تتعدّد المشاكل التي تطال السياسة المالية في لبنان وتختلف آراء الإقتصاديين حول بناء هذه السياسة وحول أولوياتها ومواءمتها مع أهداف وأولويات السياسة الضريبية (غير المبنية بالمعنى الإقتصادي في لبنان)[1] بشكل خاصومع مختلف السياسات الإقتصادية بشكل عام كالسياسة النقدية، سياسة القطع، التوظيف وغيرها. ويأتي تصنيف لبنان في المركز 139 بين 140 دولة في العام 2015 لناحية التبذير في الإنفاق العام من قبل المنتدى الإقتصادي العالمي ليؤكِّد المؤكَّد حول ضرورة تطوير السياسة المالية في لبنان أو أقله تحسين بعض أبواب الإنفاق العام.
وبعيداً عن النقاشات الإقتصادية النظرية البعيدة عن اهتمامات الرأي العام غير الإقتصادي، يهدف هذا المقال إلى الإضاءة على بعض أبواب الإنفاق العام التي تمثل عبءاً على المالية العامة. ونظراً لتعدّد هذه الأبواب، وبلغة السياسة المالية، فإنّ هذا المقال ينحصر بالنفقات العادية (أي الهادفة إلى حسن سير الإدارات العامة) التي تطال منظومة الإدارة العامة في لبنان دون الدخول في تقييم فعالية وجدوى وأولوية بعض النفقات العامة الإستثمارية الحالية أو المطروحة للنقاش في “الموازنة المنوي إقرارها”؛ أي بلغة الماكرو-إقتصاد ينحصر هذا المقال، إذا صحّ التعبير، بالهدر في الاستهلاك الحكومي دون التطرق للهدر في الاستثمار الحكومي[2].
إنّ قراءة قوانين الموازنات ومشاريع قوانين الموازنات العامة المتتالية في العقد والنصف الماضيين تُظهر عدداً من أبواب الإنفاق لمؤسسات وهيئات وإدارات عامة وُجدت فعلياً سابقاً ولم تعد موجودة سوى شكلاً حالياً (سنسميها “مؤسسات متقاعدة”) وأُخرى مُنشأة قانوناً ولم ترَ النور فعلياً حتى اليوم (سنسميها “مؤسسات قاصرة”) وغيرها مقيّدة في تأديتها لوظائفها الفعلية (سنسميها “مؤسسات في حالة بطالة”)؛ وفي الحالات الثلاث، موظفون يتقاضون رواتبهم ومباني بحاجة لأموال (للصيانة أو لدفع الإيجارات) ومعدات وتدفئة وإنارة ونظافة وغيرها من النفقات العامة الجارية التي تُشغّل مؤسسات وإدارات وهيئات عامة لا وظيفة فعلية لها لتؤدّيها.
1. مؤسسات مُسنّة لها معاش تقاعدي من الموازنة
في الموازنات المتتالية، يظهر عددٌ من أبواب الإنفاق التي تشمل مؤسسات ومجالس وهيئات كانت تؤدي سابقاً وظائفها “بشكلٍ طبيعيٍ” إلّا أنها توقفت عن تأديتها بسبب غياب الإرادة السياسية باستمرار عملها أو ضعف التجهيزات اللوجستية اللازمة أو الخراب الناتج عن الحرب أو حلول إدارات أُخرى مكانها لتأدية الوظائف ذاتها… وقد استُبقيت هذه المؤسسات دون أي تفعيل أو تعديل لدورها أو إلغاء لها كأنها أحيلت إلى “التقاعد المؤسساتي”. ومن هذه المؤسسات والمجالس والهيئات، بإمكاننا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما يلي:
– المجلس الاعلى السوري ــ اللبناني: بلغت موازنة هذا المجلس 000 000 885 ل.ل.[3] سنوياً رغم انتفاء دوره نظرياً مع استحداث تمثيل دبلوماسي بين الجمهوريتين اللبنانية والعربية السورية.
– المجلس الاعلى للخصخصة: بلغت موازنة هذا المجلس000 000 000 4 ل.ل.[4] سنوياً رغم أنّ الخصخصة مُعلّقة بسبب الخلافات السياسية والإقتصادية إضافةً لبروز فكرة “التشركة” أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص والتي لاقـت تأييداً أوسع من السلطة السياسية ، ولكنّ موازنة رئاسة مجلس الوزراء لا تزال تأخذ المجلس الأعلى للخصخصة بعين الإعتبار.
– مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك: بلغت موازنة هذه المصلحة 000 000 000 12 ل.ل.[5] على شكل مساهمة من موازنة المديرية العامة للنقل البري والبحري المشمولة في موازنة وزارة الأشغال العامة والنقل وذلك بالرغم من عدم وجود أي قطار (أو ترامواي أو سكة حديد) يسير على الأراضي اللبنانية.
2. مؤسسات قاصرة لها خارجية من الموازنة
في الموازنات المتتالية أيضاً، يظهر عددٌ من أبواب الإنفاق التي تشمل مؤسسات ومجالس وهيئات استُحدثت لأهداف ومشاريع معينة، فتمّ تأمين الرأسمالين البشري (موظفين من مختلف الفئات) والمادي (مباني، تجهيزات، معدات، وسائل نقل وصيانة ونظافة …) كأية مؤسسة أو هيئة عامة إلّا أنّ هذه الأهداف لم يبدأ تنفيذها إلى اليوم لأسباب مختلفة كعدم إمكانية التنفيذ، تضارب الصلاحيات، رفض جهات سياسية أو طائفية للمشروع، عدم تفهّم شعبي في مناطق معينة… وقد استُبقيت المؤسسات المُستحدثة مع كل نفقاتها دون أي عملٍ فعليٍ موكلٍ إليها، كأنها “قاصرة مؤسساتياً”. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن ذكر من هذه المؤسسات والمجالس والهيئات ما يلي:
– المجلس الاقتصادي والاجتماعي: بلغت موازنة هذا المجلس000 000 000 2 ل.ل.[6] سنوياً، من موازنة رئاسة مجلس الوزراء، بما فيها إيجار المقر ورواتب الموظفين، علماً أنّ المجلس الاقتصادي والاجتماعي هو من الإصلاحات المقرّة في “إتفاق الطائف” والتي لم يبدأ تنفيذها إلى الآن.
– مؤسسة اليسار: بلغت موازنة هذه المؤسسة 000 000 300 3 ل.ل.[7] سنوياً، من موازنة رئاسة مجلس الوزراء، بما فيها الرواتب والأجور وإيجار المبنى؛ علماً أنّ المشروع متوقف تماماً.
3. مؤسسات بحالة بطالة لها إعانات حكومية
في الموازنات المتتالية أيضاً، يظهر عددٌ من أبواب الإنفاق التي تشمل مؤسسات ومجالس وهيئات تعمل شكلاً دون أن تؤدي الوظائف الفعلية المنوطة بها بسبب تعقيدات سياسية، طائفية ومادية، كأنها بحالة بطالة وتحصل على إعانات بالمقابل إلى حين تأمين عملٍ لها. من بين هذه المؤسسات والمجالس والهيئات، على سبيل المثال، تبرز إدارة الإحصاء المركزي التي يُخصّص لها من الموازنة 000 500 080 4 ل.ل. سنوياً (بجزئين 000 500 444 2 ل.ل.[8] ثم 000 000 636 1 ل.ل.[9]) وهو تمويل لا يكفي لقيامها بمهامها الإحصائية الضرورية لبناء السياسات الإقتصادية ومتابعة تنفيذ هذه السياسات. ففي لبنان لا توجد أرقام رسمية للمؤشرات الإقتصادية (غير النقدية والمصرفية). فمعدّل البطالة مثلاً الذي يُسقط حكومات في عددٍ من الدول غير معلوم في لبنان. مع الإشارة إلى أنّ أوّل وآخر إحصاء سكاني أُجري في العام 1932. والطرفة في إحصاء السكان في لبنان، بحسب الإحصائي محمد شمس الدين[10]، أنّ عدد سكان لبنان مقدّر ب 4 مليون نسمة منذ 4 عقود، أي، على مدى أكثر من جيلين، لم يزد ولم ينقص عدد السكان.
إن جمع المبالغ المذكورة سابقاً، والتي تمثّل بضعة أمثلة عن مؤسسات وهيئات وإدارات تقبض دون أن تعمل، يوصل إلى النتيجة التالية: أن ما يزيد عن 26مليار ليرة لبنانية تُنفق سنوياً لمؤسسات وهيئات عامة لا تؤدي أية وظيفة إمّا لأنها متقاعدة أو قاصرة أو في حالة بطالة.
قبل الختام، تجدر الإشارة إلى ثلاث مسائل هامة. أولاً، إنّ ما ذكر في متن المقال لا يشمل بعض المؤسسات المتوقفة عن تأدية مهامها بشكلٍ مرحليٍ واستثنائيٍ فيما تستمر بعض بيانات التبويب ضمن أبواب الإنفاق المخصصة لها كبعض بيانات تبويب رئاسة الجمهورية التي يسودها الشغور منذ 25 أيار 2014. ثانياً، إنّ ما ذكر من أبواب إنفاق وبيانات تبويب ليس سوى بضعة أمثلة حول جزء من النفقات العامة العادية بعيداً عن نفقات عادية أُخرى لمؤسسات تحاول أن تعمل دون جدوى ككهرباء لبنان مثلاً وبعيداً عن أي مثال حول النفقات العامة الاستثمارية المهدورة في مشاريع لم تجلب أية منفعة كمعمل المعسل التابع للريجي في طرابلس. ثالثاً، إنّ ما ذكر في متن المقال لا يشمل بعض “النفقات المستغربة” كبيان تبويب في الجزء الثاني من النفقات في موازنة وزارة البيئة مسمّى “تأهيل مواقع المقالع” بكلفة 000 000 000 2 ل.ل.[11]، إلّا أنّ “تأهيل مواقع المقالع” (عبر تحويلها إلى جلال زراعية كما يجري في بعض الدول مثلاً) يفترض أن يكون على عاتق المقالع (وليس وزارة البيئة) ومن ضمن شروط إعطاء الترخيص لو كان هذا القطاع منظماً بشكلٍ أفضل[12].
نشر هذا المقال في العدد | 36 |شباط/ فبراير/ 2016 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
إصلاح القضاء: المفكرة تنبش دروساً من الماضي
[1] في لبنان، تنحصر السياسة الضريبية بشكلٍ شبه كامل بتمويل الإنفاق العام وهذا “الهدف” يبقى بعيداً عن الأهداف الأساسية والثلاثة للضريبة في الإقتصاد العام.
[2] في الماكرو-إقتصاد وفي إقتصاد منفتح على العالم الخارجي
économie ouverte، يساوي الناتج المحلي مجموع الاستهلاك (
C)والاستثمار (
I)والإنفاق الحكومي (
G)والتصدير (
X)محسوماً منه الاستيراد (
M)، (أي
C + I + G + X – M)؛ الإنفاق الحكومي (
G)يشمل الاستهلاك الحكومي (
CG)والاستثمار الحكومي (
IG).
[3]مشروع موازنة 2012، الباب 3: رئاسة مجلس الوزراء، الفصل 1، بيان التبويب: المجلس الاعلى السوري – اللبناني.
[4] مشروع موازنة 2012، الباب 3: رئاسة مجلس الوزراء، الفصل 1، بيان التبويب: المجلس الاعلى للخصخصة.
[5] مشروع موازنة 2012، الباب 9: وزارة الأشغال العامة والنقل، الفصل 5: المديرية العامة للنقل البري والبحري، الوظيفة 335: النقل البحري والمرافئ.
[6] مشروع موازنة 2012، الباب 3: رئاسة مجلس الوزراء، الفصل 1، بيان التبويب: المجلس الإقتصادي والإجتماعي.
[7]مشروع موازنة 2012، الباب 3: رئاسة مجلس الوزراء، الفصل 1، بيان التبويب: مؤسسة أليسار.
[8] مشروع موازنة العام 2012، الجزء الأول، الباب 3: رئاسة مجلس الوزراء، مجموع الفصل 14: ادارة الاحصاء المركزي.
[9] مشروع موازنة العام 2012، الجزء الثاني (أ)، الباب 3: رئاسة مجلس الوزراء، مجموع الفصل 14: ادارة الاحصاء المركزي.
[10] طرفة الإحصائي محمد شمس الدين (الباحث في الشركة الدولية للمعلومات) هي نقلاً عن الإقتصادي-الزميل علي فرحات في اتصال بينهما أثناء تحضير الأخير لمقال حول البطالة في لبنان في المجلة الإقتصادية “الإعمار والإقتصاد”.
[11] موازنة العام 2012، الجزء الثاني (ب)، الباب 21: رئاسة مجلس الوزراء، الفصل 102: تأهيل مواقع المقالع.
[12]مع الإشارة أنّ المقالع والكسارات المرخّصة تعمل منذ فترة بما يسمى “تجديد المهل الإدارية” لتجنّب الرسوم والضرائب، وفي حين يتجاوز عددٌ منها المساحة المرخصة له، تعمل فئةٌ أخرى من المقالع والكسارات دون أي ترخيص.