المغرب: حملة “المقاطعة”.. احتجاج “افتراضي” بآثار واقعية


2018-05-21    |   

المغرب: حملة “المقاطعة”.. احتجاج “افتراضي” بآثار واقعية

يعيش المغاربة في الأسابيع الأخيرة على إيقاع حملة احتجاجية فريدة من نوعها. ففي الوقت الذي شهدت مدينة الحسيمة ونواحيها قبل أكثر من سنة مسيرات حاشدة احتجاجاً على مقتل بائع للسمك طحنا داخل شاحنة نفايات، وللمطالبة بتنمية المنطقة وإيجاد فرص للشغل، وأشهراً قليلة على اندلاع احتجاجات مدينة جرادة المطالبة بـ "فك العزلة" عن المنطقة ووضعها على طريق التنمية، يخوض المغاربة هذه الأيام احتجاجاً افتراضياً، فقط عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن بآثار اقتصادية واقعية، مست أساساً ثلاث شركات لإنتاج مواد استهلاكية محورية في حياة المواطنين.

وقبل أسابيع قليلة، انطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دعوات غير معروف مصدرها، تحث المواطنين على "مقاطعة" منتوجات ثلاث شركات كبيرة، واحدة تنتج الحليب ومشتقاته، والثانية توزع المحروقات وتبيعها، والثالثة متخصصة في المياه المعدنية.

 

حملة غير مسبوقة..

يصف الإعلامي المغربي، ياسر الخلفي، هذه الحملة بـ"غير المسبوقة"، موضحاً أن "المغرب لم يسبق له أن شهد مثلها، سواء من حيث التأثير أو طول النفس، وأيضاً الأساليب المعتمدة فيها". وأكد في تصريح للمفكرة القانونية، أنه إلى حدود الساعة "لا يُعرف من هم أصحاب هذه الفكرة، على الرغم من تبنيها من طرف فئة واسعة من المغاربة، جلهم لا انتماءات سياسية لهم".

وأضاف أن المنخرطين في حملة المقاطعة يرفضون إلى حدود الساعة الدخول في أي شكل احتجاجي في الشارع، مُرجعا ذلك إلى "عدم رغبتهم في الاحتكاك مع بعض الرافضين للحملة، أو إعطاء الفرصة لأشخاص آخرين لإجهاضها من خلال دس بعض المشاغبين أو جر المحتجين لمواجهات مع الأمن".

وقال: "كانت هناك الكثير من الحملات الافتراضية. إلا أنها بقيت محصورة في طابعها الافتراضي، كسحب الإعجاب ببعض الصفحات، أو ترويج رسائل معينة"، ليستدرك بالقول إن "هذه الحملة جمعت بين الافتراضي والواقعي، من خلال الدعاية والإقناع عبر العالم الافتراضي، والضغط على الحكومة والشركات المعنية من خلال إلحاق خسائر مادية عبر التوقف عن شراء بضائعها".

بدوره، يرى المحلل السياسي عادل بنحمزة، أن اقتصار الحملة على مواقع التواصل الاجتماعي فقط، دون الخروج إلى الشارع، جعلها تضمن مشاركة واسعة، خاصة أنها "عطلت المبررات الأمنية وفي نفس الوقت حققت أهدافها بأقل تكلفة".

وأوضح بنحمزة في تصريح للمفكرة القانونية، أن هذا الاختيار ساهم في التحاق فئات واسعة كانت تتوجس من خيار النزول للشارع وما يمكن أن ينتج عنه من مواجهات أو اعتقالات، أو ربما انفلاتات قد تحيد بالحركة الاحتجاجية عن مطالبها الاجتماعية والاقتصادية"، بحسب تعبيره. ولفت إلى أن "هذه مجموعة من الحركات الاحتجاجية السابقة. ورغم طابعها السلمي، وُجهت بقبضة أمنية قوية وشهدت حملة اعتقالات واسعة ومحاكمات ما تزال مستمرة إلى اليوم، وسط ملاحظات المنظمات الحقوقية بأنها عرفت وتعرف مسا بأسس المحاكمة العادلة".

وزاد "لقد اشتغل العقل الأمني للدولة في مواجهة حركة مدنية ذات مطالب اجتماعية، فيما تراجعت المقاربة التنموية التي كان من المفترض أن تكون الجواب عن الأسئلة الحارقة التي حملتها مطالب المتظاهرين آنذاك".

وشدد على أن اختيار عدم النزول إلى الشارع، ساهم في التحاق فئات واسعة كانت تتوجس دائما من اختيار المظاهرات وما يمكن أن ينتج عنها من مواجهات واعتقالات أو انفلات قد يحيد بالحركة الاحتجاجية عن مطالبها الاجتماعية والاقتصادية.

وأضاف أن افتقاد الحملة لغطاء سياسي، حرر كثيرين ودفعهم للالتحاق التلقائي بها وخاصة الفئات التي يمكن تصنيفها ضمن الطبقة المتوسطة، بحسب تعبيره.

 

"تَغَوُلٌ"..

زاد المتحدث، أن من الأسباب التي دفعت المغاربة للانخراط في هذه الحملة هو "تغول" رأس المال المسنود بليبيرالية متوحشة لا تؤمن بالسوق والمنافسة، بحسب قوله. وأوضح أن "الوضع الاقتصادي بالبلاد هش جداً وهو ما ينعكس سلبا على القدرة الشرائية للمواطنين التي تراجعت قيمة أجورهم الحقيقية بفعل الزيادات المستمرة في الأسعار وفي كلفة العيش بكل مكوناتها. وهذا الأمر مس بشكل كبير المراكز الحضرية الكبرى وهي كثيرة في المغرب، علما أن المغرب ومنذ سنوات عرف تحولات ديموغرافية مهمة أبرزها هيمنة السكان الحضريين بالمقارنة مع سكان البوادي". مشددا على أن "فعل المقاطعة واعتماد مواقع التواصل الاجتماعي هو فعل حضاري بالمعنى السوسيولوجي".

في المقابل، علّل تخصيص شركات معينة بالمقاطعة دون غيرها، موضحاً أن هناك "منطقاً تفرضه فلسفة المقاطعة والتجارب المقارنة. إذ يتم عادة استهداف الشركات المهيمنة على أكبر حصة في السوق لأنها هي من يستطيع فرض خفض الأسعار، ومن جهة أخرى يتصادف أن جزءاً من الشركات المعنية يوجد في قلب النقاش المرتبط بزواج المال بالسلطة واقتصاد الريع وشبهات الاحتكار"، على حد قوله.

 

صلح مرفوض وورطة حكومية..

مع تزايد الضغط على الشركات الثلاث موضوع المقاطعة، خرجت الشركة المنتجة للحليب بعرض يهدف للمصالحة مع المغاربة، إذ اقترحت تخفيضا على ثمن ليتر من الحليب البالغ 7 دراهم، قيمته درهما واحدا (بما يقدر بعشر سنتات)، وذلك في حدود المخزون المتوفر لهذا العرض.

ويأتي هذا العرض تفاعلا مع حملة المقاطعة، إذ قال الناطق الرسمي باسم الشركة في تصريح لموقع "هسبريس" المغربي، إن "الحملة باعدت بين الشركة والمواطنين"، موضحاً أن "علاقة الشركة بجميع المغاربة ليس وليدة اليوم أو أمس، بل إنها تمتد لأكثر من سبعين سنة"، على حد قوله.

وأضاف المسؤول بالشركة أن رسالة المغاربة، التي مفادها أن هناك ضغطاً على القدرة الشرائية، قد وصلت، مورداً أن هذه الإشارة التقطتها الشركة، وأكد في هذا الصدد أن ثمن الحليب الطري لم يتغير منذ أكثر من خمس سنوات مراعاةً للقدرة الشرائية للمغاربة.

وأوضح لقايمي أن الشركة تعلن اليوم عن عرضين "لتقول لجميع العائلات المغربية نحن معكم ودائماً في جنبكم لفتح صفحة جديدة، لأننا ندرك أن الضغط على القدرة الشرائية يرتفع خلال شهر رمضان".

وفي الوقت الذي كانت تعول الشركة على هذا العرض لامتصاص غضب المغاربة والتخفيف من حدة الحملة، جاء الرد مغايراً تماماً، إذ وصف المقاطعون هذه الخطوة بـ"المناورة"، خاصة وأن المطلب الذي يرفعونه هو التخفيض الدائم من أثمنة الحليب، وليس تخفيضا موسميا أو عرضاً ينتهي بانتهاء فترة معينة. وذهب آخرون إلى حد القول بأن الشركة ترغب في "التخلص" من المخزون الكبير الذي بقي لديها منذ بداية المقاطعة، من خلال بيعه بثمن أقل مما كان في السابق، ثم العودة لاحقاً إلى نفس الأثمنة الأولى.

وعوض أن تحل مبادرة الشركة الأزمة، طرحت مشكلة أخرى، إذ ورطت الناطق الرسمي باسم الحكومة في مشكلة جديدة، خاصة وأن هذا الأخير قد سبق له وصرح للصحافيين أن أرباح الشركة لا تتجاوز 0.20 درهما في اللتر الواحد. في حين أن التخفيض جاء بدرهم كامل عن كل لتر.

ودفع هذا العرض نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي ومتتبعين إلى التساؤل حول ما إذا كانت الشركة المذكورة ستخسر حوالي 0.80 درهم في اللتر، أم أن العرض الذي تم تقديمه يراعي هامش ربح خاصا بالشركة.

 

"إساءات" واعتذارات..

لم تجد الحملة في بدايتها التفاعل الجدي، سواء من طرف المسؤولين الحكوميين، أو المسؤولين بالشركات المعنية. فعوض الاستجابة لمطالب المقاطعين، أو على الأقل تبرير عدم الاستجابة لهم، دخل بعض المسؤولين في حرب كلامية مع المنخرطين في هذه الحملة.

وكان أول ردود الأفعال، وصف محمد بوسعيد، وزير المالية المغربي، المقاطعين بـ"المداويخ"، وهو وصف تحقيري يوصف به الشخص الذي لا يعي ما يفعل، أو تصدر منه أفعال عشوائية.

كما أجج غضب المقاطعين، وصف أحد المسؤولين بشركة الحليب، المقاطعين لهذه المنتوجات ب ـ"خونة الوطن"، الشيء الذي اعتبروا أن فيه مُمارسة للوصاية من طرف الشركة الفرنسية على المغاربة، وإجبارها لهم على اقتناء منتوجها دون نقاش أو احتجاج على السعر. ليقوم نفس المسؤول بتقديم اعتذار رسمي للمغاربة عن تصريحاته، فيما تبرأت منها الشركة.

من جهته، عبر سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة المغربية، الأسبوع المنصرم عن أسفه لما وصفه بـ "بعض التجاوزات اللفظية المتعلقة بحماية المستهلك"، وذلك في إشارة للتصريحات التي لم ترق للمقاطعين.

وأوضح رئيس الحكومة، في الجلسة الشهرية بمجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان)، لمساءلة رئيس الحكومة، والتي تم تخصيصها للسياسة العامة المرتبطة بحماية المستهلك، أن من واجبه الحرص على حفظ حقوق المواطن وضمان كرامته، سواء كان مستهلكا أو تاجرا أو عاملا، بالإضافة إلى "دعم القدرة الشرائية للأسر المغربية".

وقال: "مسؤولياتنا ضمان حرية الاستثمار وتحسين الظروف المواتية للإنتاج وتشجيع المقاولات، كما أننا نعكف على اتخاذ جميع الخطوات اللازمة للدفاع عن المصالح التي تهم المواطن، في المدينة أو في القرية، كما تهم الاستثمار بشكل عام".

 

انتظارات..

من جهة أخرى، يشدد الصحافي عبد الناصر الكواي، على أن المواطن المغربي لا ينتظر اليوم من الشركات المعلومة أي شيء سوى تخفيض الأسعار بشكل معقول ودائم، موضحاً على أن "لغة التحدي، التجاهل أو الاستجداء لن تقنع المغاربة بوضع سلاح المقاطعة وتسليم جيوبهم من جديد للغلاء".

وزاد أن "على حكماء هذه الشركات، ومن بأيديهم زمام القرار فيها وفي غيرها، أن يخفضوا الأسعار التي ألهبت جيوب المغاربة، لتفادي خسائر أكثر واحتقاناً أكبر، لا سيما وأن أغلبية المستهلكين أصبح لديهم ما يشبه الحساسية من المنتوجات المقاطعة، وهو تصور يصعب علاجه".

ولفت إلى أن هذه المقاطعة الشعبية أظهرت أمرين أساسيين، الأول يتمثل في وجود استياء شعبي من الأسعار المرتفعة جداً، والثاني يتمثل في ضعف التواصل لدى هذه الشركات، خاصة في ما يتعلق بنوع خاص من التواصل، وهو "تواصل الأزمة".

وشدد الكواي، على أن ما وقع يعكس خطورة مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيرها الشديد على الرأي العام، وهي الإشارة المهمة التي يجب أن يلتقطها أصحاب القرار، والتعامل معها بشكل إيجابي، لا بقرارات متسرعة أو متعالية على مطالب المواطنين، بحسب قوله.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني