“وردة للعمّال” صرخة نضال الماضي تخرق صمت الحاضر


2022-07-06    |   

“وردة للعمّال” صرخة نضال الماضي تخرق صمت الحاضر

على وقع واحد من هتافات 17 تشرين “طاق طاق طاقية بدنا حركة نقابية” و”عمّالية عمّالية ثورتنا عمالية” يسدل فيلم وردة للعمّال ستارته، وكأنّه يأمل للمشهد الأخير أن يكون عوداً على بدء حين كان للعمّال نقابات تمثّلهم وتتحدّث باسمهم وتحصّل حقوقهم، عوداً على بدء ليس اختيارياً بل كمسار ضروري في ظلّ الانهيار الاقتصادي والسياسي، وكإطار عمل مجرّب نجح في الماضي بانتزاع حقوق الفئات المهمّشة حتى حين كان لبنان غارقاً في حرب أهليّة.

على امتداد ساعة يروي الفيلم الوثائقي “وردة للعمّال” الذي أعدّته “المفكرة القانونية” من إخراج ديمة أبو رجيلي وإنتاج “رود تو فيلمز” Road2films مائة عام من النضال العمالي عبر التركيز على قصص أشخاص ارتبطت أسماؤهم بحراك نقابي كان مفصلياً في مسيرة تحصيل حقوق العمّال. “كان ضرورياً أن نروي مسيرة النضال العمالي بلسان الناس، أنسنة التاريخ توصل الرسالة، قصص الناس تتواصل لتروي تاريخاً” تقول غادة صالح كاتبة الفيلم، مضيفة في حديث مع “المفكرة القانونيّة” أنّ ما أراد الفيلم أن يقوله هو إنّ “وراء مسيرة النضال وجوه أناس دافعوا عن حقّهم، أردنا أن نقول إن النقابات حقّقت إنجازات، وهي ليست بعد الحرب كما كانت قبلها. ولا، هي لم تُصب برصاصة وقت الحرب، بل تم اغتيالها بشكل ممنهج بعد الحرب جنباً إلى جنب مع السياسات الاقتصادية التي اعتمدت”.

لا ينفصل الفيلم الذي عرض على مسرح “دوار الشمس” القريب من المكانين اللذين كانا شاهدين على الحراكات العمّالية الأساسية، لحظة عن الحاضر بل على العكس تماماً ينطلق منه مبرراً لوجوده، فصرف مئات العمّال تعسّفياً وتحديداً بعد الأزمة الاقتصادية وكأنّ لا قانون عمل أقرّ بعد معارك في العام 1964، وخسارة مئات آخرين قيمة ضمانهم الاجتماعي وكأنّ لا قانون للضمان أقر في العام 1963، وغياب دور الاتحاد العمّالي العام ليسوا صدفا بل نتائج سياسات ممنهجة لا بدّ من فهمها لصنع غد أكثر أماناً للعمّال.

من الريجي إلى غندور وصولاً إلى خطوط التماس

إذاً، يوثّق الفيلم الحركة النقابيّة ومواجهاتها مع أصحاب العمل وبالتالي مع السلطة السياسيّة التي لطالما كانت منحازة إلى رأس المال على حساب العمّال، مركّزاً بشكل أساسي على ثلاث محطّات قبل الحرب، وهي حكم محكمة العمل لصالح أحد عمال شركة كهرباء بيروت حسن الدرزي في أيار 1946 بزيادة راتبه وبدء عمال الشركة إضراباً لتعميم الحكم عليهم، نضال عمّال التبغ الذي بلغ ذروته مع مقتل النقابيّة وردة بطرس إبراهيم التي استوحي منها اسم الفيلم وإقرار قانون العمل العام 1946، نضال عمّال معمل غندور وصولاً إلى مقتل يوسف العطار عام 1972 وتعديل المادة 50 من قانون العمل التي كانت تسمح بأنّ يطرد صاحب العمل العامل ساعة ما يشاء، ومحطة واحدة بعد الحرب تتمثّل بنضال عمّال سبينيس التي يرويها الفيلم بلسان العمّال أنفسهم.

يبرز الفيلم أهميّة الحكم الذي صدر عن محكمة العمل اللبنانيّة لصالح الدرزي بعدما كان تقدّم بدعوى لإلزام شركة كهرباء بيروت بتطبيق القانون اللبناني ومن ثمّ دفع راتبه الشهري مع الزيادات المنصوص عليها في القانون الصادر سنة 1944. ويلخّص هذه الأهمية بأنّه “جاء مع حركة استقلاليّة كانت حاصلة في منتصف الأربعينيات” كما يشير المحامي كريم نمّور في شهادته في الفيلم شارحاً أنّ محكمة العمل اللبنانيّة قالت إنّه بغض النظر أنّ الشركة أجنبية تبقى المحاكم اللبنانيّة مختصّة لأنّ العامل لبناني ويعمل على الأراضي اللبنانيّة.

وكان لهذا الحكم أثر كبير على مسار الحركة النقابية، إذ حفّز عمّال شركة كهرباء بيروت على المطالبة بتعميم مضمون الحكم على جميع عمّال الشركة، كما أضرب بعد أيام عمّال سكة الحديد والمرفأ، وطالبوا الإدارة بتطبيق الحكم الذي بات يعرف بحكم الدرزي، عليهم.

وفي سردٍ تاريخي سلس يعتمد التحريك (animation) والمقابلات الحية ولقطات مصوّرة من الأرشيف، يروي الفيلم كيف أنّه في الوقت الذي كان فيه الدرزي ينتزع حقّه قضائياً كان عمّال شركة الريجي يخوضون معارك للحصول على حقوقهم ومنها تحديد ساعات العمل ورفع الرواتب، وكيف بدأ العمّال ينضمون إلى الاتحاد العام لنقابات العمال وتمكّنوا من تشكيل لجنة عمّالية مع عمال وعاملات آخرين في الشركة العام 1946، وأسّسوا  لبداية حراك نقابي وحملة إضرابات عمّالية انتهت بإقرار قانون العمل 1946.

ويتبع الفيلم أثناء السرد قصة وردة بطرس التي نزحت من قريتها المحيدثة إلى بيروت لتنضمّ إلى والدها الذي يعمل في الريجي حيث عملت في ظروف صعبة أضيف إليها أجر أقل بكثير من أجر نظرائها الرجال. 

وانضمّت وردة إلى الحراك العمّالي في شركة الريجي وشاركت بعد أيّام من صدور حكم الدرزي في إضراب عمّال الشركة لمطالبة إدارتهم بزيادة الرواتب والتثبيت في الوظيفة وتحديد ساعات العمل، فردّت الشركة بنقل وطرد عمال وعاملات تحديداً ممّن كانوا ناشطين في الحراك العمّالي، وتصاعدت حدّة المواجهات إلى حدّ اقتحام العمال معمل الريجي ومستودعاته المركزية في منطقتي مار مخايل وفرن الشباك بهدف منع شاحنات الشركة من تحميل علب السجائر المعدة للتوزيع في الأسواق المحلية.

“عمّال الريجي كان لديهم مواجهة مباشرة مع طرفين، الدولة اللبنانيّة وصاحب العمل الأجنبي، وحيث السلطات تخضع لرأس المال وتعطيه الأفضليّة” تقول رئيسة جمعية “مساواة- وردة بطرس” ماري الدبس في شهادتها في الفيلم، فكما انحازت السلطة في موضوع الدرزي لرأس المال عبر تقديم الدولة كطرف ثالث بطعن ضد الحكم الصادر لصالحه عن محكمة العمل، ساندت الحكومة قرار وزير الداخلية حينها صائب سلام  الذي رفض وساطة اتحاد النقابات وأطلق ضد العمّال عاصفة “الحزم والعزم” بحجة حماية المستهلك اللبناني وحقّه في السجائر.

يروي الفيلم تفاصيل يوم 29 حزيران 1946 حين رفض العمال فك الإضراب فأمر سلام الشرطة اللبنانية بفتح مستودعات الشركة بالقوّة، فتمدّدت النقابيّات على الأرض “ما بتمرقوا إلّا على أجسادنا” صرخن، فكانت ردة فعل الشرطة إطلاق الرصاص دام 40 دقيقة أدّى إلى مقتل النقابية وردة بطرس.

ويبرز الفيلم كيف أنّ الرصاصة التي أسكتت وردة رفعت صوت الشارع وتحوّل تشييعها إلى تظاهرة شعبية فاضطرت الحكومة إلى إحالة قانون العمل الذي كانت جمّدته، للتصديق فكان الانتصار العمّالي الأوّل ولكنّه جاء على قاعدة “ناخُد ومنكفّي” على حدّ توصيف الدبس، إذ إنّ القانون كرّس حق صاحب العمل بصرف العمال على كيفه في المادة 50 منه، فضلاً عن الحد من العمل النقابي عبر اشتراط إذن وزارة العمل لإنشاء أيّ نقابة.

ومن عمّال شركة الريجي ووردة، ينتقل الفيلم إلى عمّال معمل غندور الذي كان وعلى حدّ تعبير أحمد الديراني وهو عامل سابق في المعمل ومدير المرصد اللبناني لحقوق العمّال رمزاً لـ “دخول فئات عمّالية ضخمة معترك النضال” فالحياة “داخل المعمل كانت غير إنسانية وكان العمل سرّياً للغاية، وكأننا في معسكر للنازية”.

بدأت شرارة تحرّكات عمال المعمل عندما رفضت إدارته إقرار 5% زيادة على الرواتب أقرّتها الدولة فشكّل العمال لجنة تفاوض مع الإدارة وأعلنوا الإضراب لم تصل إلى نتيجة، وخلال تظاهرة العام 1972 اجتمع 500 عامل، فاستعانت الإدارة بالقوّة الأمنية لفكّه وكانت النتيجة 3 قتلى بينهم العامل يوسف العطار الذي جاء من قريته إلى بيروت تماماً كما وردة بحثاً عن عمل أفضل فانخرط في العمل النقابي ودفع حياته ثمناً للدفاع عن حقوقه، ليكون مقتله الشرارة التي انطلقت بها على مدى سنتين مجموعة من التحركات المطلبية انتهت بتعديل المادة خمسين حيث ما عاد لصاحب العمل الحقّ في الصرف التعسفي في العام 1974 على بعد أشهر من الحرب الأهلية.

وصحيح أنّ أهمّ انجازات الحركة النقابيّة تحققت قبل الحرب الأهليّة إلّا أنّ الفيلم يوثّق أنّ هذه الحركة لم تضعف خلال الحرب، فأهمّ مؤشر على ذلك حسب شهادة الباحث الاجتماعي والخبير النقابي غسان صليبي في شهادته في الفيلم، أنّها استطاعت أن تفرض تصحيحاً للأجور خلال الحرب، كما تشكّل خلال الحرب حول الاتحاد العمالي ما يسمى المؤتمر النقابي الذي ضم هيئات ونقابات، وخلال الحرب أيضاً جمع الاتحاد 300 ألف متظاهر قطعوا خطوط التماس في مدينة بيروت.

ضرب الحراك النقابي

بعد الحرب ومع بداية مرحلة إعادة الإعمار، أخذت ليبرالية الاقتصاد اللبناني منحى جديداً ترجم بخطوات كثيرة منها استقدام عمال أجانب أقلّ كلفة لصاحب العمل وأكثر قابلية للتطويع مقابل تصدير الكفاءات اللبنانية للاستفادة من تحويلاتهم بالعملات الأجنبية للمصارف، وهذا النظام ما كان ليتحقّق حسب شهادة الصحافي محمد زبيب في ظلّ وجود اتحادات نقابية قوية، لذلك كانت الحركة النقابية برأيه هدفاً أساسياً للسلطة، فذهبت في عملية ممنهجة لوضع اليد على النقابات والاتحاد العام وتطويعه.

وانطلاقاً من هذه المعادلة قام وزير العمل في حكومة رفيق الحريري الأولى عبدالله الأمين، بترخيص لعدد كبير من النقابات الطائفية والمذهبية، حتى ارتفع عدد النقابات قبل الحرب من 250 إلى أكثر من 600 والاتحادات من 32 الى 62 كل ذلك وحسب زبيب في ظل هيكل تنظيمي للاتحاد ينصّ على تمثيل الاتحادات التي تضم نقابات بشكل متساو داخل الهيئات الإدارية في الاتحاد العمالي العام، فصار الصوت داخل الاتحاد منحازاً للسلطة ومن ورائها رأس المال.

ينتقل الفيلم لاحقاً إلى معركة عمّال “سبينيس” التي كانت آخر المعارك العمّالية لزيادة الأجور وتأسيس نقابة خاصة بهم. ويبرز في تجربة هؤلاء تطابق طريقة تعاطي السلطة وأصحاب المال مع العمّال في غندور وسبينيس من نقل موظفين والتهديد والترهيب وصولاً إلى خلق نقابات موالية لأصحاب العمل لمواجهة العمّال. 

الأنيميشن

يقدّم الفيلم الذي استغرق العمل عليه 8 أشهر، جميع هذه القصص بصورة إخراجية تعتمد بشكل أساسي على التحريك ليس بسبب قلّة المواد الأرشيفيّة البصرية التي توثّق الحقبات التي يعرّج عليها الفيلم بدءاً من أربعينيات القرن الماضي فقط، بل أيضاً وبشكل أساسي “لتقديم المادة التاريخية المكثّفة بشكل سلس لا يشعر معه المشاهد بالتعب، وليكون الفيلم مواكباً للتقنيات الجديدة” كما تقول مخرجة الفيلم ديمة أبو رجيلة شارحة في حديث مع “المفكرة” أنّها استخدمت صور الصحف ومقاطع الفيديو المتوافرة، ولكنّها تقصّدت التركيز على “الأنيميشن”، إذ استوحت من المادة المتوافرة وبعد بحث مكّنها من معرفة اللباس المعتمد في كلّ حقبة وشكل المباني. ففي رسم شخصية وردة على سبيل المثال اعتمدت المخرجة على صورة واحدة متوافرة لها. 

لم تكتف ديمة أبو رجيلة باعتماد الأنيميشن بل قدّمت أيضاً بعض الشخصيات بطريقة كاريكاتوريّة وساخرة تماشياً مع الدور أو الموقف الذي يصدر عن هذه الشخصيات وانسجاماً مع الخطاب الذي ساد بعد 17 تشرين عند الشباب تحديداً والقائم على إسقاط نظام المقامات وعدم تقديس أيّ شخصية تتعاطى الشأن العام، والتعامل معها على أساس مواقفها كما تقول أبو رجيلة مضيفة: “الموقف المثير للسخرية يحتّم أحياناً تقديمه بطريقة ساخرة”.

كان ظهور عناوين الصحف التي تتحدّث عن بعض التظاهرات في حينها عنصر جذب إضافي في الفيلم، فبينما كان صوت الراوية في الفيلم يخبر قصّة حراك معيّن باللهجة العاميّة،  تظهر على الشاشة مقالات أو أخبار تعود في بعض الأحيان إلى اليوم نفسه، مما يشعر المشاهد بالمزيد من الانتماء إلى الحدث، ولكن رحلة البحث عن الأرشيف رغم متعتها لم تكن سهلة حسب ما تقول منتجة الفيلم سينتيا شقير فقد تطلّب الأمر عملاً مضنياً وطويلاً.

وتوضح شقير أنّه في ما خصّ حقبة الأربعينيات اعتمد الفيلم في المقالات على أرشيف الحياة والنهار والنداء، وأنّ الأخيرة مع إذاعة صوت الشعب كانتا مصدر أرشيف الصور من الأربعينيات حتى تاريخ الحرب الأهليّة.

أمّا في ما خصّ مقاطع الفيديو فاعتمد الفيلم بشكل أساسي على أرشيف تلفزيون لبنان منذ الخمسينيات إلى أوائل التسعينيات، فضلاً عن أرشيف المؤسسة اللبنانية للإرسال ولاسيّما في موضوع قضية سبينس، وأرشيف الجديد.

كما استعان الفيلم بالأرشيف الخاص لعدد من المصورين منهم علي سيف الدين.

وتروي شقير كيف أنّ البحث في الأرشيف أكّد أنّ قضية العمّال كانت أساسيّة قبل الحرب الأهليّة وخلالها قائلة “ليس بسيطاً أن نجد تقريراً عن عودة العمّال إلى المصانع في أرشيف تلفزيون لبنان، صُوّر في عزّ الحرب الأهليّة. موضوع العمّال لم يكن تفصيلاً”. 

العمال والعاملات في زمن الانهيار

سبقت الفيلم ندوة بعنوان “العمّال والعاملات في زمن الانهيار وسبل تمكينهم” شارك فيها: د. ليا بو خاطر (الجامعة الأميركية في بيروت) ود. سامر غمرون، (جامعة القديس يوسف ‑ المفكرة القانونية) حاورهما، المحامي كريم نمّور (المفكرة القانونية)

ناقشت الندوة أسباب عدم لجوء العاملات والعمّال في لبنان إلى المحاكم، لا سيما في زمن الانهيار والدور الذي يمكن ويقتضي أن تؤدّيه المحاكم ومؤسّسات الدولة في الوضع الراهن. كذلك تناولت الندوة وضع النقابات العمّالية والحركة النقابية عموماً في زمن الانهيار، والدور الذي يقتضي أن تقوم به والبدائل التي يمكن اعتمادها لتمكين العاملات والعمّال راهناً.  

إشارة إلى أن الفيلم سيُعرض بشكل رسمي على قناة يوتيوب الخاصة بـ المفكرة القانونية في الرابع عشر من تموز الجاري.

الصفحة الخاصّة بالفيلم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المهن القانونية ، عمل ونقابات ، محاكمة عادلة ، حركات اجتماعية ، قرارات قضائية ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، حقوق العمال والنقابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني