وراء انفجار بيروت عالَم من الشحن الدولي خارج عن القانون


2020-08-12    |   

وراء انفجار بيروت عالَم من الشحن الدولي خارج عن القانون
الصورة لماهر الخشن

نُشرت هذه المقالة في صحيفة الغارديان البريطانية السبت 8 آب/أغسطس 2020، وتنشر “المفكرة القانونية” نسخة معرّبة منها في إطار متابعتها للمجزرة التي وقعت في بيروت نتيجة انفجار المرفأ في 4 آب*.

تمتدّ جذور الكارثة التي حلّت ببيروت إلى شبكة عالمية من رأس المال البحري والخداع القانوني مصمَّمة لحماية الشركات بأيّ ثمن.

عند قرابة الساعة السادسة من مساء يوم الثلاثاء، شبّ حريق صغير في مستودع بالقرب من إهراءات القمح في مرفأ بيروت. وقد أدّت  شرارات اللهب الحمراء المنبعثة من الحريق إلى انفجار هائل خلّف سحابة فطرية الشكل من المياه والحطام، وعموداً من الدخان الأحمر-البرتقالي والأسود.

وقد تسبّبت الموجة الصدميّة الناجمة عن الانفجار في تدمير المستودعات والمجمّعات السكنية المجاورة، وتحطّمت الأبواب والنوافذ على بعد كيلومترات من الانفجار. وإلى حين كتابة هذه السطور، أعلِن عن مقتل 154 شخصاً (وحتى ترجمتها بلغ العدد 171) وجرح أكثر من 5 آلاف وتشريد 300 ألف، فيما لا يزال العشرات في عداد المفقودين.

وفيما ينصبّ التركيز والغضب على عدم الكفاءة والخلل في أداء الحكومة والسلطات اللبنانية، فإنّ جذور الكارثة تمتد إلى ما هو أعمق وأوسع نطاقاً؛ إلى شبكة من رأس المال المرتبط بالتجارة البحرية والخداع  القانوني مصمّمة لحماية الشركات بأيّ ثمن.

ومهما كان سبب اندلاع الحريق الأولي، فإنّ الانفجار الثاني الذي دمّر المرفأ وجزءا كبيراً من المدينة نتج عن 2750 طناً من نيترات الأمونيوم المخزّنة داخل مستودع في المرفأ. وتستخدَم هذه المادّة الكيميائية في الزراعة والبناء على حد سواء، وقد ارتبطت بتفجير بيشوبس غيت عام 1993 في لندن وكذلك بالتفجير الذي وقع في مدينة أوكلاهوما في الولايات المتحدة عام 1995. كما كانت نيترات الأمونيوم سبب الانفجارات الضخمة التي وقعت في غالفستون بتكساس عام 1947 وميناء تيانجين في الصين عام 2015 اللذين خلّفا عشرات القتلى. فكيف انتهى المطاف بمثل هذه المادّة الحارقة الخطيرة في مستودع قريب جداً من المناطق السكنية في بيروت؟

في شهر أيلول/سبتمبر 2013، أبحرت سفينة الشحن “إم في روسوس” (MV Rhosus)- المملوكة من قبَل رجل أعمال روسي والمسجَّلة لدى شركة في بلغاريا وترفع علم مولدوفا- متّجهة من باتومي في جورجيا إلى موزمبيق، حاملة شحنة من نيترات الأمونيوم اشترتها شركة “فابريكا دو إكسبلوسيفوز دو موزمبيق”  (Fábrica de Explosivos de Moçambique) التي تقوم بتصنيع المتفجّرات لأغراض تجارية. وكان على متن السفينة طاقم مؤلّف من ثمانية أوكرانيين وروسيّين اثنين جاؤوا من دون علمهم بأنّ أفراد الطاقم السابق كانوا قد غادروها احتجاجاً على عدم دفع أجورهم.

وبعدما أجبر مالك السفينة طاقمها على التوقّف في بيروت بشكل غير مخطَّط له مسبقاً لنقل مزيد من الحمولة، صادر المسؤولون اللبنانيون السفينة “روسوس” لخرقها معايير المنظمة البحرية الدولية وعدم دفع الرسوم المتوجّبة بما فيها رسوم الرسو في الميناء. تجدر الإشارة هنا إلى أنّه يمكن “احتجاز” السفن في حال عدم تقديمها الأوراق اللازمة، أو في حال اعتبارها غير آمنة أو خطرة بيئياً، أو مقابل دين مستحق، وغيرها من الأسباب.

وكان مالك السفينة إيغور غريتشوشكين قد سجّل سفينته في مولدوفا، حيث تسجيل السفن أكثر تساهلاً لجهة تطبيق قوانين العمل والصحة والسلامة والبيئة مقارنة بأغلب الدول الأخرى. وتعتبَر سجلاّت التسجيل المفتوحة هذه بمثابة “أعلام الملاءمة” (flags of convenience) حيث ترفَع السفينة علَم بلدِ مختلف عن علم بلدِ مالكها.

وقد ابتُكرت “أعلام الملاءمة” لأول مرّة من قبَل محامين أميركيين في دول يتوكّلون عنها مثل: بنما وليبيريا وهندوراس. وحتى اليوم ما زال يتمّ تحويل معظم أرباح بعض أكبر السجلّات المفتوحة إلى شركات خاصة في الولايات المتحدة. ووفقاً للكاتب  الأميركي جون ماكفي، فإنّ “الملاءمة” في “أعلام الملاءمة” تعني “إمكانية تجنّب الضرائب، وإمكانية تجاهل التأمين إلى حد ملحوظ، وإمكانية دفع الأجور المغرية المماثلة لأجور أصحاب السفن للبحّارة التجّار الذين تم اختيارهم من أي جزء من العالم”.

وعندما أدرك غريتشوشكين ما قد يكلّفه وقوع السفينة “روسوس” في الحجز، بدأ إجراءات الإفلاس وتخلّى فعلياً عن السفينة وطاقمها. كما تخلّى الطرف الموزمبيقي عن شحنة نيترات الأمونيوم التي كانت مرسلة إليه. وتجدر الإشارة إلى أنّ أصحاب السفن يتخلّون عن سفنهم بوتيرة مثيرة للقلق، لتجنّب دفع أجور الطاقم المستحقّة عليهم. وفي الواقع فإنّ منظمة العمل الدولية تحتفظ، في كثير من الأحيان، بقاعدة بيانات للبحّارة الذين تمّ التخلّي عنهم. ويتمّ، في بعض الأحيان، بيع شحنة السفينة التي يتمّ التخلّي عنها في المزاد العلني للدفع للدائنين أو لسداد أجور الطاقم غير المدفوعة، أو لدفع تكاليف التنظيف والتخلص من النفايات.

أمّا في لبنان، فلم يُعَد بيع الشحنة، ورفضت السلطات السماح لأربعة من البحارة بالخروج من السفينة من دون طاقم بديل. فترِك القبطان وباقي أفراد الطاقم على متن السفينة مع شحنتها المتفجرّة، لمدة عام تقريباً، من دون تقاضي أية أجور، ومن دون الحصول على وسيلة اتصال إلكترونية، في ظل تناقص في الغذاء والوقود.

في الواقع، كان طاقم السفينة “روسوس” رهائن في المفاوضات بين سلطات المرفأ اللبنانية- التي لم ترِد تحمّل مسؤولية الشحنة الخطيرة الموجودة على متن السفينة- وصاحب السفينة. وفي آب/أغسطس 2014، أمر قاضٍ لبناني بالإفراج عن البحّارة، ونُقلت بعد ذلك الشحنة البالغ وزنها 2750 طناً من نيترات الأمونيوم من السفينة إلى مستودع في مرفأ بيروت.

وعلى الرغم من أنّ معظم اللبنانيين محقّون في غضبهم من عدم كفاءة السلطات اللبنانية، إلّا أنّ اللوم يقع أيضاً على الصفقات التجارية القاتلة لرأس المال البحري الدولي.

في الواقع، ليست جميع دول العالم موقّعة على المعاهدات البحرية الدولية التي تنظّم ظروف العمل ونقل الشحنات الخطرة. وحتى لو كانت كذلك، فالعديد منها لا يمتلك الموارد اللازمة لرفع دعاوى ضد شركات الشحن عديمة الضمير.عدا عن ذلك، فمن النادر أن يجري البتّ في النزاعات الدولية بين الحكومات والمستثمرين الأجانب لصالح الحكومات.

وتسمح “أعلام الملاءمة”، وهي في الأساس أداة نقل إلى الخارج (offshoring) تهدف إلى حماية رأس المال، للسفن غير الآمنة بالإبحار مع أطقم معرّضين للنّهب من قبَل أصحاب العمل عديمي الضمير. هذا مع العلم أنّ أغنى شركات الشحن في العالم المتمركزة في أوروبا وشرق آسيا، تقيّد سفنها في السجلات المفتوحة لتوفير الأجور والضرائب والتأمين.

في الخلاصة، فإنّ التخلّص من أحكام النقل إلى الخارج هذه، ومن أعلام الملاءمة، وإصلاح آليّات التحكيم التي غالباً ما تضرّ بالبحّارة والدول الأقل نفوذاً، هي خطوات أولى نحو معالجة المخالفات التي أدّت إلى مأساة يوم الثلاثاء. ومع انقشاع الغبار عن بيروت، كثير من العمل يتوجّب القيام به.

 *                 تعريب فاطمة عطوي

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، أحزاب سياسية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني