حرية التعبير في تونس في ظل مرسوم الصحافة الجديد: سبل التحول من شعار الى ثابت مفهومي “عبر عن رأيك كما تشاء ولكن احذر فأنا سأسعى بالقانون لاخراسك”


2013-04-10    |   

حرية التعبير في تونس في ظل مرسوم الصحافة الجديد: سبل التحول من شعار الى ثابت مفهومي “عبر عن رأيك كما تشاء ولكن احذر فأنا سأسعى بالقانون لاخراسك”

وجهت منظمة هيومن رايت واتش انتقادات شديدة لقوانين التشهير المعتمدة بتونس لطابعها الزجري كما أدانت تواصل محاكمة الأفراد جزائيا من أجل تلك الجرائم رغم دخول تونس مرحلة الانتقال الديموقراطي، داعية السلطات التونسية الى تعديل القانون المتعلق بالتشهير بأسرع ما يمكن بما يجعله يتناسب مع المعايير الدولية لحرية التعبير. ويقصد بجرائم التشهير ما تنص عليه المجلة الجزائية التونسية في الفصول 245 و246 و247 من تسليط عقوبات تصل للسجن النافذ يصل الى سنة كاملة لكل من ينسب أمرا لدى العموم فيه هتك لشرف او اعتبار شخص. وما ينص عليه الفصل 128 من ذات المجلة من أنه يعاقب كل من ينسب لموظف عمومي أمورا غير قانونية متعلقة بوظيفة ان لم يدل بما يثبت صحة ذلك بالسجن لمدة عامين، اضافة لأحكام الفصل 86 من مجلة الاتصالاتالتي تسلط عقوبة بالسجن لمدة تتراوح بين عام وعامين وبخطية (غرامة) من مائة إلى ألف دينار لكل من يتعمد الإساءة إلى الغير أو إزعاج راحته عبر الشبكات العمومية للإتصالات.ويعود الاهتمام بجرائم التشهير لما تم رصده خلال السنة الفائتة من تعدد حالات محاكمة ناشطين بالمجتمع المدني ومدونين على خلفية تصريحات صدرت عنهم أو كتابات لهم اعتبرتها الشخصيات العامة تعديا عليها وتولت تقديم شكايات جزائية على خلفيتها تعهدت بها المحاكم.
وكان يتوقع أن ينهي المرسوم عدد 115 المؤرخ في 02 نوفمبر 2011 المتعلق بحرية الصحافة وحرية النشر ظاهرة المحاكمات الجزائية التي تعرّض الصحفيين ومن يستعملون وسائل التواصل والاتصال لعقوبات سالبة للحرية بسبب ما يعرضونه من معطيات وما يعبرون عنه من آراء. خصوصا وأن النص القانوني المذكور تولى صياغته خبراء في مجال الاعلام وناشطون حقوقيون أقروا في فصله الأول بالتزامهم بالمعايير الدولية لحرية التعبير. اذ أنه ورغم الانتقادات التي وجهت للمرسوم المذكور[1]، فقد التزمت نصوصه بتعريف دقيق لجرائم الثلب (الذم) وميزت بين الثلب الذي يستهدف شخصيات عامة وغيره من أنواع الثلب[2] وجعلت العقوبة المستوجبة في صورة ثبوت الثلب خطية مالية (غرامة، غير سجنية). ورغم أن المحاكم التونسية نأت بنفسها عن الجدل السياسي الذي أعقب سن المرسوم المذكور وباشرت في تطبيقه، فانه يلاحظ أن نفس المحاكم عادت، وفي موازاة تطبيقه، لاستعمال أحكام المجلة الجزائية التي تنظم الثلب والتي هي عبارة عن نصوص مطاطة تنص على عقوبات سجنية رادعة دون اعتبار لتعارض أحكامها مع مقتضيات المرسوم الذي فعلته.
ومن دون التقليل من أهمية الانتقادات الموجهة ضد استمرار تطبيق هذه الأحكام "الزجرية" المعيقة لحرية التعبير، يسعى هذا المقال الى فهم أسباب اصرار المحاكم على ذلك، الأمر الذي يستوجب التطرق الى واقع الموروث الثقافي التونسي في التعامل مع الموضوع مع مقاربة ذلك بواقع الانفلات الاعلامي وانتشار ثقافة هتك أعراض الأشخاص الذي ميز المشهد العام خلال المرحلة الراهنة.
فقد استعملت السلطة السياسية خلال عمر الجمهورية الأولى ترسانة الأحكام الجزائية لمنع تداول المعلومات التي تمس برموزها وتكشف سوء تصرفهم وكانت العقوبات السجنية سلاحها لارهاب الأصوات التي تتجرأ على تجاوز الممنوع. وقد تضمنت مجلّة جرائم الصحافة الصادرة في 28 أفريل 1975 والمنقحة بقانون 2 أوت 1988 مرّة أولى وبقانون 6 أوت 1993 مرّة ثانية أحكاما جزائية قاسية كملت الأحكام التي تضمنتها المجلة الجزائية وأحالت اليها. ورغم أن الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام التي تولت فعليا صياغة مرسوم الصحافة عملت على تجاوز الواقع المذكور وأكدت على ضرورة احترام حرية التعبير وحاولت أن يقطع قانونها فعليا مع الربط بين التشهير والعقوبة السجنية، الا أن عدم تعرض القانون الذي أعدته الهيئة صراحة لالغاء القوانين النافذة بالمجلة الجزائية والتي تتعلق بجرائم الثلب خصوصا في حالة محاولة تطبيقه في جرائم النشر أدى لمقاومة سلبية برزت في التطبيق.
تتبين المقاومة السلبية للحد من ولاية الأحكام الجزائية على تجاوزات حرية التعبير من خلال تعدد الشكايات التي يتولى رفعها يوميا ناشطون سياسيون وشخصيات عامة ضد خصومهم من أجل انتقادات وجهت لهم ويعدونها ثلبا يمس بأشخاصهم. وتستند الشكايات المذكورة في توصيفها للأفعال على أحكام المجلة الجزائية.  تمارس ذات الأطراف ضغطا متناميا على القضاء والقضاة من خلال وسائل الإعلام لحثهم على ردع الانفلات الذي أعقب الثورة وأدى لانتشار ظاهرة التعرض للأشخاص بأسمائهم دون دليل من خلال الوسائل الإعلامية بأحكام جزائية.
ويبدو أن الموروث الثقافي الذي يعتبر أن العقوبات الجزائية وحدها تصلح لجبر الضرر الذي تتسبب به أعمال التشهير قد ظل يحكم المشهد العام. فقد كشفت كثرة التجاء الشخصيات العامة للمحاكم الجزائية شاكية أنها لم تتعود بعد على النقد ولم يكن لها سعة الصدر اللازمة لقبول النقد أو السماح ببعض التجني الذي قد يلحقهم بطبيعة شهرتهم واهتمام العموم بأخبارهم. ومن أبرز الأدلة على ذلك المراسلة التي وجهتها وزيرة المرأة الى نائبة بالمجلس الوطني التأسيسي وتضمنت تهديدا لها بطلب رفع الحصانة عنها لملاحقتها جزائيا على خلفية مشاركتها في صياغة لائحة لوم ضدها[3]. نفس التهديد بالتشكي الجزائي لوح به أحد مسؤولي نادي الصحفي في رده على تذمر أحد الأجوار من سلوكيات مرتادي النادي في مفارقة ذات رمزية اذ أن عضوا سابقا بنقابة الصحافيين وأحد أبرز رموز النضال من أجل حرية التعبير سرعان ما ضاق صدره ازاء انتقاد الغير له وبحث عن سوط العقاب الجزائي ليكتمه[4]. ويبدو المثالان غير غريبين عن واقع عام شعاره حرية التعبير كمطلب واستحقاق ثمة اجماع على الاحتفاء به في مقابل ممارسة تكاد تلقى الاجماع نفسه ومفادها "عبر عن رأيك فيّ ولكن احذر فأنا سأسعى لاخراسك بالقانون". 
ويتبين بالتوازي مع ذلك تواصل اعتماد القضاء على نصوص المجلة الجزائية في جرائم التشهير أن الوعي بالخلفية الثقافية التي كانت سند سن مرسوم الصحافة لم يصل بعد الى درجة تسمح بأن يتحول احترام حرية التعبير ولو رافقتها انحرافات الى ثابت مفهومي.
أدى الانتقال من مجال منع التعبير بفعل سطوة أجهزة القمع الى نطاق الحرية المطلقة للتعبير في ظل الشعور بضعف الدولة وغياب الضوابط الأخلاقية في التعامل السياسي الى تحول التشهير الى سلاح يستعمل في تصفية الخصوم. وشعر القضاة ومن قبلهم الشخصيات العامة بعدم قدرة الأحكام الجزائية التي تضمنها مرسوم الصحافة بمفردها على تحقيق التوقف السريع للظاهرة خصوصا بعدما تحالف المال الفاسد مع الصحافة الصفراء والمواقع الاعلامية الموجهة في صناعة حملات تعتمد التشويه كسلاح لتحقيق الشهرة واحراج الخصوم. وفيما بدا حنينا للماضي، تم الارتداد تلقائيا الى طلب حماية القواعد القانونية التي تضمن قوة الردع أي تلك القوانين الموروثة عن الحقبة الاستبدادية والتي تمت المحافظة عليها بالمجلة الجزائية لتحقق تجاوز ما تم اعتباره تساهلا في أحكام مرسوم الصحافة. فكانت الحماية الجزائية الصارمة ما تم الاهتداء له كحل سريع لمعالجة الاشكاليات الطارئة.
فازاء تعايش نصوص قانونية جزائية متباينة الأحكام ومختلفة المرجعيات تنظم ذات المادة، منعت الحساسية المفرطة تجاه النقد من تطبيق قواعد القانون الأرفق بالمتهم وأفضت لاجتهادات فقه قضائية تعيد الروح للعقوبات الرادعة المتمثلة في المجلة الجزائية. وكانت الشكايات الجزائية السلاح المضاد للتشهير السياسي بما جعل كل نقد من وجهة نظر من وجه اليه تشهيرا ومادة لقضية جزائية.
لم تلتفت الشخصيات العامة التي تعرضت فعليا للتشهير أو سعت الى اخماد أصوات من ينتقدها الى خطورة الأحكام الجزائية بمختلف أصنافها على مستقبل حرية التعبير ولم تتنبه لما قد يخلفه التهديد بالمحاكمة الجزائية من رهبة لدى العموم من نقد السلطة وكشف تجاوزات من يقومون عليها مستقبلا. فبالغت في شكاياتها دون أي اعتبار لمبادئ الثورة ودون أن تتحلى برحابة صدر تجعلها تعي خصوصيات مراحل الانتقال الديموقراطي. ولم ينجح القضاء الجزائي في التنبه لوجوب حماية حرية التعبير وتمسك بأحكام قانونية صارمة في صدد مواجهته للانفلاتات الكلامية الحاصلة. وفي الاتجاه نفسه، عزف المتضررون من أفعال التشهير عن الالتجاء للقضاء المدني لاثبات ضررهم وجبره بما منع فعليا من تطوير ثقافة الحماية من التشهير بآليات غير ردعية.
دعت منظمة هيومن رايت واتش تونس للتخلص من ترسانة القوانين الجزائية الردعية التي تنظم التشهير، فيما أن التدقيق في المقاربة بين أحكام مرسوم الصحافة ونصوص المجلة الجزائية يظهر أن المسألة تتصل بالدرجة الأولى بمستوى الوعي الثقافي بحرية التعبير كقيمة. فكان وما يزال بامكان القضاء أن يعد أن قوانين المجلة الجزائية قد نسخت (ألغيت) ضمنيا بصدور قوانين جديدة (مرسوم الصحافة) تحكم مجالها، ولا سيما أن هذه المجلة فقدت مشروعيتها في ظل توجه تشريعي جديد يرفض مواجهة الرأي ولو كان تشهيرا بالردع. كما كان بامكان الشخصيات العامة ابراز وعيها الطليعي بالحرية كقيمة لو أنها قبلت بافلاتات الحرية برحابة صدر ونأت بنفسها عن الصراعات القضائية أو أنها سمحت بتطور فقه قضاء مدني يضمن تحميل من أساؤوا التعامل مع حرية التعبير مسؤولية أفعالهم بأحكام تثبت الخطأ وتضمن التعويض عن الضرر. 
ويستخلص ختاما أن القوانين وان كانت مدخلا ضروريا لحماية حرية التعبير الا أنها ليست مدخلا كافيا بذاتها ما لم يسبقها أو يرافقها وعي ثقافي بحرية التعبير يتضمن قدرا من الحلم في التعامل مع انفلاتاتها وحرص على حماية الحرية ولو بدت في كثير من صورها مرضية.


[1]اعدت المرسوم عدد 115 المتعلق بالصحافة ثلة من الحقوقيين التونسيين بالاستعانة بخبرات اجنية وكان ثمرة عمل اللجنة الوطنية لاصلاح الاعلام وحرص واضعو النص على الاشادة بتمسكهم بقيم حرية التعبير الا أن المرسوم المذكور انتقده عدد من رجال القانون بسبب تضارب احكامه وسوء صياغته وحاولت السلطة السياسية بعد انتخابات 23 اكتوبر 2011 منع تفعيله غير أن القضاء اعتبر المرسوم نصا نافذا واعتمده في أعماله.
[2]يكرس المرسوم عدد 115 الحق في نقد الشخصيات العامة ويبرز ذلك في قلبه عبء اثبات التشهير في الجرائم فالمتهم بالثلب يطلب منه في المطلق اثبات ادعاءاته غير انه في الحالات التي يكون المتضرر فيها شخصية عامة فان عبء الاثبات يحمل عليها لا على المتهم فتصبح مطالبة باثبات عدم صحة الادعاء
[3]وجهت وزيرة المرأة التونسية السيدة سهام بادي يوم 04 افريل 2013 مراسلة لرئيس المجلس الوطني التأسيسي تتضمن طلب رفع الحصانة عن النائبة نجلاء بوريال و تتضمن تهديدا بالتشكي الجزائي على خلفية تصريح صحفي للنائبة المذكورة بررت فيه اسباب سعيها لتمرير لائحة سحب ثقة من الوزيرة ورغم ان الوزيرة اعتمدت اجراءات قانونية خاطئة في تشكيها فان مجرد تهديدها بالتشكي يصلح كدليل يؤيد الطرح
[4]يعد الصحفي الاستاذ زياد الهاني من أبرز المدافعين عن حرية التعبير وعضو سابق بنقابة الصحافيين التونسيين التي عرفت بنضالها ضد المنظومة الاستبدادية غير أنه في حصة تلفزية بثتها قناة التونسية يوم 06/04/2013 وعندما عرض عليه المنشط رأيا لأحد اجوار نادي الصحافي تضمن تذمرا من سلوكيات رواده صرح بأنه سيتولى التشكي جزائيا بالجار من أجل الثلب.  

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني