صراع القضاة والمحامين في تونس يستنزف العدالة


2015-06-04    |   

صراع القضاة والمحامين في تونس يستنزف العدالة

العدل يتضمنه القانون ولكنه أيضاً في عقل القاضي وضميره ووجدانه. وكذلك  في علم المحامي وخلقه واستقامته. إنهما جزآن لا ينفصلان من أداة تحقيق العدالة، فإن كان أحدهما أو كلاهما سيئا، اختلت الآلة وفسدت الوسيلة.

ولكن الكثير من المتابعين لشؤون العدالة في الآونة الأخيرةفي تونس يشعر أن بين بعض جناحي العدالة القضاء والمحاماة، تنافراً وتحاسداً وعداءً سلوكياً كثيراً ما يعود عليهما بنتائج سيئة. وهذا شيء مستغرب ولكنه مع الأسف واقع مشاهد.لا يرتبط الأمر فقط بالصراع الدائر الآن بين القضاة والمحامين حول تركيبة المجلس الأعلى للقضاء وأحقية المحامين أو عدم أحقيتهم بمفردهم تقريبا باحتلال الثلث المخصص لغير القضاة في المجلس الأعلى للقضاء بمجالسه الثلاثة العدلي والإداري والمالي، بل أيضاً بالأحداث المتعاقبة التي نشاهدها في محاكمنا والتي تضع القضاة والمحامين في مناسبات متكرّرة وجهاً لوجه وفي مشادات كلامية وأحيانا خصومات بالأيدي. هي مظاهر محزنة لا تليق بهذا ولا بذاك.
  
مظهر لا يليق لا بالقضاة ولا بالمحامين
ليست الحوادث الأخيرة (اعتداء المحامين على الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بصفاقس وهي عاصمة الجنوب التونسي من وجهة نظر القضاة أو اعتداء هذا الأخير على المحامين من وجهة لسان الدفاع)  بمختلفة عما يشاهد ويعاين في محاكمنا وعن الحالات التي عرفناها في الماضي القريب. وكالعادة  يحار المتتبع المحايد أمام الروايتين المتباعدتين بل المتنافرتين اللتين يقدمهما الطرفان المتنازعان عن الأحداث. ففي إحدى الحوادث التي جرت في المدة الأخيرة، يزعم القضاة أن محامياً تعّمد اهانة القضاء بالسبّ والشتم خارج قاعة الجلسة قائلا  للقضاة "كلكم فاسدون" مما يجعل تصرفه بحسب وجهة نظر القضاة لا تمت بأية صلة للمرافعة وللأعمال المجلسية المنوطة بعهدة المحامي مما يعرضه مثل غيره من المواطنين الى التتبع الجزائي. في حين يرى الطرف الثاني أن القطرة التي أفاضت الكأس تمثلت في أن قاضي التحقيق بإحدى محاكم العاصمة غادر مكتبه، فاعتدى على أحد المحامين وأن القاضي صاح في وجه المحامي باستعمال الألفاظ نفسها تقريبا "المحاماة فاسدة …الخ"، ثم قام بدفعه.
 
وبطبيعة الحال، يمرّ الحدث تلو الحدث دون أن تتحرّك هياكل المهنتين من هيئة المحامين وجمعية القضاة ونقابة القضاة لتطوّق الخلاف ولتحمّل كل طرف مسؤوليته.  فكم من محام حين يخسر قضيته يتهم القاضي بالانحياز والفساد والرشوة ليبرر خسارته أمام موكليه أو هو على الأقل يتهمه بالجهل وقصر الباع؟ ولكن كم من قاض لا يحسن معاملة المحامي ويقدر معاذيره وظروفه ويجعله يشعر بأنه حين يؤدي مهمته أو يترافع أمامه أخ لا عدو؟ بل كم من قاض تطوله تهمة الفساد؟ وقد يتورط في هذا الفساد المحامي والقاضي معا وبالاشتراك والتواطؤ. فمن الغريب  أن  من أسباب بعض الأزمات التي عرفناها في السنة الفارطة قول البعض حقاً أو باطلاً  بوجود ارتباط عائلي بين قاض ومحامية في إحدى المحاكم تتعمد تقديم نيابتها في كل القضايا التي يبت فيها زوجها بكل ما يمكن أن يستشف من هذه العلاقة من دواعي انعدام النزاهة و المحاباة ومخالفة القوانين وهو أمر يتحمل مسؤوليته القضاء والمحاماة معا باعتبار أن المعنيين بالشبهة قاض ومحامية سواء بسواء. إنه لا يمكننا للنزاهة إلا أن نعترف أن الفساد موجود في أوساطنا (قضاة، ومحامين، وإداريين، وشرطة وأمنيين). وهذا الأمر ليس بالغريب فالفساد موجود في كل زمان ومكان، ومن الطبيعي أن يمس القضاة والمحامين أنفسهم، سواء قبل الثورة  في تونس أو حتى من بعدها. فالكثير ممن وقع إعفاؤهم من القضاة ألصقت بهم وزارة العدل تهم الرشوة والفساد ما بعد الثورة وهو ما صرح به مرارا وتكرارا وزير العدل نور الدين البحيري الذي ينتمي الى حزب النهضة (الحزب الإسلامي الذي حكم البلاد على مدى أربع سنوات قبل الانتخابات الأخيرة في أكتوبر 2014). ولكن في كل حالات الخلاف هذه، يعتصم المحامون بالمرسوم الجديد لمهنتهم الصادر بعد الثورة سنة 2011 وخاصة بحبل الفصل 47 الشهير منه في حين يرفض القضاة استعمال هذا الفصل بحجة قيام الوقائع خارج قاعة الجلسة ووقوعها تحت طائلة القانون الجزائي إذ أن المحامي ليس فوق المحاسبة  وان الفصل 47 من قانون المحاماة لا يعطيه حق   التطاول على القضاة أو ثلبهم أو الاعتداء عليهم بصفتهم موظفين لا يحق لأحد هضم جانبهم بحسب القوانين الجاري العمل بها. ويجدر هنا التذكير بنص هذه المادة وفحواه انه "لا تترتب عن الأعمال والمرافعات والتقارير المنجزة من المحامي أثناء مباشرته لمهنته أو بمناسبتها أية دعوى ضده. ولا يتعرض المحامي تجاه الهيئات والسلطات والمؤسسات التي يمارس مهنته أمامها إلا للمساءلة التأديبية".
                                                                                              
مشكلة الفصل 47 من قانون المحاماة
لا فائدة من التوسّع  في ذكر الخصومة التي جدّت إبان مناقشة مشروع المرسوم المتعلق بمهنة المحاماة بين القضاة والمحامين. ولكن من المفيد أن نذكر أن كثيراً من القضاة رفضوا ما سمي بحصانة المحامي لاعتقادهم أنه بصدور القانون الجديد سوف يصبح القاضي ضعيفا أمام المحامي، وأنّه حتى لو قصّر المحامي أو أخطأ في حق المحكمة، فانّه لن يطوله أي عقاب. ومن الضروري عدم  تحريف هذا النص أو التوسع في فهمه مما  يؤدي إلى التساهل في استعمال الحقّ الذي أعطاه المشرع للمحامي.

…"فهذا الفصل وبقطع النظر عن التأويلات الممكنة لتعبير "أو بمناسبتها" يجب ألا يكون له تأثير على علاقة المحامي بالقاضي ولا يعني إطلاقا أنه في حالة الخلاف يمنع على القاضي التشكي، بل له ذلك مثلما كان يحدث سابقا إذا ما كان الخلاف لا صلة له بعمل المحامي داخل قاعة الجلسة  أو لا صلة  له بتقاريره. فالفصل لا ينطبق إلا في خصوص مرافعات المحامي وتقاريره وأعماله. فقد كان من الممكن بحسب قانون 1987 مقاضاة محام انطلاقا من العبارات الواردة بتقاريره والحال أن التقارير تقدم للمحاكم ولا تنشر للعموم. كما كان من الممكن مقاضاة المحامي انطلاقاً من مرافعته الشفاهية بالجلسة. لقد جاء  قانون 2011 متعلقا بهذه المجالات لا أكثر… فليس من مصلحة أحد  أن يقع  الخلط أو الإيهام بأن القانون جاء ليعصم المحامي عن أيّ تعدّ ضد القضاة وإلا فتح الباب أمام كل التجاوزات في وضع الانفلات الذي تعرفه البلاد بعد الثورة.
 
الفعل ورد الفعل ليسا هما الحل
كثيرا ما يلتجئ القضاة والمحامون في هذه المواجهة المفتوحة بينهم إلى الإضراب وإيقاف عمل المحاكم لمدة تصل أحيانا إلى أسبوع كامل، تغلق فيها أبوابها أمام المتقاضين الذين يأتون إليها أحيانا من مناطق نائية وبعيدة. ولا شك أن حل الإضراب كإجراء أقصى، أمر مشروع  وحق دستوري للقضاة باعتبارهم موظفين  كما للمحامين باعتبارهم يمثلون مهنة حرة، ذلك أمر لا ينازع فيه منازع ولكن الإضراب لا يُلتجأ إليه إلا عندما يقع استنفاذ جميع الحلول الأخرى. غير أن ما نشاهده في جلّ الحالات التي رصدناها هو مسارعة القضاة إلى اتخاذ قرار الإضراب في عشية يوم وقوع الأحداث (هكذا)،  يليه في اليوم الموالي ردّ فعل المحامين باعلان الاضراب العام في كافة المحاكم هم أيضا. أو العكس بالعكس. وإن المطلع على الأعراف النقابية وأبجديات العمل النقابي يدرك بسهولة أن هذه الاضرابات لا تخضع  الى أية  ضوابط.  فهي لا تأتي عموما على إثر اتصال الهيئات الممثلة للقضاة والمحامين بعضها ببعض (لانعدام الثقة واتساع الفجوة بين الطرفين) بحثا عن حل للمشكل. ففي معظم الحالات التي رصدناها، يتخذ أمر الإضراب على عجل وبدون الرجوع أحيانا إلى الهيكل الممثل  للتداول في أمره،ودون استنفاذ طرق الحوار. وإن أخشى ما نخشاه وخاصة في المدة الأخيرة وبمناسبة الصراع حول تركيبة المجلس الأعلى للقضاء الذي ستقول هيئة مراقبة دستورية مشاريع القوانين رأيها فيه بعد أيام قليلة أن تكون الهيئات سواء القضائية أو تلك التي تمثل المحامين تبحث عن ربح المعركة لا بالنقاش القانوني والجدل الحقوقي المثمر  بل تتصيد الفرص لخوض المعركة داخل المحاكم نفسها وتجييش القواعد واستغلال الفرص للظهور بمظهر الضحية مما يؤجج الاحقاد أكثر في جو ملتهب، وفي أوضاع متقلّبة على جميع الأصعدة. وبطبيعة الحال، تستعمل هنا أسلحة السياسة الثقيلة. ففي حين ترى جمعية القضاة التي تعرضت لبطش نظام بن علي ووقع افتكاك مقرها في 2006 والانقلاب على هياكلها أنها الأكثر جدارة وشرعية في الدفاع على استقلال القضاء الذي ضحى مناضلوها من أجله على مدى خمس سنوات من المحاصرة والظلم، ترى هيئة المحامين أن لسان الدفاع كان دوما في مقدمة المدافعين عن الحقوق والحريات زمن الاستبداد وبعد الثورة وأنه دفع في ذلك شهداء وعلى رأسهم الشهيد شكري بلعيد. ويضيفون أن المحامين نالهم شرف الانتماء إلى الرباعي الذي رعى الحوار بين الإسلاميين وخصومهم في 2013 (مع نقابة العمال ونقابة الأعراف ومنظمة الدفاع عن حقوق الإنسان) والذي مكن البلاد من كتابة دستورها كما أنه مكّنها من الوصول إلى الوضع النهائي لمؤسسات الدولة والنجاح على خلاف كل بلدان الربيع العربي في الخطوات الأولى  للانتقال الديمقراطي المنشود.
  
ما العمل لرأب الصدع؟
نحن على يقين أنّ الصراع لن يتوقف مع الحوادث الأخيرة المرتبطة بشكل ما بلعبة المحاصصة داخل المجلس الأعلى للقضاء إذ أن هذا الصراع سيتأجج في اعتقادنا مع مشاريع  القوانين القادمة سواء تلك المتعلقة بمرسوم المحاماة الذي يطلب المحامون تنقيحه من أجل الحصول على مزيد الضمانات للمحامي او بمناسبة مشروع القانون الأساسي الجديد للقضاء والقضاة أو بصدد إرساء المحكمة الدستورية بعد ستة أشهر كما هو منصوص عليه بدستور تونس الجديد. لن يتوقف الصراع  إذا لم يعِ القضاة والمحامون بأنهم مطالبون لا بالفعل ورد فعل  دفاعا عن مواقع ومصالح قطاعية بمعزل عن مصالح المتقاضين ولا بإتهام بعضهم بأنهم "فاسدون"، وهو لفظ لا يليق لا بهذا ولا بذاك بل بأشياء أخرى مختلفة جدا تنصح بها عادة الهيئات المختصة التي نجد تفاصيلها في كثير من التقرير المنشورة في الغرض وطبقت في كثير من التجارب المقارنة. ومن أبرزها:

1-   الابتعاد عن إعطاء بعدا قطاعيا لكل مشكلة فردية يمكن تطويقها بسهولة بفضل يقظة الهياكل الممثلة،

2-   النظر الى المصلحة العامة قبل المصلحة القطاعية التي تفرق احيانا ولا تجمع. فنحن نميل الى الاعتقاد بأن مواقف البعض من المحامين والقضاة من المجلس الأعلى للقضاء الذي هو  بصدد الإنشاء لا تحركه المصلحة العامة بل مصالح قطاعية ضيقة،

3-   تشكيل لجنة من المحامين والقضاة ممثلين لهياكلهم مهمتها متابعة طبيعة العلاقة بين القضاة والمحامين، ومتابعة الشكاوى والسلبيات وعرضها على الجهات المختصة من أجل تقديم الحلول الفورية لها وذلك بتفعيل وإعادة هيكلة ما يسمى بلجنة حل المشاكل،

4-  تكريس مبدأ التعاون بين القضاة والمحاماة من خلال الندوات والبحوث واللقاءات المشتركة الهادفة الى إعادة رسكلة القضاة والمحامين لتدريبهم على تجاوز السلبيات التي تعترض سبيل تحقيق العدالة والدفاع عن حقوق الموكلين والعمل على منع التصرفات والممارسات غير اللائقة،

5-  عقد لقاءات دورية مع وزير العدل لبحث المسائل المتعلقة بمرفق العدالة، والمعوقات التي تكبل سيرها، وعرض هموم المحامين، وإيجاد السبل التي من شأنها رفع المعاناة عنهم وتيسير أعمالهم القانونية بما يخدم العدالة.

فمتى وجدت الثقة بين جناحي العدالة، إمتنع القاضي عن أن يظن السوء في المحامي أو يجرحه بكلام ناب من قبيل ما ذكرناه، وأصبح المحامي مدافعاً عن حرمة القاضي ونزاهته من أن يتناولها لسانه أو  ألسنة الناس بسوء.

للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني