ردا على مشروع تحصين الثورة في تونس، نقابة القضاة تطلق مبادرة تحصين القضاء أولا: نعم! لكن القضاء يحمى بالحرية والشفافية، فلماذا الحديث عن حصون؟


2013-03-05    |   

ردا على مشروع تحصين الثورة في تونس، نقابة القضاة تطلق مبادرة تحصين القضاء أولا: نعم! لكن القضاء يحمى بالحرية والشفافية، فلماذا الحديث عن حصون؟

طرحت خلال الفترة الفائتة  الكتل النيابية بالمجلس الوطني التأسيسي التونسي مشروع قانون اصطلح على تسميته بقانون تحصين الثورة. ويهدف مشروع  القانون الى ايجاد سند تشريعي يمنع من تحملوا مسؤوليات قيادية بالدولة أو بالحزب الحاكم سابقا التجمع الدستوري الديموقراطي خلال الفترة التي تفصل بين سنة 1989 وتاريخ انهيار النظام السابق من حق ممارسة النشاط السياسي من خلال الترشح للخطط النيابية أو تولي المناصب الرسمية في الدولة خلال الفترة النيابية اللاحقة.
وبمجرد شروع اللجان الفنية صلب المجلس التأسيسي في مناقشة المقترح، انقسمت الساحة السياسية التونسية بين مؤيد لسن قانون تحصين الثورة ومعارض لهذا التوجه. دافع المتحمسون عن مشروع هذا  القانون وكانت حجتهم أن السماح لمن كان من النظام السابق بممارسة النشاط السياسي يؤسس للثورة المضادة ويؤدي بالضرورة الى الانحراف عن أهداف الثورة ومطالبها، فيما تمسك الرافضون للفكرة بكون الثورة التونسية تقوم على فكرة تحقيق الانتقال الديموقراطي بشكل سلمي وهو ما يتعارض مع فكرة الاقصاء السياسي كما اعتبروا طرح الفكرة سنتين بعد الثورة محاولة لاقصاء خصوم سياسيين برزوا على الساحة بشكل غير ديمقراطي. كما اعتبروها مزايدة سياسية ذات اهداف دعائية تقفز فوق مطلب المصالحة الوطنية وتحقيق مسار العدالة الانتقالية بما سيسمح فعليا من طي صفحة الماضي واصلاح أخطائها.
 أضحى مصطلح "تحصين الثورة" اذ ذاك مدعاة للخصومة السياسية، أقله مصدرا للجدل. وفي تحرك ذي دلالة، أثار حفيظة أنصار العزل السياسي، تولت لجنة التشريع العام بالمجلس الوطني التأسيسي قطع مداولات أعضائه في موضوعه والاستعاضة عن ذلك بمناقشة مشروع الهيئة المؤقتة للاشراف على القضاء العدلي فكان الأمر بمثابة تراجع غير معلن عن مشروع القانون وكان ذلك أول ربط غير معلن بين قانون تحصين الثورة والشأن القضائي.
وفي هذا الخضم، سطت نقابة القضاة التونسيين على الفكرة وأعلنت من التحصين عنوانا لحملتها في الدفاع عن المتطلبات التي تعدها ضرورية لاصلاح القضاء وتأسيس السلطة القضائية. سعت نقابة القضاة الى جعل "تحصين الثورة" مرادفا ل"تحصين القضاء"، فتمسكت بأن الثورة لا تتحصن الا بارساء قضاء مستقل، وأعلنت خلال ندوة صحفية نظمتها بمقر المحكمة الابتدائية بتونس في 28-2-2013 عن مبادرتها تحت عنوان "تحصين القضاء"، داعية المجتمع المدني والسياسي الى دعمها. وقد ضمنت النقابة مبادرتها ورقات تعلقت بمتطلبات المرحلة الانتقالية وبمتطلبات تأسيس استقلال القضاء في دستور الجمهورية الثانية.
بررت نقابة القضاة طرحها بما اعتبرته معاينة لحالة الفشل العام في اصلاح القضاء فذكرت أنه على المستوى التأسيسي،  فشل المجلس التأسيسي في احداث هيئة وقتية وسن قوانين أساسية تطبيقا للفصل 22 من القانون المنظم للسلط العمومية؛ وعلى المستوى السياسي، غابت الإرادة الواضحة والجلية لإرساء قضاء مستقل.أما على المستوى الاجتماعي، فان الضغط على القضاء عبر الاعتصامات والاحتجاجات أثر على حسن سيره،وعلى المستوى الأمني، حيث بدا نقص فادح في حماية مقرات المحاكم والقضاة مما تسبب باعتداءات عدة. أما الإعلام فلئن ساهم في فتح المجال للقضاء للتعبير عن مشاغله والاشكالات المطروحة صلبه، الا أنه في جزء منه فتح المجال للتطاول على القضاء  والقضاة وللتداول في ملفات كان يفترض أن يبقى التداول فيها داخل أروقة المحاكم وهو ما ساهم في مزيد من الضغط على القضاة ومن اهتزاز في ثقة المتقاضين بهم. أما على المستوى الذاتي، فان بعض القضاة لم يحرصوا على فرض استقلاليتهم بما فيه الكفاية. كما لم يبدوا تفاعلا ايجابيا مع ما تشهده الساحة القضائية في هذه الفترة في حين كان من المفترض أن يكونوا الفاعل الأساسي والأحرص على النضال من أجل إرساء سلطة قضائية مستقلة ومصدرا للإصلاح في كل ما يتعلق بالقضاء باعتبارهم الأدرى بخصوصياته.
رفعت النقابة من سقف مطالبها، فاعتبرت أن سن قانون الهيأة المؤقتة للقضاء العدلي الذي ناضل القضاة من أجل احيائه متى تحقق سيكون عملا منقوصا على اعتبار أن تخلف المجلس الوطني التأسيسي عن إصلاح القانون الأساسي للقضاة وهو أمر حسب تقديرها سيجعل الهيأة تعمل بقانون يتعارض مع الشروط الدنيا لاستقلالية القضاء. وتمسكت النقابة بكون سن القانون بشكل مجتزأ يجعله غير دستوري لتعارضه مع أحكام الفصل 22 من القانون المؤقت المنظم للسلط العمومية الذي يستوجب خلال المرحلة الانتقالية سن قانون أساسي جديد للقضاة. كما تمسكت النقابة برفض ما تضمنه مشروع الدستور من أحكام تتعلق بتركيبة المجلس الأعلى للقضاء وبينت أن الانتخاب يجب أن يكون القاعدة الأساسية في اختيار أعضائه. وأكدت على ضرورة التنصيص على استقلالية النيابة العمومية صلبه. وتولت بالمناسبة إجراء دراسة لفصول مشروع الدستور بينت ما عدته نقائص يجب تجاوزها لتحقيق بناء سلطة قضائية مستقلة.
حاولت النقابة من خلال مبادرتها أن تنقل الخطاب المطلبي من نطاق الاحتجاج على الواقع إلى مجال طرح تصور متعدد الأبعاد يشكل مشروعا للتحرك ووثيقة مرجعية تبين المتطلبات والانتظارات. ويكشف  النظر في مضمون هذه المبادرة أنها تشكل رؤية متكاملة لمشروع إصلاح القضاء تنتظر أن ينظر فيها أصحاب القرار ليتفهموا حقيقة ما يطلبه منهم القضاة ليتفرغوا للقيام بدورهم في حماية مكتسبات الثورة. ويحسب للمبادرة أنها لم تتجاهل نقد الاداء الذاتي للقضاة خلال المرحلة السابقة لتكشف عن أن إيمان القاضي باستقلاليته ودفاعه عنها شرط لازم لبناء سلطة قضائية مستقلة لا يمكن لضمانات استقلال القضاء الدستورية والقانونية أن تعوضه.
أتت مبادرة النقابة لتؤكد على وجوب الدفع بالشأن القضائي الى محور الاهتمام وعملت على كسر محاولات الالتفاف على استحقاقات القضاء خلال المرحلة الانتقالية لفائدة الصراعات الحزبية والسياسية .كما حرصت المبادرة على كشف أهمية العمل على تحقيق استقلالية القضاء لضمان تحقيق أهداف الثورة. وكان طرح المبادرة مناسبة للكشف عن حقيقة تكامل مجهود هياكل القضاة في الدفاع عن استحقاقات القضاء: فبعدما نجحت جمعية القضاة من خلال سلسلة تحركاتها الاحتجاجية في فرض معاودة الاهتمام الرسمي بالإصلاح التشريعي لمؤسسات القضاء، أتت مبادرة النقابة لتبين أن القضاة وان اختلفت هياكلهم فان مطالبهم متحدة.
ويتعين مع الإقرار بأهمية المبادرة وعمقها، الإشارة الى أن المزج بين الجدل الذي يدور حول جواز تحصين الثورة من خلال قانون يشرع للعزل السياسي وضرورة تحصين القضاء أدى إلى استيلاد جدل حول الهدف من المبادرة التي بدت في موعد إطلاقها وعنوانها تعبيرا عن رفض من النقابة لقانون تحصين الثورة وتقدمها لبديل عنه، بما قد يدفع البعض الى عدها موقفا سياسيا. كما أن اختيار مصطلح التحصين بما يرشح عنه من دلالات اصطلاحية قد يفيد السعي الى إعادة بناء جدران الصمت حول القضاء، وهو من الأمور التي قد تبرر التخوف ازاء أهداف المبادرة. فحماية استقلالية القضاء لا تحققها جدران التحصين بقدر ما تحميها الحرية والشفافية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني