حرية التعبير في تونس والانتقال الديمقراطي


2012-11-01    |   

حرية التعبير في تونس والانتقال الديمقراطي

شكلت حرية التعبير أحد أهم المكتسبات التي حققتها تونس بعد تخلصها من براثن حكم الرجل الواحد الذي كبلها خلال نصف قرن كامل هو عمر دولة الاستقلال. أدت الثورة إلى إعادة الاعتبار للرأي، فلم يعد التونسي مضطرا ليعبر عنه خفية وحققت القطيعة مع الرقابة الرسمية على الأفكار مصالحة بين المواطن ووسائل إعلامه. إذ كان الإعلام قبل الثورة في أغلبية المتداول منه أداة لتمجيد الحاكم وتزييف الحقائق مما أفضى الى عزوف المهتمين بالشأن العام عن متابعته وإرغامهم على استقصاء أنباء بلدهم من خلال وسائل الإعلام الأجنبية.
شكلت حرية التعبير التي حكمت المشهد الوطني عاملا حفز على تحول الشأن العام من مجال اهتمام النخب التي تحترف العمل السياسي إلى مداه الطبيعي، فأضحى التونسي يتداول الرأي في مجلسه دون تحفظ أو خوف من الملاحقات الأمنية. وساهم هذا في تطور المجتمع المدني وحقق إقبال الأفراد على المشاركة في العمل السياسي والاجتماعي.
كانت حرية التعبير بما هي تخلص من قيود الرقابة وممارسة للتفكير الحر المكتسب الذي حققته الثورة وبشرت مسيرة الانتقال الديمقراطي بحمايته. وكان المتوقع أن يكون الحديث عن حرية التعبير في تونس مستقبلا بحثا عن المكتسبات واستعراضا للمنجزات، غير أن الانتقال من مجال الرأي الواحد إلى فضاء التعبير الحر شهد تجاذبات وانتكاسات حولت البحث في حرية التعبير في تونس عن المخاطر التي تهدد هذه الحرية.
سمحت حرية التعبير- في إطار مفارقة غريبة- لأعدائها بأن يتحولوا أوصياء على ممارستها. فكان دعاة التصدي للآراء أصحاب الصوت الأعلى وتمكن هؤلاء من فرض رقابة فعلية على حرية الإبداع بان واجهوا المثقفين بالعنف. فقد تعمدت مجموعات تتبنى الفكر السلفي المتشدد بشكل متواتر مهاجمة دور العرض الفني والمؤسسات الإعلامية وقاعات السينما والمسارح  وكانت في كل مرة تروع من يجاهر برأي لا يروق لها بحجة تطاول المبدع على المقدسات.
صنعت فوضى رقابة الشارع على حرية التعبير قيدا جديدا يرهب من يتجرأ على إبراز أفكار أو تصورات تناقض الوعي الجمعي وتخرج عن الصوت الغالب. لم تعد حرية التعبير في تونس بعد أن تكررت غزوات المتشددين مكتسبا ثوريا بل تحولت إلى كابوس ينذر بالفوضى.
كان ينتظر من السلطة السياسية وقد أعلنت في أكثر من مناسبة عن حرصها على حماية الحرية كقيمة ثورية أن تتصدى للتيار باستعمال الآليات القانونية التي تحترم حقوق الإنسان وتحميها. غير أن ما تم تداوله من تصريحات لمسؤوليها سعى لتبرير أحداث العنف بحجة أنها كانت نتيجة طبيعية لاستفزاز التعبير الحر للمقدس، في حين أن السلطة أضحت بدورها تضيق بالحرية التي سادت وتتعجل تقييدها.
تقاطعت دعوات الحماية العنيفة للمقدس مع رغبة السلطة الحاكمة في حماية نفسها من انتقادات المناوئين لاختياراتها الاجتماعية والثقافية. فعمد أنصارها بدورهم الى مهاجمة منتقديها وإرهابهم من خلال شن حملات دعائية على شبكات التواصل الاجتماعي تقدح في أشخاص المناضلين الحقوقيين وتقلب الرأي العام ضدهم من خلال اتهامهم بالانبتات الحضاري والعمالة للأجنبي ولفلول النظام السابق. وباتت تبعا للشحن الحاصل مهاجمة اجتماعات المعارضين العامة والاعتداء عليهم بالعنف من الأمور المعتادة.
تهاونت السلطة في التعامل مع التعبير العنيف ولم ينه تخاذلها إلا واقعة تعمد المتشددين مهاجمة السفارة الأمريكية يوم 14 سبتمبر 2012. كشفت تلك الواقعة التي أتت بعنوان التعبير عن رفض فيلم مسيء للنبي محمد أنتج في الولايات المتحدة،لحكام البلاد أن السماح بالعنف كوسيلة تعبير أضحى يهدد مصالح الدولة التونسية خارجيا، فأعلنت أنها ستتصدى بالقانون ومع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان لكل من يسيء استعمال حرية التعبير. وكان يفترض في السلطة أن تتفطن قبل هذا التاريخ لكون جماعات العنف باتت تهدد النمط المجتمعي التونسي وتنذر بخطر الأفغنة مع كل ما يعنيه من قمع للحريات.
ولم تكن السلطة الحاكمة الوحيدة التي سمحت بالتعبير العنيف ورحبت به سرا فمعارضوها شجعوا الاعتصامات العنيفة التي تؤدي لقطع الطرق وغلق المؤسسات العمومية باستعمال القوة. وكان سياسيو المعارضة يبررون في كل مرة قطع الطرق وبلطجة المحتجين بكونها نتيجة منطقية للظلم الذي عانت منه فئة الشباب. أدت ظاهرة الاعتصامات العنيفة الى تحويل الحق في التظاهر والاحتجاج الى اداة لتعطيل المرافق العمومية والاعتداء على حق العمل. وبات قطع الطرق وتعطيل المؤسسات الاقتصادية بعنوان التعبير عن المطالب من الأمور التي تنفر العامة من حرية التعبير.
تقاطع عنف أنصار الحكومة مع عنف أنصار المعارضة يوم 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2012 بمدينة تطاوين فتحولت مظاهرة نظمتها عناصر موالية للأحزاب التي تشكل الائتلاف الحاكم الى مواجهة مع عناصر من أنصار حزب نداء تونس المحسوب على المعارضة. استعملت في المواجهات الأسلحة البيضاء والزجاجات الحارقة وأدت الى وفاة شخص وجرح آخرين في تطور دراماتيكي لم يعتده التونسيين وجد في يوم له رمزية خاصة في نضالهم السلمي ضد النظام الاستبدادي.
لم تمنع الخلافات الايديوجية المعارضين التونسيين من التوحد يوم 18 أكتوبر 2005 وخاضت  نخبة منهم تحركات احتجاجية سلمية ضد نظام زين العابدين بن علي من أجل فرض حرية التعبير واقامة المجتمع الديمقراطي التعددي. وبعد أن تحقق حلمهم في التخلص من الدكتاتورية عادت بذات التاريخ تجاذباتهم السياسية لتصنع العنف والفوضى أمام عجز مؤسسات الدولة على فرض سلطة القانون على الأخوة الأعداء. 
وبقدر ما كانت السلطة مترددة في التصدي للتعبير العنيف كان موقفها حازما في التعاطي مع الرأي الإعلامي. حرصت الحكومة ممثلة في وزارة العدل على إبراز حزمها في تتبع الإعلاميين من أجل ما يدعى أنه تعد على المقدسات أو نشر لأخبار زائفة أو تعد على الأخلاق الحميدة. ووصل الأمر الى حد مقاضاة مستشار سابق لرئيس الجمهورية لأجل موقف أبداه من تعاطي الجيش الوطني مع المؤسسة التي كان يعمل بها. لقد كانت علاقة الحكومة بالإعلام موضوع توتر دائم، إذ اتهمت نقابات الصحافيين السلطة التنفيذية بالسعي إلى تركيع الإعلام واستدامة تبعيته لها. ويذكر الإعلاميون أن الحكومة امتنعت عن تفعيل المرسومين 115 و116 اللذين تمت صياغتهما باعتماد المعايير الدولية لحرية الإعلام خلال فترة الحكومة الانتقالية الأولى بفضل مقترحات هيأة إصلاح الإعلام ويبدون استهجانهم لإصرار الحكومة على عدم تنفيذ القانونين رغم كونهما من القوانين النافذة. تذكر نقابة الصحافيين أن تجاهل المرسومين يكشف عن رغبة السلطة الحاكمة في مواصلة التحكم في الإعلام العمومي من خلال احتكارها لصلاحية تعيين المشرفين عليها من الموالين لها. وتنفي الحكومة عن نفسها التهمة لتدعي أنها رفضت تفعيل المرسومين لضعفهما القانوني وتضمنها لأخطاء فادحة. وفي مقابل ذلك ما زالت الحكومة تصر على أن تعين على رأس المؤسسات الإعلامية من تختارهم رغم رفض الإعلاميين لذلك. كما تصر على اتهام الإعلاميين بمساندة خصومها السياسيين والعمل على التغطية على انجازاتها.
أفضى صراع الإرادات بين نقابات الإعلاميين والسلطة التنفيذية إلى أن أعلنت نقابة الصحافيين عن اضراب عام للإعلاميين يوم 17 أكتوبر 2012. لم تكن مطلبية الإضراب مسائل تتعلق بتأجير الصحفيين وإنما تركزت حول الدفاع عن استقلالية الإعلام. يسعى المضربون إلى فرض تحول الإعلام الحكومي إلى إعلام عمومي. ويطالب الإعلاميون بالكف عن تصنيفهم إلى معارضين وموالين ويتمسكون بتوفير الشروط الموضوعية لتحقيق استقلاليتهم. نجح الإعلاميون في إضرابهم وأوصل أخيرا تحركهم النقابي صوتهم للحكومة فكان أن أعلنت أنها ستفعل المرسومين وستراجع تعييناتها في بعض المؤسسات الإعلامية. كان انتصار الإعلاميين في فرض تفعيل قانونهم بطعم الهزيمة على اعتبار أن قبول الحكومة بمطالبهم لم يحصل بالتفاوض بل تحقق تبعا لإضراب عام كشف عن درجة احتقان فضاء التعبير الحر في دولة الحرية.
كان تدخل السلطة في تعاملها مع حرية التعبير متناقضا، فتهاونت حيث وجب الحزم وكان حزمها ورفضها الاستماع إلى المطالبات حازما في آن كان المتوقع منها فيه التفهم والتحاور. يكشف الارتباك الذي حصل عن حتمية إرساء منظومة مؤسساتية تحمي حرية التعبير وتصونها. كان يفترض من سياسيّي بلد تحرر من الاستبداد بفضل حرية التواصل والتعبير في الفضاءات الافتراضية أن يسعوا لجعل حرية التعبير تعمر واقع منظوريهم المعيش. واعتقد حكام البلاد أن في احترامهم لتعهداتهم بعدم إخضاع الرأي الحر لرقابة الأمن السياسي ما يكفي للتصريح بتحول بلدهم الى واحة تنعم بحرية التعبير. فبينت تجربة العام الأول من الانتقال الديمقراطي أن الانتقال من ملكوت الصمت الإلزامي إلى فضاء الرأي الحر ليس يسيرا ليتحقق بالنوايا الطيبة.
ضمنت الثورة تحرير فضاء التعبير الحر وبينت التجربة أن هذا الفضاء تتهدده مخاطر التعبير العنيف كما يتهدده التعامل العنيف من قبل السلطة معه. ويستدعي البحث في حماية الحرية وتوسيع نطاقها لتتمكن من خرق قواعد الصمت والممنوع وإنهاء الإقصاء المتعمد للرأي الآخر أن تتبين السبيل لمنع التعبير العنيف أولا ولنمر لاحقا لتأسيس مجال التعبير الحر المسؤول وننتهي بخلق آليات تسمح بحماية الحرية من السلطة.
ويبدو تحصين حرية التعبير من أنصار المنطق العنيف على اختلاف مرجعياتهم من الأولويات المؤكدة إذ أن تحول التعبير لعنف قد تكون فيه بداية نهاية الحرية. فمن المعلوم أن تفاقم العنف كوسيلة تعبير عن المواقف يؤدي ضرورة الى أحد أمرين: أولهما أن تؤول الغلبة لدعاة العنف فتكون الفوضى التي تهدد استقرار الدولة وتؤسس لنظام الميليشيات وثانيهما، أن يؤدي استفحال الفوضى التي تنجم عن العنف إلى خلق شعور عام يرحب بعودة كبت الحرية التعبير والتنظم من خلال الحكم الديكتاتوري وهو ما قد ينتهي بتسهيل مهمة الراغبين في إنهاء فسحة التجربة الديمقراطية ليعلنوا قيام الدولة البوليسية. ولفداحة الأمرين والخطر الذي ينذران به فانه يتعين على المجتمع السياسي أن يراجع أسلوبه في التعاطي مع حرية التعبير بأن يحرص على إبراز تمسكه بها من خلال جعلها تخضع لقانون لا يحدها بقدر ما يحميها وان حد منها فليحافظ عليها ويضمن استمرارها في كنف السلم الاجتماعي.
يبدو من المتأكد دعم منظومة الدفاع عن حقوق الإنسان بإعادة الاعتبار للناشطين في منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والفئات المهمشة عوض مواصلة استهدافهم بتحقير مجهوداتهم ومحاولة إدخالهم في تجاذبات الصراع السياسي. فحماية الناشطين الحقوقيين وفتح المجال أمامهم للعمل يشكلان عاملا مساعدا في انشاء منظومة رصد تسمح باكتشاف الاعتداءات التي قد تنال حرية التعبير قبل استفحالها. ويقوم على هذا الشريك والسلطة مسؤولية بناء مؤسسات قانونية تحمي الحق في التعبير الحر وتمنع أن تتحول هذه الحرية إلى فوضى بسبب عدم المسؤولية في ممارستها.
كشفت وقائع العنف في التعبير وعنف التعامل ازاء حرية التعبير أن هذه الحرية تحتاج في تونس إلى حماية من تعسف سلطة المجتمع والسياسة كما تحتاج إلى تعزيز قدرتها على مقاومة موروث ثقافي يمجد الصمت ويشجع إقصاء الآخر. ولن يتحقق ذلك إلا متى تم تقديس الحرية في مختلف أبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والقطع مع فكرة الرأي الواحد والتصور الوحيد والرفض المبدئي للآخر.
 
نُشر في العدد السادس من مجلة المفكرة القانونية

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني