بقطع النظر عن تاريخية ارسائه[4] وحساسية علاقته باستقلالية القضاء. الا أن واجب الحرص على منع تحوله إلى أداة للدعاية الشعبوية للحاكم كما كان الحال سابقا يستدعي ترشيد استعماله بالقطع مع فكرة الاقتران الآلي بينه وكل الأعياد الوطنية والدينية، ليكون العفو صلاحية تمارس بالنظر الى حالات تستوجبها لا الى مناسبات تستدعيها.
وكان ينتظر من رئاسة الجمهورية التونسية وقد تولت اعادة النظر في تعاطيها السابق مع حقها في منح العفو أن تتجه نحو ادخال اصلاحات جوهرية على المؤسسة تحقق لها تطورا نوعيا وثوريا يؤكد سلطة القانون ويضمن التواصل بين القضاء بوصفه المسؤول الاول عن العدالة الجزائية ورئاسة الجمهورية صاحبة الصلاحية بما يؤدي الى شفافية أكبر لمؤسسة العفو الخاص يكون منطلقها الاعلان عن معايير اسناده والتي ظلت الى اليوم مجرد تقاليد تعتمدها اللجان الخاصة ولا تؤطرها النصوص التشريعية. غير أن ما أعلن عنه من خطوط عريضة لنتائج المراجعة التي أجريت والتي تمثلت في إعلان التشدد مستقبلا في منح العفو للمتهمين العائدين في جرائم السرقة وترويج المخدرات مقابل المرونة في منح العفو للمحكوم عليهن من النساء يبين أن الموقف الرسمي لم ينجح في ايجاد بدائل تطور العفو بقدر ما سعى الى الاستجابة لاعتراضات المؤسسة الأمنية التي أبدت سابقا تذمرها من تواتر العفو على مقترفي السرقات ومروجي المخدرات مع سعي الى إبراز التزام الرئاسة بالقضية النسوية في سياق غير مناسب أبدا. اذ ما معنى ان تحظى النساء بتمييز إيجابي في تمتيعهن بالعفو؟
 وختاما ورغم نقائص الخطوة المعلنة، يبدو موقف رئاسة الجمهورية التي اعترفت ضمنيا بخطئها السابق عندما مارست العفو الخاص بإسراف ايجابيا ومؤشرا على دور الرأي العام والمجتمع المدني في التأثير على قراراتها في إطار اللعبة الديمقراطية. وينتظر من القضاء أن يجري ذات المراجعة لأحكامه خصوصا منها تلك التي تبرز مبالغته في التصريح بأحكام سالبة للحرية لكيلا يكون اكتظاظ السجون مستقبلا سببا في عمليات عفو تضر بمنظومة العدالة الجزائية. كما يؤمل أن تتولى الهيئة المؤقتة للإشراف على القضاء العدلي التي يجيز لها القانون إبداء الرأي في التشريعات الجارية التي تتعلق بالقضاء صياغة تصورات تفعل دور مؤسسة قاضي تنفيذ العقوبة في مادة العفو الخاص من خلال فرض استشارته الوجوبية. وينتظر من جهة أخرى من الحكومة أن تتجه نحو تطوير السجون في ظروف الإقامة بها وقدرتها على الاستيعاب عوض أن تعتمد العفو والسراح الشرطي كحلول تلفيقية لأزمات هيكلية عميقة بما يفسد دور الآليات القانونية ويمنع الإصلاح الحقيقي.



.[1]    العفو الخاص صلاحية يمنحها القانون التونسي لرئيس الجمهورية وتتمثل في امكانية اذنه بإسقاط العقوبة او استبدالها او الحط منها وضبطت مجلة الاجراءات الجزائية التونسية هذه الصلاحية التي ذكرت بالفصل 371 انها ﺇﺴﻘﺎﻁ ﺍﻟﻌﻘﺎﺏ ﺍﻟﻤﺤﻜﻭﻡ ﺒﻪ ﺃﻭ ﺍﻟﺤﻁﹼﻤﻥ ﻤﺩﺘﻪ ﺃﻭ ﺇﺒﺩﺍﻟﻪ ﺒﻌﻘﺎﺏ ﺁﺨﺭ ﺃﺨﻑﹼﻤﻨﻪ ﻨﺹ ﻋﻠﻴﻪ القانون فيما نص الفصل 372 ان ﺤﻕ ﺍﻟﻌﻔﻭ ﺍﻟﺨﺎﺹ ﻴﻤﺎﺭﺴﻪ ﺭﺌﻴﺱ ﺍﻟﺠﻤﻬﻭﺭﻴﺔ ﺒﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺘﻘﺭﻴﺭ ﻤﻥ ﻜﺎﺘﺏ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﻟﻠﻌﺩل ﺒﻌﺩ ﺃﺨﺫ ﺭﺃﻱ ﻟجنة العفو وبين الفصل 373 ان العفو الخاص لا يشمل الا المحاكمات الباتة ويمكن ان يكون بشرط او بدونه.
[2] في غياب احصائيات رسمية تفصيلية تبين عدد الذين تم تمتيعهم بالعفو بعد ارساء المؤسسات الشرعية فان مصادر صحفية تولت دراسة بلاغات العفو التي صدرت عن رئاسة الجمهورية تذكر انه تم تمتيعنحو 17991 سجينا بالعفو الخاص خلال سنة ونصف فقط  
                                                                                                  http://jadal.tn/23616            -يراجع موقع
[3]تولت السلطة السياسية مباشرة بعد الثورة في سعيها لتحفيز من فروا من السجون إثر الاضطرابات التي رافقتها الى دعوة من فروا لتقديم أنفسهم وتعهدت لهم بتمكينهم من العفو كان تم اسناد العفو لمجابهة اكتظاظ السجون الذي نجم عن حرق عدد من المؤسسات الامنية وذلك فيما يبدو دون اعتبار لشخصية المحكوم عليهم.
[4]كان العفو الخاص في منطلقه جزءا من موروث يقوم على الاختصاص الاصلي للحاكم المطلق في تسليط العقوبات وتفويضه لاحقا لصلاحيته للقضاء بما يجيزه استعادة ما منحه من سلطة في إطار عفوه غير ان عددا من الأنظمة الديمقراطية الحديثة حافظت على العفو الرئاسي في إطار تحقيق ديناميكية في العلاقة بين السلط داخل الدولة وجعلت من العفو سبيلا لإصلاح الأخطاء القضائية كما حافظت بفضله على استقرار مجتمعاتها ومنها الجمهورية الفرنسية الخامسة التي استوحى منها المشرع التونسي نظام العفو الخاص به.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، محاكمة عادلة وتعذيب ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني