مُقاطعة إسرائيل وداعِمِيها: “أضعف الإيمان” أم معركة تحرّر من الهيمنة؟


2023-11-27    |   

مُقاطعة إسرائيل وداعِمِيها: “أضعف الإيمان” أم معركة تحرّر من الهيمنة؟

خلاَل الأسابيع الأخيرة، عجَّت مواقع التواصل الاجتماعي -خاصة من المستخدمين في المنطقة العربية- بمئات المنشورات الدّاعية إلى مُقاطَعة البضائع والشّركات الحاملة للجنسية الإسرائيلية أو الداعمة للكيان الصهيوني. هذه الحملات انطلقَت منذ الأيام الأولى من حرب التهجير والإبادة التي تُنفذّها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الفائت، ويُراد بهَا إظهار الدّعم للقضية الفلسطينية، وهَدفها المُعلَن تكبيد داعمي ومُموّلي الحرب خسائر مالية، أو في الحدّ الأدنى عدم المساهمة في زيادة أرباحهم. 

ليسَت المرة الأولى التي تُطرَح فيها المُقاطعة كردّة فعل على الجرائم الإسرائيلية في فلسطين وحتى الأمريكية في العراق وأفغانستان وغيرها. لكن من الملاحظ خلال المدة الأخيرة أن الحَمَلات كانت أكثر انتشارا، وبدت متناسبة مع حجم العدوان الدموي، واستفادت من إمكانيات نشر وتشارك المعلومات التي تتيحها منصّات التواصل الاجتماعي لمئات ملايين البشر في المنطقة، رغم الحجب المُمنهج الذي مارسته بعض المنصّات على غرار موقع فايسبوك.

 وحسب رُدود الفعل التي لاحظناها على مواقع التواصل الاجتماعي، يتبنّى كثيرون فكرة المقاطعة من زاوية “أضعف الإيمان” أي باعتبارها نوعا من “المقاومة السلبية” التي ليس للـ “عاجز” غيرها. في حين يَعتبرها البعض الآخر آليّة مقاومة نشيطة، لا عُنفيّة صحيح، لكن يُمكن أن تتحوّل إلى مَعركة تُكبّد المَشروع الصهيوني وداعِميه خسائر حقيقية. كما تختلف المنطلقات والآفاق من شخص لآخر؛ ما بين مقاطع لبضائع “اليهود” الذين يَقتلون المسلمين ويحتلون أراضيهم ويدنّسون مقدساتهم، ومُقاطع لاقتصاديات غربية معادية للعرب، وبين من يقاطع منتجات “قوى امبريالية” تَدعم أقدم كيان استعماري استيطاني ما يزال قائما. كما أنَّ هناك من يقاطع فقط دعما للقضية الفلسطينية، فيما يعدّها آخرون فرصةً لدعم المنتجات المحلية وتقوية الاقتصاديات الوطنية.

تاريخ من المقاطعة

ليسَت آلية المقاطعة ظاهرة جديدة، سواء في تاريخ القضية الفلسطينية أو غيرها من القضايا. كثير من الشّعوب والجماعات والأقليات المضطهدة اعتمدتها كإحدى وسائل المقاومة، خاصة عندما يكون ميزان القوى مع “العدوّ” مُختلّا بشكل كبير: الهند زمن الاستعمار البريطاني، واليَهود ضد السلع الألمانية مع بداية سيطرة النازيين في ثلاثينيات القرن الفائت، وسكّان جنوب أفريقيا من السّود والملوّنين ومناصريهم في بقية العالم خلال فترة الأبرتهايد الذي فرضته حكومة الأقلية البيضاء ذات الأصول الأوروبية… 

في المنطقة العربية، ظَهرَت دعوَات المقاطعة الاقتصادية الداعمة للفلسطينيين ضد المشروع الصهيوني حتى قبل الإعلان عن دولة إسرائيل في 1948. فمنذ عشرينيات القرن الفائت -أي بعد الكشف عن وعد بلفور- بدأَت دعوات المقاطعة العربية لأنشطة وبضائع المجتمع اليهودي في فلسطين. واتخذت هذه الدعوات طابعًا أكثر رسمية مع تأسيس جامعة الدول العربية، إذ قرّرَت في ديسمبر 1945 مقاطعة الشركات المملوكة ليهود فلسطين بهدف محاصرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين والتصدّي للمشروع الصهيوني. وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل، أصبحت المقاطعة شاملة في ظلّ عدم اعتراف الدول العربية بالتقسيم الأممي الذي فرضته القوى الغربية. ولم يحدث اختراق عربي رسمي لهذه المقاطعة إلا بعد اتفاقية “كامب ديفيد” التي وَقّعَها الرئيس المصري أنور السادات مع إسرائيل في 1979، وبعدها بدأ المسار التطبيعي الذي ذهبت فيه عدة دول عربية -من بينها تونس- إثر توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاقية “أوسلو” في 1993. مَنحَت “انتفاضة الأقصى” التي اندلعت شرارتها في 30 سبتمبر 2000 واستمرت إلى مطلع سنة 2005 شحنة تضامن جديدة للقضية الفلسطينية وكشفت عبثية “مسار السلام”، وأحرجت عدة أنظمة عربية اضطرّت إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل والتراجع عن الخطوات التطبيعية. كما أنها شكلت منعرجا جديدا في تاريخ مقاطعة إسرائيل وداعميها. وفي إثرها، تمّ إطلاق “حركة المقاطعة وسحب الاستثمار وفرض العقوبات”  (بي. دي. أس Boycott, Divestment and Sanctions Movement ) في جويلية 2005، بمبادرة من منظمات ونقابات وأحزاب فلسطينية والتفاف من فعاليات وحركات عربية ودولية. 

مع نشأة “بي. دي. أس”، بدأتْ المقاطعة تأخذ شكلا مؤسّساتيا واستراتيجيَّا، وصَار يُنظر إليها كعمل سياسي مُقاوم ومُنظّم وشامل لا يقتصر فقط على الامتناع الفردي عن شراء بعض البضائع، بل يتعدّاه إلى السّعي لإحداث ضرر اقتصادي أكبر وأوضح، وتوسيع مدى المقاطعة ليَشمل العمل الثقافي والأكاديمي والفني والرياضي بشكل يُولّد ضغطا حقيقيا على إسرائيل. حركة “بي. دي. اس” ليست مُوجّهة بالأساس إلى المنطقة العربية، وتستهدف بالأخصّ الدول الغربية خاصة الداعمة بقوة لإسرائيل وسياساتها. وهي تتبنىّ ما يمكن أن نُسمّيه بالمقاومة اللاعنفيّة، وتتحرك ضمن إطار “الشرعية والقانون الدوليين”  لحمل إسرائيل على “إنهاء احتلالها واستعمارها لكافة الأراضي الفلسطينية والعربية وتفكيك الجدار” و”إنهاء كافة أشكال الفصل العنصري ضدّ الفلسطينيين واعترافها بالحق الأساسي بالمساواة الكاملة لفلسطينيي أراضي العام 48″ و”احترام وحماية ودعم حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي هُجّروا منها واستعادة ممتلكاتهم كما نصّ على ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194″. 

وتتلخّص فلسفتها في العمل على ثلاثة محاور ضغط رئيسية، وحشد الدعم الشعبي والمؤسساتي لممارستها: 

  • مقاطعة (Boycott): تشمل وقف التعامل مع إسرائيل، ومقاطعة الشركات الإسرائيلية وكذلك الدولية المتواطئة في انتهاكاتها لحقوق الفلسطينيين، ومقاطعة المؤسسات والنشاطات الرياضية والثقافية والأكاديمية الإسرائيلية.
  • سحب الاستثمارات (Divestment): الضغط على المستثمرين والمتعاقدين مع الشركات الإسرائيلية والدولية المتورطة في جرائم دولة الاحتلال والأبارتهايد بسحب استثماراتهم من إسرائيل، أو إنهاء تعاقدهم مع هذه الشركات. وقد يكون المستثمرون أو المتعاقدون أفرادًا، مؤسسات، صناديق سيادية، صناديق تقاعد، كنائس، بنوك، مجالس محلية، جهات خاصة، جمعيات خيرية، أو جامعات.
  • فرض العقوبات (Sanctions): الإجراءات العقابية التي تتخذها الحكومات والمؤسسات الرسمية والأممية ضد دولة أو جهة تنتهك حقوق الإنسان، بهدف إجبارها على وقف هذه الانتهاكات. تشمل العقوبات العسكرية والاقتصادية والثقافية وغيرها.

بغض النظر عن مدى تطابق أهداف “بي.دي.أس” مع تطلعات الفلسطينيين والعرب المؤمنين بفلسطين حرة من النهر إلى البحر ومدى نجاحها في تطبيق آليات الضغط، فهي تُعتَبر نقلة نوعية في تاريخ المقاطعة، واستطاعت أن تُكوّنَ فروعا في عشرات الدول عبر العالم وأن تشكّل تحالفات مع منظمات وائتلافات أخرى داعمة لحقوق الفلسطينيين. ويمكن لحركة المقاطعة في المنطقة العربية أن تضع معايير “أصلب” من “بي.دي.أس”، لكن مع الاستفادة من خبرة هذه الحركة العالمية والسعي إلى دعمها وإرساء شراكة معها. 

كثير من الجهود، وضعف في قياس الأهداف والتأثير

مازال وُجود السلع الإسرائيلية “الصّرفة” مُموّهًا في العديد من الأسواق العربيّة، ربما باستثناء المُبادلات الاقتصادية الواضحة والمُعلنة بعد ما يُعرف باتفاقات أبراهام سنة 2020، خاصة بين الإمارات وإسرائيل. لذلك لا نجد الكثير من السلع الإسرائيلية في القائمات السّوداء التي وضَعَتها حملات المقاطعة في مواقع التواصل الاجتماعي. وبدلاً منها، تصدّرَت السّلع والماركات الأمريكية كل القائمات، خاصة منها تلك  المنتشرة عالميا مثل المَشروبات الغازية والسّجائر وسلاسل المطاعم والمقاهي السّريعة والملابس والأحذية الرياضية والهواتف والحواسيب المحمولة. ونجد أيضا مُنتجات الماركات وسلاسل المحلات التابعة لشركات متعددة الجنسيات أو أكثر الدول الأوربية دعما للسياسات الإسرائيلية، خاصة فرنسا وألمانيا وبريطانيا. وباستثناء وسائل النقل والصناعات والتكنولوجيات المتطورة والأدوية (وهي المنتجات الأغلى ثمنا والأكثر تكريسا وتأبيدا لتبعيّة الاقتصاديات العربية ودول الجنوب عموما)، فإن قائمَات المُقاطعة شملَتْ كل السّلع تقريبا، بداية من عُلبة العِلكة وصولا إلى اشتراكات منصّات الأفلام والمسلسلات والموسيقى، ومرورا بالمنتجات الغذائية ومواد التنظيف والتجميل والملابس والأحذية. 

بالإضافة إلى المُنتجات الإسرائيلية والغربية، أُضيفَ عدد كبير من المُنتجات والشّركات المحلية إلى حملات المقاطعة التونسية لأسباب مختلفة، إما بسبب اتهامات تطبيع مباشر مع الكيان الصهيوني (ترويج سلع في السوق الإسرائيلية) أو نظرا لارتباط المؤسسة المحلية بمؤسسات عالمية، سواء كان ذلك بواسطة ترخيص أو تصنيع أو تسويق أو شراكات، أو بيع حصة أقلية أو أغلبية من الأسهم. 

ومن المُلاحظ أن القائمات يضَاف إليها بشكل مُستمرّ أسماء محلية أو أجنبية وفقا لمعايير فضفاضة أحيانا. هل يجب مقاطعة كل سلعة غربية ممكنة أم نُركّز على بلدان بعينها؟ هل تكفي جنسية البلد كمعيار للمقاطعة أم يجب أن يكون هناك ارتباط مباشر بإسرائيل والقضية الفلسطينية؟ هل يَجب مقاطعة الماركات الأجنبية بمجرد فتحها محلات تجارية في إسرائيل (وفي هذه الحالة ماذا عن الماركات الكورية الجنوبية واليابانية والصينية والهندية والتركية؟) أم يجب أن يكون آثار الدعم السياسي والاقتصادي أعمق وأوضح على غرار بناء مصانع والاستثمار في مستوطنات وتمويل مراكز بحث وتوقيع عقود مع الجيش والأجهزة الأمنية وإدارات السجون؟ 

تشهد حملات المقاطعة لإسرائيل وداعميها انتعاشة كبيرة في تونس وعدة دول عربية، وذلك في تماهٍ تامّ مع الغضب الشعبي الكبير مما يحدث في فلسطين، وهناك عدة محاولات فردية وجماعية لتنظيم هذه المقاطعة عبر إنشاء -أو إعادة إحياء- صفحات فايسبوكية ومجموعات عمل، وصناعة محتويات متعددة الوسائط في منصات التواصل الاجتماعي. ومن أبرزها في تونس: صفحة “الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني” ومجموعة “Boycott-مقاطعة“.  وأيضا عبر إنشاء مواقع وتطبيقات ويب مُخصّصة للغرض من بينها موقع: “بدناش bdnaash” الذي يُمكّن المستعملين من إدخال اسم منتج أو شركة أو صورة له في مُحرّك البحث حتى يتحقّق إن كان مشمولا بالمقاطعة أم لا، أو تطبيقة “قضيتي Qadyaty” التي تُسهّل التعرّف على المنتجات المشمولة بالمقاطَعة عبر قراءة “الباركود”. وكلا الوسيلتين تعتمدان على تفاعل الجمهور وتطوّعِه لبناء قاعدة البيانات.  

جزء كبير من هذه المبادرات، وعلى أهمية الجهود المبذولة، تشوبه عدة نقائص سواء من خلال الشكل أو المحتوى. هناك ما يشبه الفوضى في ضبط قائمات المقاطعة التي صارت تشمل آلاف المنتجات، وكذلك نقص في المعلومات والتفاصيل حول سبب المقاطعة. 

الكثير من المقاطعة قد يَقتل المقاطعة. لذلك نلاحظ أنّه كان من الأجدى التركيز على قائمة مَعقولة من الماركات والمنتجات، خاصة الأجنبية وبالأخص الداعمة بشكل واضح للكيان الصهيوني والمتواطئة مع ممارساته الإجرامية. هذا التركيز سيسهّل عمل الدّاعمين للمقاطعة وسيوسّع قائمة المُقاطعين. ولا يجب إغفال حقيقة أن الحماس والغضب الحاليين لن يظلاّ بنفس القوة بعد نهاية الحرب، ومن الأفضل العمل على استدامة المقاطعة عوضًا عن السعي إلى شمولية قصيرة النفس والمدَى. 

الدعوة إلى مقاطعة مئات المنتجات قد ينفّر الكثير من المتحمّسين للمقاطعة، فليست البدائل مُتوفّرة للجميع، ومن الصّعب تغيير نمط استهلاكي بين عشية وضحاها. تركيز المقاطعة على عدد معقول من المنتجات سيُمكّن المقاطعين أيضا من قياس الأثر المالي والسياسي للمقاطعة. وهذا “القياس” مُهمّ جدا لإقناع الناس بجدوى المقاطعة، وإلى حد الآن لا يوجد تحديد عام أو جزئي لهذا التأثير. 

الكثير من دول المنطقة العربيّة، من ضمنها تونس، ليس لها ثقل استهلاكي كبير سواء إن كان ديمغرافيا أو ماليا (القدرة الشرائية)، كما تختلف القدرة الإنتاجية المحلية وحدّة التبعية للشركات الأجنبية من بلد إلى آخر. وهذا الواقع يتطلب تنسيق الجهود العابرة للأقطار في المنطقة العربية، ممّا يستوجب مأسَسَة حملات المقاطعة الوطنية، وتكوين شبكة عربية تشكّل قوة تنسيق وتنظيم وضغط فعّالة، خاصة إذا ما أسندَتها مكونات لديها خبرة في التنظيم والتواصل والحشد والعمل الميداني: نقابات، تجمعات مهنية، أحزاب، حركات شبابية، جمعيات…

انشر المقال

متوفر من خلال:

حرية التعبير ، حقوق المستهلك ، مقالات ، تونس ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني