القضاء المغربي- قل كلمتك في “إصلاح القضاء”… وامش


2012-08-15    |   

القضاء المغربي- قل كلمتك في “إصلاح القضاء”… وامش

د. إدريس فجر
قل كلمتك …و إمش
 قل كلمتك وإمش … ، قولة مشهورة تبناها المفكر اللبناني الكبير أمين الريحاني، ويمكن لكل واحد منا أن يفسرها كما يشاء وحسب ظروفه، لأن التاريخ لا يرحم كما يقال، فهو بمثابة  كاتب كبير يسجل ما يروج بجلسة أكبر ألا وهي مسرح الحياة اليومية، فيوثق صمت الصامتين إلى جانب كلام المتكلمين.
  وفي موضوع مهم كموضوع إصلاح منظومة العدالة بصفة عامة وإصلاح القضاء بصفة خاصة ارتأيت أن أكون إلى جانب المتحدثين المستقلين بشأن هذا الموضوع من غير أن أنتظر لا جزاء ولا شكورا، وإن كان علي أن أعترف بأنني ترددت لوقت غير قصير قبل أن أخط هذه السطور، لأن البعض قد يصنفها أو يكيفها – كما تكيف النيابة العامة محاضر الضابطة القضائية – في خانة التشكيك أو تبخيس عمل الوزارة وما تقوم به من أعمال ومجهودات لإصلاح القضاء ومنظومة العدالة، ولكن بالرغم من ذلك، كل من يتتبع الشأن القضائي، لا بد من أن تكون له آراء مختلفة أو ملاحظات من حقه أن يعبر عنها بكل حرية في ظل دستور جديد جاء ليضمن حرية التعبير وإبداء الرأي  لكل المواطنين وليس لكي يقمعها أو يحد منها أو  يضع لها شروطا وقيودا فتصبح حرية منقوصة وليست هذه هي إرادة المشرع الدستوري بكل تأكيد وهو ما أكد عليه السيد وزير العدل والحريات بمناسبة تصريحه لبعض المنابر الإعلامية مبرزا بأنه لا حدود ولا قيود على حرية الرأي بين المتحاورين والمشاركين في الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة وهو بذلك يمتثل لأحكام الدستور الجديد الذي يستوجب إشراك المواطنين في اتخاذ القرار بالتشاور معهم من قبل السلطات المكلفة بتنفيذ السياسات العمومية (الفصل 12 وما بعدها من الدستورالجديد).
 
أيهما أسبق  وأولى : إصلاح القضاء أم إصلاح منظومة العدالة ؟
 إن مشروعية هذا التساؤل تجد سندها في تاريخ القضاء المغربي وخطب جلالة الملك والاهتمامات اليومية للمواطن والمتقاضي المغربي منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، فكل هذه الأسانيد تفيد أن التركيز كان دائما على إصلاح القضاء بصفة خاصة وليس إصلاح منظومة العدالة، أو على الأقل فإن إصلاح هذه المنظومة ليست له الأسبقية، بل ليس هناك في الواقع فصل بين إصلاح القضاء والعدالة نظرا للعلاقة الوثيقة بينهما، ذلك إن الدولة إذا استطاعت إن تصلح القضاء فهي لن تصلح بالتبعية العدالة فحسب بل إن كل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والمرافق العمومية للدولة ومؤسساتها ستنضبط حتما للإصلاح، فالقضاء هو بمثابة القاطرة التي تقود قطار الإصلاح يتحرك إن تحركت ويقف إن توقفت.
  وكتعريف لإصلاح القضاء يمكن أن نقول بأنه :((يراد بإصلاح القضاء أو منظومة العدالة القيام بعملية فرز الأجزاء أو العناصر الفاسدة أو المختلة في جهاز القضاء أو منظومة العدالة (نصوص قانونية، بنية تحتية، موارد مادية، موارد بشرية …الخ )عن العناصر الصالحة في ذات الجهاز أو المنظومة، والقيام بعد ذلك بإصلاح الأجزاء أو العناصر الأولى التي تعاني من خلل ما، والإبقاء على الأجزاء أو العناصر الثانية أي الصالحة كما هي مع تطوير أدائها  إن أمكن))، هذا التعريف يحدد ويلخص ويعكس في الواقع إشكالية إصلاح القضاء أو منظومة العدالة، وكيف نتصور هذا الإصلاح، وكل واحد منا له تصوره الخاص به حول ملفات وإشكاليات الإصلاح ولكن المنطق يقتضي الاتفاق على حد أدنى من الإشكاليات أو الملفات، ويمكن في نظرنا أن نجمعها مثلا في 14 ملفا أو إشكالية، وهي كالتالي:
1- إعطاء القاضي الانطباع والبرهان على انه مستقل إزاء الجميع ولن يتراخى ولن يتهاون في التطبيق السليم للقانون وبما يضمن توفير شروط المحاكمة العادلة.
2 – فرض القاضي لهيبة القضاء على الجميع مع احترام حقوق الدفاع و اختصاصات مساعدي القضاء.
3 – إعطاء القضاء المثل في مكافحة  الفساد بكل أشكاله والمساهمة في الرقي بتخليق الحياة العامة.
4 – بذل القاضي كل ما في وسعه لمحاربة بطء القضاء سواء على مستوى الإجراءات وخاصة تبليغ الاستدعاءات، أو عند إصدار الأحكام وحسب الإمكانيات المتوفرة لديه وفي حدود ما له من اختصاصات.
5-  اكتساب القاضي للصنعة القضائية بإصدار أحكام جيدة تتوافر فيها مقتضيات الفصل50 من قانون المسطرة المدنية والمادة 365 من قانون المسطرة الجنائية إلى جانب المبادئ الأساسية في الاجتهاد القضائي عند الاقتضاء.
 
6 – إصدار القاضي لأحكام تتوفر فيها صفات الجودة والمهنية العالية  يتوقف على دراسة القاضي لملفاته دراسة مسبقة واتخاذه للتدابير الضرورية والصائبة لتجهيز هذه الملفات.
7 – مراقبة شديدة للقضاء على عمل المفوضين القضائيين من الناحية المسطرية والقانونية دون إغلاق باب الحوار معهم.
8 – مراقبة صارمة للقضاء على عمل الخبراء من الناحية المسطرية والقانونية مع فتح باب الحوار مع أصحاب المهنة.
9 – ممارسة  قاضي التنفيذ لكل اختصاصاته لتلافي كل عرقلة أو بطء في تنفيذ الأحكام مع إزالة كل لبس بين عمله وعمل رئيس المحكمة في هذا المجال.
10– استماع القاضي أو المسؤول القضائي إلى طلبات المحامين المهنية واليومية والاستجابة لها في حدود ما يسمح به القانون ومبدأ الحياد علما بان المحامي مساعد للقضاء وليس العكس.
11 – بسط السيد الوكيل العام رقابته على كيفية ممارسة المهن الحرة القانونية وجعل حد لكل تجاوزات بتحريك المتابعات اللازمة، و مواءمة مناشير الوزارة مع قواعد المنظومة الجنائية.
12- مراقبة النيابة العامة لعمل الضابطة القضائية طبقا للقانون.
13- تحقيق ما يمكن أن نسميه ب  "مثلث الثقة"، ذلك أنه إذا تحقق كل أو بعض هذه الشروط أو إشكاليات العمل القضائي المذكورة أعلاه : فالمواطن أو المتقاضي ومعه وكيله أو مستشاره سوف يسترجع ثقته بالقضاء من جهة أولى ، والقضاء سوف يسترجع من جهة أخرى ثقته بالمجتمع الذي لا يرحمه أحيانا بانتقاداته المبررة أو غير المبررة، إذاً هناك استرجاع متبادل للثقة بين الطرفين، وفي الختام ومن جهة ثالثة، لا بد أن تسود الثقة والاحترام علاقة المسؤولين القضائيين بقضاة وموظفي المحاكم التي تتعرض لبعض الهزات العنيفة أو الخطيرة في بعض الأحيان كما تناولتها وسائل الإعلام ورغم ذلك فالبعض لا يعيرها أهمية – على ما يبدو- مع أنه  أصبحت تطفو على سطح بعض المحاكم "خلافات في وجهات النظر" بين الجيلين القديم والجديد للقضاة.
 
14 –  اضطلاع كل من المعهد العالي للقضاء والإدارة المركزية والمحاكم كل حسب اختصاصه بمسؤولياته لتكوين واستكمال تكوين القضاة واتخاذ التدابير التنظيمية الفورية لتطبيق الحلول  والمقترحات المشار إليها أعلاه بشأن الإصلاح والتي ليس عليها خلاف بين الخبراء بل كل الآراء تكاد أن تجمع عليها، وتطبيقها لا يتطلب إلا حدا أدنى من الموارد البشرية والمادية عند بداية تطبيق مشروع الإصلاح، ولن أجازف إن قلت بأن هذه الحلول أو المقترحات لا تتطلب إلا ميزانية رمزية طالما أن مسألة مراجعة أجور القضاة غير واردة الآن في الأمد القصير.
طبعا هذه الحزمة من الإجراءات الإصلاحية والتدابير التنظيمية قابلة للمراجعة زيادة أو نقصانا، ولكن المهم أنها  تحتاج إلى وضع إستراتيجية متكاملة لتنفيذها على أرض الواقع، و إن تحقق بعضها أو كلها فان الإصلاح سينتقل فورا أو بالتدريج إلى باقي المهن التي تساعد القضاء على تحقيق العدالة والوصول إلى الحقيقة سواء كانت مهنا حرة أو تابعة للدولة، ولهذا وكما قلت بداية فالقضاء هو رأس حربة الإصلاح، إن صلح القضاء صلحت معه كل المهن والقطاعات الأخرى وإن تعثر تعثرت منظومة العدالة  بكاملها، وعلى هذا الأساس كل مجهودات وزارة العدل والحريات يجب أن تصب في اتجاه إصلاح القضاء أولا، ثم إصلاح باقي المهن الحرة القانونية لاحقا، لكن يظهر أن الهيئة العليا للحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة رسمت لنفسها أجندا للإصلاح وشرعت في تنفيذها، ولكن سؤال المنهجية في الإصلاح لازال معلقا؟
 
هيئة الحوار الوطني لإصلاح العدالة وسؤال المنهجية
 تنفيذا لبرنامج سير أشغال الحوار الوطني، تعتزم الهيئة العليا المشرفة على هذا الحوار عقد سلسلة من الندوات بمختلف مناطق المملكة، على أن تناقش كل ندوة موضوعا معينا يهم بطبيعة الحال العدالة وكيفية إصلاحها ، وهكذا نظمت –حسب الموقع الالكتروني الرسمي لوزارة العدل – الندوة الأولى بالرباط يومي 11و12 يونيو(حزيران)2012 ودار موضوعها حول التنظيم القضائي والنجاعة القضائية وقضايا أخرى مرتبطة بهما، أما الندوة الثانية للحوار الوطني فقد نظمت في الدار البيضاء يومي 6 و7 يوليوز (يوليو، تموز) 2012 ونوقش فيها موضوع تأهيل المهن القضائية، ولغاية كتابة هذه السطور لم تنشر وزارة العدل عبر موقعها الالكتروني الخاص بالحوار الوطني أي بلاغ او توصيات تكون ندوة الدار البيضاء او الرباط  قد توصلت إليها.
أما الندوة الثالثة فسوف تنظم بمدينة وجدة يومي 31 غشت (أغسطس، آب) و 1 شتنبر (سبتمبر، أيلول) 2012 وستناقش موضوع تأهيل الموارد البشرية، والمقصود بها في الغالب القضاة وموظفي كتابة الضبط ولا أظن بأن مدة يومين تكفي لمناقشة المشاكل المرتبطة بتأهيل القضاة والموظفين وكان من الأجدر تنظيم ندوة خاصة بكل هيئة منفردة لأن القاضي وكاتب الضبط ومسئولي الإدارة القضائية وإدارة كتابة الضبط هم الأساس في كل إصلاح قضائي وربما لن تكفي مدة يومين لمناقشة مواضيع بهذا الحجم والأهمية.  
 لا أنكر أهمية المواضيع التي نوقشت أو تلك التي ستناقش في إطار سياسة الحوار الوطني لإصلاح القضاء، ولكن أرى بأنه كان من الملائم تنظيم يوم دراسي أو ندوة أو مناظرة يحضرها كل من يهمه أو يعنيه أمر العدالة وتناقش فيها الإستراتيجية التي يجب اعتمادها لإصلاح منظومة العدالة أو بكل بساطة إصلاح القضاء، ويتعين أن تشتمل هذه الإستراتيجية على المرتكزات أو المفاتيح السبعة لإصلاح القضاء والعدالة وهي كالتالي :
1-  تحديد منهجية العمل لانجاز الإصلاح  تعتمد المقاربة التشاركية والدراسة المستفيضة والموضوعية للإشكاليات.
2-  حصر مجموع الملفات أو القضايا أو الإشكاليات التي لها علاقة مباشرة بعملية الإصلاح القضائي وسبق وأن أشرنا في الفقرة أعلاه إلى أن عددها محدد على الأقل في 14 ملفا أو إشكالية واللائحة مرشحة للمزيد طبعا وذلك بعد تجاوز مرحلة تشخيص العلل التي يعاني منها جسم العدالة.
3- ترتيب الملفات أو الإشكاليات حسب الأهمية، وتعطى لها الأولوية أو الأسبقية في الإصلاح.
4- تحديد سقف زمني معقول للحوار الوطني حتى لا يستنزف الحوار كل الوقت ومدته المعقولة لا يجب أن تتعدى 90 يوما إلى 120 يوما على أكثر تقدير.
5- وضع تصور لكيفية استغلال عروض ومداخلات وأسئلة المتدخلين في الندوات المنظمة في إطار الحوار، إذ لوحظ أن مقرري بعض الندوات يوثقون حسب استطاعتهم مداخلات معينة، ويهملون أخرى لضيق الوقت رغم ما تنطوي عليه من معلومات أو إفادات هامة، إذن ما هي الجدوى من كثرة التدخلات إن لم يكن لها صدى لدى المنظمين والمشرفين على إدارة الحوار؟
6- تحديد سقف زمني لتنفيذ خلاصات وتوصيات ندوات الحوار والشروع في عملية الإصلاح التي يجب أن تخضع لثلاثة آجال: منها ما هو قصير، ومنها ما هو متوسط، ومنها ما هو طويل وذلك بحسب الأهمية والعجلة التي يكتسيها كل موضوع من مواضيع الإصلاح ومع مراعاة ما يقتضي ذلك من تدخل للحكومة أو البرلمان.
7- تحديد الموارد البشرية والمادية التي ستعين وترصد لتنفيذ مخطط أو مخططات إصلاح القضاء والعدالة، مع تعيين منسق مكلف بملف الإصلاح بالإدارة المركزية – قد يكون هو السيد الكاتب العام بالوزارة مثلا – ويساعده في مهمته 3 أو 4 خبراء (مشهود لهم بالكفاءة وطول التجربة في الممارسة القضائية ) يكونون خلية أو لجنة قيادة الإصلاح الخاصة بالقضاء أو العدالة داخل الوزارة. 
 فبعد اتفاق القضاة ومساعدي القضاء أو من يمثلهم وكذا كل من يعنيه الشأن القضائي أو يهتم به على هذه المرتكزات التي حددناها مبدئيا في سبعة مرتكزات وهي قابلة للمراجعة زيادة أو نقصانا يمكن بعد ذلك الشروع في مناقشة الإشكاليات والملفات الكبرى للإصلاح سواء تعلق الأمر بالقضاء أو بمنظومة العدالة، ولو أخذنا مثلا ملف مهم كملف الخريطة القضائية وأخضعناه لهذه المنهجية والمناقشة ولمنطق الأولوية، كيف ستكون النتيجة؟
 
إخضاع ملف ((الخريطة القضائية )) لمنهجية الإصلاح و الأولويات:
 في نظرنا تعتبر مسألة أو محطة حصر ملفات الإصلاح وترتيبها في سلم الأولويات حتى تعطى أو لا تعطى لها الأسبقية في مخطط إصلاح القضاء أو منظومة العدالة سواء من حيث الدراسة والتنظيم أو التنفيذ، تعتبر أهم محطة في كل إستراتيجية لإصلاح العدالة أو القضاء، بل قد تظهر الدراسة أو المناقشات على مستوى هذه المحطة أن إشكالية محددة أو ملفا معينا لا مكان له في سلم أولويات الإصلاح، ويجب استبعاده كليا من عملية الإصلاح .
 
 فلو أخذنا مثلا إشكالية او ملف الخريطة القضائية وأخضعناه لمنهجية حصر ملفات الإصلاح وترتيبها بحسب الأولوية، سوف نرى أو نصادف رأيين متناقضين حول هذا الموضوع: فرأي أول يقول بضرورة مراجعة الخريطة القضائية، ومن حذف بعض المحاكم الصغرى التي تسجل مثلا ما بين 1000 و1500 ملفا جديدا غير جنحي  كل سنة (مدني ،عقاري، أسروي ،اجتماعي ،…) ، ومن القيام بعملية إدماج هذه المحاكم الصغرى في محاكم أخرى متوسطة أو كبرى قريبة منها جغرافيا، وعلى هذا الأساس سيتم اقتصاد الكثير من الموارد البشرية والمادية وتوجيهها إلى المؤسسات القضائية التي تعاني من نقص حاد في هذه الموارد وهذا هو الرأي الرسمي لوزارة العدل بقصر المامونية وهو يعبر عن وجهة نظر محترمة وبراغماتية ومبنية بلا شك على معطيات.
 وكانت وزيرة العدل الفرنسية رشيدة داتي سباقة لجهة مراجعة الخريطة القضائية ببلدها وحذفت بعض المحاكم لأسباب تقنية وموضوعية حتمتها الفضيحة القضائية المسماة ب"فضيحة دوترو" اضطر معها رئيس الدولة ووزير العدل إلى الاعتذار رسميا للمتقاضين الذين كانوا ضحية أخطاء فادحة ارتكبها مرفق القضاء في حقهم بسبب تلك الفضيحة.
أما عندنا نحن بالمغرب، فما هي الأسباب الخطيرة أو الموضوعية التي تدعو باستعجال إلى مراجعة الخريطة القضائية، ومن بعض المحاكم الابتدائية أو حتى الاستئنافية، ولم لا حتى بعض المحاكم المتخصصة في الإداري والتجاري؟
 يجب الاعتراف بأن هذا ملف كبير ومهم يحتاج الى دراسة ومناقشة واستشارة واسعة لكل من يعنيه أو يهمه الشأن القضائي وفي مقدمتهم القضاة الممارسون والموظفون والمحامون والمتقاضون، ولهذا لا أستغرب إذا كان هناك رأي لا يقول بضرورة مراجعة الخريطة القضائية ومن تم  حذف بعض المحاكم على هذا الأساس للأسباب التالية: هناك نمو ديمغرافي مضطرد وتطور اقتصادي  تترتب عنهما زيادة في المنازعات القضائية تقتضي تأسيس محاكم جديدة أو توسيع القديمة وليس حذفها لأنه من شان ذلك أن يؤثر سلبيا على تقريب القضاء من المتقاضين وبصفة خاصة سكان البوادي الذين يعدون هم المستفيدين من تواجد المحاكم الصغرى بالقرب منهم، أضف إلى ذلك أنه هناك  محاكم تم تأسيسها لأسباب سيادية في مدن كآسا الزاك والسمارة والعيون والداخلة، أو لموقعها الجغرافي والاستراتيجي بمدن مثل: طاطا والرشيدية وبوعرفة وكلميم …الخ ، ثم هناك الأسباب المهنية القضائية البحتة التي لا تشجع على مراجعة الخريطة القضائية في اتجاه تقليص عدد محاكمها، ذلك أن قلة عدد الملفات الجديدة المسجلة بهذه المحاكم يجب أن ننظر إليها نظرة إيجابية لا سلبية ،انما كيف؟
الجواب على ذلك سهل ، فعلى إثر قلة القضايا المسجلة يتعين على القضاة انتهاز هذه الفرصة من أجل الإبداع في عملهم والدفع بالاجتهاد القضائي إلى الأمام وإصدار أحكام على مستوى عال من الجودة والمهنية وداخل آجال جد معقولة، وهي نتائج ربما يستحيل على المحاكم المتوسطة أو الكبرى أن تحققها  لأن أعباء ومسؤوليات القاضي الذي يحجز ما بين 40 الى 50 ملفا للمداولة كل أسبوع ليست هي نفس أعباء وانشغالات القاضي الذي يحجز للمداولة مابين 5 إلى 10 ملفات كل أسبوع بمحكمة صغيرة، ولهذا يجب الرهان ليس على حذف المحاكم الصغرى بل التفكير كيف نجعل منها محاكم عصرية ونموذجية في عمل كتابة الضبط، والعمل القضائي، والسرعة في الانجاز، وتأطير الموارد البشرية، واستقبال المتقاضين حتى يكون القضاء في خدمة المواطن حقيقة وليس مجرد خطاب.
 هذا بالإضافة إلى أن المحاكم التي ستحذف من الخريطة القضائية ستصدر مشاكلها من استدعاء وتبليغ وتنفيذ وبطء وأحكام وقلة الموارد إلى المحاكم المتوسطة أو الكبرى التي ستستقبل ملفاتها، ثم في الختام أطرح السؤال التالي: إلى  أي حد يبدو أن الوزارة مستعدة للتضحية بمبدأ تقريب القضاء من المتقاضين من اجل اقتصاد بعض القضاة والموظفين هنا، وبعض التجهيزات أو المقرات هناك؟ والى أي حد يمكن الاستسلام لمنطق الكم على حساب الكيف في إنتاج الأحكام؟ علما بان هذا المنطق عمر لعقود ولم تحن بعد لحظة تقييمه بما يخدم مبدأ حسن سير العدالة والنجاعة القضائية؟ أخلص من كلما سبق أن الرأي ليس تقليص الخريطة القضائية المكونة مما يزيد على 102 مؤسسة قضائية ولا التنقيص من عددها، بل الرأي ربما هو العكس أي  الزيادة في عددها لإحداث محاكم للشغل التي احتلت المشهد القضائيالمغربي ما بين  1974 و1992 وكانت سابقة في وجودها على المحاكم الإدارية (1993) والتجارية (1997) وطالبت بإحداثها وزارة التشغيل والنقابات وقضاة المادة الاجتماعية في وقت سابق (2001)، ولكن بعض "اللوبيات" أدت المشروع و حالت دون أن يتحقق.
خاتمة :
كان وزير العدل السابق السيد عبد الواحد الراضي يقول عن حق :" … كفى من تشخيص علل القضاء أريد حلولا…" ولن أكون مبالغا إذا ما قلت بأنه إذا كان أعضاء لجنة الحوار يفوق عددهم 200 عضوا فإنه سيكون لدينا في الغالب أكثر من 200 رؤيا وحل لمشكلة القضاء أو العدالة، ولكن ما يوحّد الرؤيا هو وجود إستراتيجية متفق عليها، وخطة للعمل، ومنهجية، وحصر ملفات الإصلاح حسب الأولوية، وفوق هذا وذاك إيجاد تعريف عام لإشكالية إصلاح القضاء، وسبق لي أن شاركت من باب الفضول طالما أنني  لم أتوصل بأي استدعاء رسمي  للحضور- في ندوة تأهيل المهن القضائية بالدار البيضاء يومي 6 و7 يوليوز 2012 التي عرفت نقاشات ومداخلات غنية ومفيدة، ولكنها كانت في  بعض الأحيان تدافع بشكل شوفيني ضيق عن المهن الحرة القانونية موضوع الندوة، وليس على القضاء الذي يعد حجر الزاوية في كل إصلاح، ولذلك فهي  لم تلامس في العمق إستراتيجية إصلاح القضاء أو العدالة وفق التصور الذي  حللته في هذه المقالة المتواضعة واستئناسا بتجارب بعض الدول في الموضوع والقانون المقارن، وللحديث بقية.
 
مستشار في محكمة النقض، وله دكتوراه في الحقوق

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني