موت الطفل ياسين حمزة أيقظ ملف الكلاب الضالّة: ماذا عن السلطة الشاردة؟


2024-03-04    |   

موت الطفل ياسين حمزة أيقظ ملف الكلاب الضالّة: ماذا عن السلطة الشاردة؟
رسم رائد شرف

يبدو أنّ سقوط ضحايا هو المفتاح الأوّل لفتح الملفات المهملة في لبنان، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أنّ الأمر سيستكمل بتنفيذ القوانين وإيجاد الحلول. ففي قضية الكلاب الشاردة، دَفَع الطفل الفلسطيني ابن الخمس سنوات ياسين هيثم حمزة، في 24 شباط الماضي، حياته ثمنًا لكي تستأنف الوزارات والإدارات المعنيّة اجتماعاتها في هذه القضية، ومنها اجتماع دعت إليه وزارة الزراعة بعد 4 أيام من الحادثة، وتنفض الغبار عن الخطط الموضوعة أصلًا حين سقط ضحايا آخرون. خططٌ سرعان ما كانت تعود إلى الأدراج، بعد أن تفضح أنّ عمر استيقاظ الذاكرة الرسمية مربوط بأيام الضجّة التي يحدثها ذوو الضحايا وبعض الرأي العام، قبل أن يتنصّل المعنيّون من مسؤوليّاتهم بحجج مختلفة آخرها حجّة الأزمة الاقتصادية ونقص التمويل.

بعد فاجعة مقتل الطفل ياسين وإصابة 3 أشخاص غيره هم أسماء عباس (15 سنة) ووالدتها إيمان درويش، والطفل السوري زهير علي المحمد العبدلله (3 سنوات) في هجوم كلب شارد في مخيّم الرشيدية، اجتاح الرّعب المخيّم والعديد من المناطق اللبنانيّة. وحصلت حوادث إطلاق نار على كلاب شاردة، في ظلّ ارتفاع أعدادها بشكل كبير وخصوصًا بعد الأزمة وبعد تخلّي العديد من الأشخاص عن كلابهم إضافة إلى أسباب أخرى منها تزويج الكلاب بهدف زيادة الأرباح، وغياب أي حملة رسمية لتلقيحها والحد من تكاثرها، كلّ ذلك بالتوازي مع شحّ علاج الكلَب وعدم توفّره في كلّ مستشفيات لبنان. 

ونقل محمد دراز، أمين سر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في مخيم الرشيدية لـ “المفكّرة”: “عم نطلق النار بالهوا لنبعّد الكلاب خارج المخيّم، وإثر حادثة الطفل ياسين، بس انقتل كلبين، يلّي عضّ الناس وكلب تاني بيشبهه”. ويضيف دراز: “أكيد الناس خافوا، خاصة إنّه بكل منطقة صور ما في إبرة وحدة لعلاج داء الكَلَب”. رعب ترجمه شبان المخيم بعدم التجوّل من دون عصيّ، بينما علت صرخة أهالي المدينة ومحيطها: “ولادنا ما عادوا يتجرّأوا يروحوا لا على الدكان ولا عند الجيران.. وحتى مشي عالمدرسة”.

وفي منطقة صور فتح مقتل الطفل ياسين فوهات البنادق على الكلاب الشاردة “صوت الرصاص شمال يمين، عم يقتلوهن، ما بدّن يخلّوا ولا كلب بالمنطقة”، تقول الناشطة في مجال الرفق بالحيوان غنى نحفاوي. وتضيف ابنة مدينة صور بحسرة “بفهم أنه الناس مرعوبة ع ولادها.. بس حرام اللي عم يصير! إذا كلب ارتكب جريمة شو ذنب بقية الكلاب المسكينة تدفع الثمن؟ هيدي روح كمان!”.

ولم تكن ردود فعل بعض البلديات أقل عشوائية من الناس، فقد كثّف البعض منها قتل الكلاب بأساليب عدة من التسميم وإطلاق النار، والدهس المتعمّد باسم الحفاظ على السلامة العامة والوقاية من أي هجوم غادر. كما عمد بعضها، ومنها بلدية العقيبة، إلى جمع الكلاب الشاردة ونقلها إلى مناطق نائية “للتهدئة من روع الأهالي وطمأنتهم”، وفق ما نقلت عن رئيسها جوزيف دكاش صفحة كسروان على فيسبوك.

كل ذلك أثار غضب المدافعين عن حقوق الحيوان باعتبار أنّ “الكلب الشارد متروك من دون غذاء وماء وهو ليس حيوانًا صيّادًا وبالتالي فهو محكوم عليه بالموت البطيء وهذه أيضًا جريمة”، بحسب نحفاوي. كما أنّ الأسباب وراء تفاقم مشكلة الكلاب الشاردة هي بحسب الجمعيات البيئية والرفق بالحيوان غياب الرؤية والسياسات، وعدم الاحتكام للقوانين. وترى نحفاوي أنّه “عوض سيادة القانون، ساد تنصّل كل الجهات المسؤولة بحكم القانون من وزارات وبلديات، من مسؤولياتها، والتلهّي بصياغة الحجج لتبرير عدم تنفيذ القانون رقم 47/2017 الذي وُضِع لحماية الناس كما الحيوانات، وفي المقدّمة الأزمة الاقتصادية وإفلاس صناديق البلديّات”.

إزاء فوضى هذه المشهديّة، تكثر الأسئلة المشروعة التي تحاول “المفكّرة” الإجابة عليها في هذا التحقيق، وأبرزها: “لماذا وصلنا إلى هذا المآل؟ من المسؤول؟ وما هو الحل الكفيل بحماية الإنسان والحيوان؟ ومن يخالف القانون؟ ولماذا؟ ولماذا ما زال سكان لبنان اليوم يواجهون خطر انتشار داء الكلب الذي يُعتبر معيارًا مهمًا في تقدّم البلدان في العالم؟، والأهم لماذا تخلو منطقة مثل صور ومحيطها من حقنة واحدة ضدّ داء الكلب؟”

كلب شارد تبدو عليه علامات النحول

في تفاصيل الفاجعة

في تفاصيل الفاجعة التي هزّت مخيّم الرشيدية للاجئين الفلسطينيين في صور الأسبوع الماضي (24 شباط 2024)، فقد هاجم كلب شارد الطفل ياسين هيثم حمزة، ابن الخمس سنوات، أثناء لهوه بالقرب من منزله. وقد سجّلت كاميرا المراقبة المثبتة في المكان، لحظات ياسين الأخيرة، لتبقى لحظاته السابقة وضحكاته محفورة عند عائلته المفجوعة. أدمى المشهد الأليم الذي اجتاح وسائل التواصل الاجتماعي قلوب من شاهدوه لكن الكاميرا لم تسجّل فظاعة ذلك اليوم المرعب في مخيّم الرشيدية، حيث انقضّ الكلب نفسه على ثلاث ضحايا آخرين نجوا بأعجوبة هم كما أسلفنا أسماء عباس ووالدتها إيمان درويش، والطفل السوري زهير علي المحمد العبدلله. وتمّ إسعاف أسماء وزهير في مستشفى بلسم في مخيّم الرشيدية قبل نقلهما إلى مستشفى صيدا الحكومي للعلاج الخاص بداء الكَلَب لأنّ “اللقاح غير متوفّر” بحسب ما أبلغ مدير مستشفى بلسم الدكتور زيدان المصري “المفكرة”.

تصف عمّة الطفل زهير التي لا تكلّ حمدَ الله على نجاة ابن أخيها الذي رافقها لزيارة أقاربهما في المخيم: “كان وضعه كتير حرج وكتير بيخَوّف، كل وجهو ماكله الكلب، مأذّى كله، بدينته، وجهه، وحول عينه، الله نشله..”. خضع زهير لعملية تجميل “بس ناطرين الجرح يلحم ويخف الورم لنشوف وضع عينه ومنخاره المكسور”، تضيف العمة المفجوعة.

ومع هذه الفاجعة، أُضيف أربع ضحايا جدد إلى سجل لا توثّقه الإحصاءات الرسمية بدقّة، وخصوصًا في السنوات الأخيرة. إذ ليست المرّة الأولى التي يغدر بها كلب شارد سكان هذه البلاد، لتعود بنا الذاكرة الحديثة إلى سقوط 4 جرحى بهجوم كلب شارد في صور في 2019، وجريحين في بر الياس في 2022، فيما كادت الشابة ريتا الضعيف أن تخسر حياتها عندما قرر صاحب كلب منزلي في إهدن أن يترك له حرية التحرك في آذار 2023.  

ماذا عن الأرقام؟

لا تقتصر هجمات الكلاب الشاردة على التسبّب بسقوط قتلى وجرحى، إذ تؤكّد رئيسة مصلحة الطب الوقائي في وزارة الصحة، الدكتورة عاتكة برّي لـ “المفكرة”: “تسجيل 8 وفيات ناتجة عن داء الكَلَب العام الماضي (2023). في المقابل، توثّق الخارطة الوطنية للسيطرة على داء الكَلَب أنّ التعرّض للداء قد ازداد بنسبة 216% في السنوات الأربعة (2011، 2012، 2013، 2015)، نظرًا إلى عدم تسجيل أي جهود لتعزيز الوعي ضدّ داء الكلَب أو الإبلاغ عن حالات الإصابة به”. هذا مع العلم أنّ الخريطة عينها تفتقر إلى أرقام عن انتشار الداء بعد العام 2015.

وتوثق برّي “وقوع 1500 إلى 2000 حادثة اعتداء من كلاب سنويًا” في السنوات الأخيرة. في ارتفاع عن أرقام آخر إحصاء رسمي لوزارة الزراعة في 2015 الذي وثق 744 عضّة (منزلي وشارد)، ليتّضح ازدياد التعرّض للاعتداءات، رغم صدور القانون رقم 47/2017 المتعلّق بحماية الحيوانات والرفق بها.  

وتشير أرقام الخارطة الوطنية التي أنجزتها وزارة الزراعة بالشراكة مع جمعية Animals Lebanon، وحصلت “المفكرة” عليها، إلى أنّ الكلاب المنزلية (أي المملوكة من أشخاص) أيضًا تسببت بـ 1047 عضّة، وهو يفوق مجموع تلك الناتجة عن الكلاب الشاردة، والبالغة 852 عضّة خلال السنوات الأربعة من 2011 لغاية مطلع 2015. إذ أنّ وزارة الزراعة، المولجة وضع التوجيهات العامة، والإشراف والمراقبة، وفق القانون رقم 47/2017، تفتقر إلى الإحصاءات منذ 2016 ولغاية اليوم. فغالبًا ما يقتصر الرصد على سجلات المستشفيات عند وصول الإصابات أو عدد الشكاوى المباشرة من المواطنين، إذ: “تعاني وزارة الزراعة من ضعف ورود البلاغات عن عضّات الكلاب وأمراض الكَلَب”، وفق ما أكدته الدكتورة ريهام بسّام، رئيسة دائرة وقاية الحيوان في وزارة الزراعة، لـ “المفكّرة”.

أسباب تفاقم مشكلة الكلاب الضالّة

وتقدّر الناشطة غنى نحفاوي ارتفاع العدد من حوالي 25 ألف كلب عام 2017 “إلى أكثر من 60 ألفًا بحلول العام 2024″، وهو رقم تشكّك فيه وزارة الزراعة لـ “عدم وجود أي مسح جدي وعلمي يثبت هذا المعطى”، وفق مدير الثروة الحيوانية في الوزارة الدكتور الياس إبراهيم.

وتردّ الناشطة نحفاوي سبب ازدياد عدد الكلاب الشاردة إلى عدم تنفيذ قانون حماية الحيوانات والرفق بها، الرقم 47 /2017: “بعد 7 سنين على صدوره.. كلّن ما عملوا شي، أو ما بدن يعملوا .. ما بذلوا الجهود اللازمة”. وتوضح أنّ عدم تلقيح الجهات المعنيّة للكلاب قد تؤدي إلى إصابتها، كما كلّ الثدييات بداء السُّعار (الكلَب)، جرّاء أيّ عضة قد تتعرّض لها من أي حيوانات أخرى متوحّشة أم جرذان حاملة للدّاء فيصاب الكلب حينها بالمرض، وينتشر في جسمه وقد ينقله بدوره إلى الحيوان أو الإنسان”.

وإضافة إلى إصابة الكلب بداء السُّعار، تسلّط نحفاوي الضوء على العنف الذي يُمَارس ضدّ الكلاب ويجعل منها شرسة وهجومية، حيث تنتشر، وخلافًا للقانون، مزارع قتال الكلاب والمراهنات عليها، في كلّ المناطق اللبنانية، وعلى أسطح المباني، وحتى في المناطق الأكثر فقرًا. ويُرصد هنا تقاعس يُحسب على القضاء البيئي، وفق نحفاوي، “إذ صدر عن المدعي العام، إثر إحدى الشكاوى التي رُفعت أمامه، العبارة التالية: “كلما واحد ضرب كلبه، بدنا نجيبه؟!”.

كما أشارت نحفاوي إلى انعدام المسؤولية لدى الكثير من الناس تجاه الكائنات الحية الأخرى، حيث تُسجّل إثر الأعياد وبخاصّة بعد عيد الحب أو عيد الميلاد، ظاهرة التخلّي عن “الكلاب الهدايا” التي تُرمى بعد فترة وجيزة في الطرقات، بسبب الافتقار لحسّ المسؤولية أو هربًا من مستلزمات التربية. هذا مع العلم أنّ البند الخامس من المادة الرابعة من القانون رقم 47/2017 يمنع “تقديم الحيوانات كجوائز”. ولا تنسى نحفاوي كورونا والأزمة الاقتصادية التي دفعت بالبعض إلى التخلّي عن كلابهم، وتركها لأقدارها في الطرقات”. وهناك أيضًا “محلات بيع الحيوانات التي تتقصّد تكاثرها لبيع جرائها… ومش كلّها مرخّصة!”. وقد رصدت “المفكرة” انتشارًا واسعًا لمحلات بيع الحيوانات في لبنان، والتي تعمد إلى “تزويج الكلاب”، بهدف بيعها، وإذا ما بيعت تُرمى في الشوارع في أحيان كثيرة.

ويلفت بعض أهالي صور والبقاع، ممن تواصلت معهم “المفكرة”، إلى نزوح الحيوانات البرية، بما فيها الكلاب الشاردة، من سوريا ومن المناطق الجنوبية الحدودية مع فلسطين هربًا من نيران الحرب والدمار، إذ تقودها غريزتها للبحث عن قوت لأجسادها النحيلة والذي غالبًا ما تجده في حاويات النفايات، فكيف الحال في شوارع المناطق اللبنانية الزاخرة بالنفايات المكدّسة، وهذا مبحث آخر.

ما الحلّ؟

“بدل ما تعتلوا هم الحيوان اعتلوا هم الانسان …مش عايشين بهالبلد؟” هذه العبارة تتكرّر على لسان كثيرين، كلّما طُرِحت ضرورة إدارة ملف الكلاب الشاردة، وضرورة تمويله، وحق الحيوانات في عدم التعنيف وفي التلقيح والوقاية. 

بداية ينفي نقيب الأطباء البيطريين في لبنان الدكتور نضال حسن استلامه أي خطة رسمية، ويوجز لـ “المفكرة” حلّ القضية بتطبيق الآلية المتبعة عالميًا، والتي أقرّتها وزارة الزراعة والتي تقوم على : Trap, Neuter, Vaccinate and Return، (TNVR) أي جمع الكلاب الشاردة، وخصي ذكورها وتعقيم الإناث، وتطعيمها وإعادتها إلى الشوارع، بعد منحها شارة دائمة للدلالة عليها.

ويلفت د. حسن، الى أنّ التخلّص من الكلاب عن طريق قتلها ليس حلًّا لأنّ التجربة أثبتت أنّ الأعداد تتكاثر، باعتبار أنّ الكلب يحمي منطقته من الكلاب والحيوانات الأخرى، مؤكدًا ضرورة تمويل هذه الخطة، نظرًا لعدم توفّر الإمكانيات “كلّ كلب بكلّف بحدود 100 دولار للمستلزمات الطبية، أما عن أتعاب البيطريين فنحن مستعدين للتطوّع”.

في المقلب الآخر، يؤيد جايسون ماير، مدير جمعية Animals Lebanon، آلية الخصي والتعقيم والتلقيح، لفاعليتها، ويستشهد بإسطنبول وأرقى دول العالم التي تعتمد الطريقة عينها، ويشير ماير إلى ضرورة إنشاء سجلّ وطني للكلاب، وتفعيل اللجنة الوطنية.

وقد رصدت “المفكّرة” محاولات من مبادرات فردية ومن جمعيات للتعويض عن التقاعس الرسمي، عبر إيواء الكلاب وتلقيحها للحد من مخاطر الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان، والحد من تكاثرها. ولا تملك وزارة الزراعة إحصاءً دقيقًا عن هذه المراكز وخصوصًا غير المرخّصة منها، علمًا أنّ هناك خمس مبادرات فقط مسجّلة لدى الوزارة.

الصورة: جمعية Animals Lebanon

الفاجعة تنفض الغبار عن قانون “حماية الحيوانات والرفق بها”

على المستوى الرسمي يسود تقاذف المسؤوليات والتنصّل وخطط لم تُنفذ: وزارة الزراعة تتمسّك بدورها التوجيهي الإشرافي، والبلديات الموكلة بالتحرّك عاجزة ومفلسة، ومعظمها غير ملم بوجود القانون رقم 47/ 2017 المتعلّق بالرفق بالحيوانات. “البلديات التي تخلّت عن واجباتها كانت ولا زالت ترمي الموضوع علينا كناشطين”، بحسب نحفاوي التي تضيف مستهجنة “قبل أسابيع اتصلت بنا إحدى البلديات تطالبنا بإيجاد الحل: “تعوا شيلوا الكلاب من هون”. وتضيف: “بدل أن تلجأ معظم البلديات الى التهديد، إن لم يصلها الدعم، بالتخلّص من الكلاب بطرق وحشيّة، الأجدى أن تقوم بواجباتها وفق القانون”.

وإثر مقتل الطفل ياسين، دعا وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال الدكتور عباس الحاج حسن إلى  اجتماع في 28 شباط، للتباحث في ملف الكلاب الشاردة، حضره ممثلون عن وزارات الزراعة والصحة والبيئة، منظمة الصحة العالمية، المنظمة العالمية لصحة الحيوان، الجمعيات المعنية، فيما غابت وزارة الداخلية، إحدى الجهات الرسمية الأساسية في تطبيق القانون.

اللافت في الاجتماع الذي حضرته “المفكّرة”، نيّة وزير الزراعة، وإن أتت متأخّرة، في تحويل هذه الأزمة إلى فرصة، ونفض الغبار عن الملف والقانون، ودعوته الجهات الرسمية والمعنيين إلى بذل الجهود والتعاون لتنفيذ القانون.

وبعد استعراض التحديات التي تحول دون تطبيق القانون وتنفيذ الخطة الوطنية الموضوعة من قبل وزارة الزراعة، وبعد مشاركة تجربتي زحلة وسعدنايل الناجحتين نوعًا ما في إدارة الكلاب الشاردة بالتعاون مع الوزارة، خلص الاجتماع إلى قرار استحداث لجنة كانت قد تشكّلت أساسًا منذ العام 2016، “ولم تكن فاعلة” باعتراف وزير الزراعة نفسه، والتذكير بكتيّب توعوي نشرته الوزارة حول مخاطر عضّة الحيوان والوقاية من داء الكلَب.

وأكّد د. الحاج حسن بأنّ هذه اللجنة، خلافًا للتجارب السابقة، ستعدّ مسوّدة اقتراحات من أجل البتّ بها خلال اجتماع لاحق، خلال 25 يومًا كحد أقصى، من أجل إقرار خطة شاملة للحل.

وختم وزير الزراعة بالخطاب الوطني الرسمي الأبرز اليوم: “نقولها بالفم الملآن: لا يوجد إمكانيات مادية! نحتاج المساعدة من المنظمات والهيئات الداعمة وسنوجّه كتب هذا الشأن”.

خطة وطنية تنشد التمويل والتصديق وعلى ما يبدو التعميم 

بالحديث عن المسؤوليات، بدت وزارة الزراعة متمسّكة بدورها التوجيهي الإشرافي والرقابي، إذ تحدّث د. الياس إبراهيم، عن الخطة الوطنية للقضاء على داء الكَلَب، والتي عمّمتها الوزارة قبل حوالي 4 سنوات عبر وزارة الداخلية، طالبة من البلديات التعاون والتنسيق والقيام بموجباتها وبوضع الخطط والبرامج لتنفيذها.

وتعدّد خارطة الطريق التي وضعتها وزارة الزراعة مع جمعية Animals Lebanon في 2016، والتي حصلت “المفكّرة” على نسخة منها، المشاكل التي تنشأ عن أزمة الكلاب الشاردة من داء الكَلَب، الضجّيج، الأوساخ (براز)، الاعتداء على الماشية، وحوادث السير. وللأسف، نجد في خانات معظم جداول الدراسات والخطط الرسميّة عبارة “لا معلومات”، وبالتالي لا إحصاءات، لا أرقام، لا داتا، ولا تحليل يستند إلى أدلّة علميّة.

في المقابل، تبدو معظم البلديات التي قابلتها “المفكّرة”، غافلة عن أحكام قانون حماية الحيوانات، كما نفى العديد منه استلام أي خطة تتحدث عنها وزارة الزراعة. “قبل أشهر قليلة، لم يكن لدى بلدية زحلة ولا حتى سعدنايل، علم وخبر بالخطة التي يفترض أنّها سبق وعُممت من قبل وزارة الداخلية، وفق الأصول، كونها سلطة الوصاية على البلديات” وفق ما أكّدته د.ة ريهام بسام، رئيسة دائرة الوقاية في وزارة الزراعة، لـ “المفكّرة”.

ولفتت د.ة بسام إلى أنّها عمدت شخصيًا إلى تسليم نسخ عن هذه الخطة لكلّ بلدية تتقدّم من وزارة الزراعة بشكوى أو مراسلة فيما خصّ الكلاب الشاردة، مشيرة إلى تحدّ جوهري يكمن في ضعف التنسيق والتواصل بين الوزارات، متسائلة عن المسار الذي اتُبع في تعميم الخطّة وإن كانت حقًا قد وصلت إلى البلديات؟ أم بقيت في أدراج وزارة الداخلية؟

ونقل العديد من البلديات لــ “المفكّرة” افتقارها للتمويل، وبالتالي عجزها عن تنفيذ القانون: “نحنا ما قادرين نحط الختايرة بمأوى بدنا نضبّ الكلاب الشاردة بمراكز إيواء؟ مين قادر يدفع على كلب؟ معاشات ما في، في أولويات عند الدولة.. بدها الجمعيات تكتب مشاريع وتموّل ونحنا مستعدين نتعاون”. بهذه الكلمات أوجز حسن دبوق، رئيس بلدية صور موقفه من الوضع.   

في المقابل برزت تجربة بلدية البربارة التي نجحت في معالجة ملف الكلاب الشاردة: “ما اخترعنا البارود، شفنا المتّبع علميًا وعالميًا، حيث قبضنا على الكلاب الشاردة، قمنا بخصيها (الذكور) وتعقيمها (الإناث)، وتلقيحها ومن ثم إعادتها إلى الشارع”، بحسب ما يقول رئيس بلدية البربارة السابق، رالف نادر لـ “المفكرة”.

ومأساة مقتل الطفل ياسين نفضت الغبار أيضًا عن الخطة الوطنية الاستراتيجية للقضاء على داء الكَلَب التي وُضعت في إطار مشروع الإتحاد الأوروبي عام 2018. ويرى د. إبراهيم في حديث مع “المفكّرة” أنّ “ما مرّت به البلاد من ظروف كورونا والأزمات المتعاقبة قد أخّر العمل بها: “انتهينا من إنجاز الخطة الأوليّة تقريباً في العام 2021 وأطلقناها في مؤتمر صحافي، وطلبنا من وزارة الداخلية تعميمها على البلديات”. ويؤكد د. إبراهيم أنّ وزارة الزراعة “ستعمل على تحديث الخطة وإرسالها إلى الجهات الاستشارية المختصة، مثل مجلس شورى الدولة، ليصار إلى مصادقتها بعدها في مجلس الوزراء وفق الأصول، لتعتمد وتؤمن الميزانية السنوية اللازمة لها، ولتعميم العمل بها”. وقدّرت كلفة تنفيذ الخطة بنحو 3 ملايين دولار غير مرصودة، وهو مبلغ زهيد مقارنة بالفاتورة الاستشفائية لمعالجة إصابات الكَلَب بحسب د. إبراهيم.

ووفق “خطة إدارة ملف الكلاب الضالة على نطاق البلديات”، تتوزّع الخطوات العملية على البلديات والسلطات المختصّة البيطرية والأطباء البيطريين والمنظمات غير الحكومية ومربّي الكلاب.

وتبدأ هذه الخطوات من الإحصاء التقريبي لأعداد الكلاب الضالّة الموجودة ضمن النطاق البلدي، إلى عملية “جمعها ووضعها في مكان مناسب، ومن ثمّ معاينتها وفرزها وتحصينها ضد الأمراض وبخاصّة داء الكلَب ووضع إشارة دائمة عليها للدلالة على تعقيمها وتحصينها، إضافة إلى الدورات التدريبية على عمليات التعقيم”.

وتضع الخطة حلولًا للتخلّص من الكلاب المريضة ولا يمكن علاجها أو الشرسة التي تهاجم الأهالي والأطفال عبر القتل الرحيم، وصولًا إلى مراقبة سلوك الكلاب الضالة.

ولدى سؤال “المفكّرة” عن التحدّيات التي حالت دون تعميم الخطط، تحديثها وتنفيذها، على مرّ كل هذه السنوات، توافَق د. إبراهيم ود.ة بسام، حول فقدان التمويل والإمكانيات وغياب التعاميم والمراسيم التنظيمية، طبعا إضافة إلى كورونا والأزمة الإقتصادية.

وما زال قانون حماية الحيوان (2017) ينتظر حتى الساعة القرارات التنظيمية الكفيلة بوضع الآليات وتوزيع المهام كل وفق نطاقه بعد 7 سنوات من صدوره، ما يتطلّب ورشة عمل جدّية، تبدو مستحيلة في ظل الأزمات، والإضرابات، وقّلة عدد الموظفين مقابل كثرة الملفات، خاصة مع تآكل الليرة اللبنانية: “موظف راتبه 70 دولار، كيف قادر يعطي ويشتغل ع خطط ومشاريع ومراسيم، بهيك جو؟ بالمجّاني؟” تتساءل د.ة بسام، وتشرح بأسف شديد: “آخر النهار كل موظّف بدو يفتش برا ع شغل يأمّن قوت عيلته”.

في موضوع التمويل، تشير د.ة بسام إلى صعوبة التعامل مع الجهات المانحة، تحديدًا العلاقة مع الوسيط، إضافة إلى الروتين الإداري، ونوم الخطط في أدراج بعض الوزارات، وضعف التواصل والتنسيق فيما بين الإدارات العامة. وهنا أكّدت وزارة الزراعة على ضعف ورود البلاغات إليها، وهو ما استنكره د. إبراهيم: “التنسيق مفقود، تعبنا نقول بلّغونا، متل ما بتبلّغوا الدرك لما حدا ينضرب ويوصل على المستشفى؟ إذا حدا عضّه الكلب… بس ما بكلّفوا خاطرهن”.

ويشرح د. إبراهيم: “متل ما بتتبلّغ وزارة الصحة لأنّها معنية بالإنسان، يجب تبليغ وزارة الزراعة لكونها معنية بالحيوان”. وعن خطورة ذلك يوضح: “الكلب بالرشيدية قتلوه.. ما عرفنا فيه بوقتا، وما قدرنا نجيب راسو لناخذ خزعات ونحدّد إصابته بالسُّعار أم لا.. فوضى! ما ممكن نعرف إذا الكلب مصاب بالكَلَب إلّا إذا أخذنا خزعة وأجرينا الفحوصات المخبرية بالفنار. أما على الإنسان فلا يُرصد المرض إلّا بعد تفشي العوارض، وبكون فات الأوان، لذلك فإنّ تلقّي حقنة داء الكلب ضمن 24 ساعة أساسي لاكتساب المناعة قبل أن يصل داء الكلَب إلى الدماغ”، على أن يستكمل المصاب العلاج بالأمصال اللازمة بعد ذلك.

عليه، يلفت د. إبراهيم إلى ضرورة التوعية في هذا المجال وضرورة تبليغ الوزارة، منعًا لتفشّي داء الكلَب، واصفًا إياه بالمرض الاجتماعي: “من المخزي بالقرن الواحد والعشرين أن يكون في لبنان حالات موت بداء الكلَب! العالم يعتبر هذا الداء مؤشرًا لقياس مدى تقدّم الدول”.

وزارة الصحة: “لم نعد نستطيع شراء أدوية داء الكَلَب”

تشير د.ة بري إلى أنّ علاج داء الكلَب الذي تبلغ مدّته ثلاثة أسابيع، متوفّر حاليًا ومجانًا في 9 مراكز موزّعة على المحافظات التالية: بيروت (الكرنتينا)، المتن (ضهر الباشق)، طرابلس، عكار (حلبا)، الجنوب (صيدا)، النبطية، بعلبك، الهرمل، والبقاع (زحلة). وتشرح أنّ فترة الحضانة لداء الكَلَب غالبًا ما تتراوح بين 20 و90 يومًا بعد التعرّض للعضّ، إلّا أنّها قد تطول أو تقصر حسب نوع العضّة وعمقها وقربها أو بُعدها عن الرأس.

إلّا أنّها تضيف أنّنا “لم نعد نستطيع شراء أدوية داء الكَلَب. ومنذ ثلاث سنوات ومنظمة الصحة العالمية تدعمنا في علاجه، ولكن إلى متى؟ بالآخر رح تقلّنا هيدي مسؤولية الدولة”، مضيفة: “لولا المنظمة، كنّا في مأزق خطير… استمرارية العلاج تبقى التحدّي الأكبر”. 

وتشير إلى أنّ التحدي الجدّي يكمن في الخطة الوقائية المتمثلة في مكافحة المرض من المصدر، أي لدى الحيوانات البرّية، الشاردة والأليفة، منعًا لانتقاله للإنسان، و”ذلك من مهام وزارة الزراعة”.

ولدى السؤال عن موازنة المصلحة الخاصة بتأمين اللقاحات، تعلن د.ة بري لـ “المفكّرة”: أنّ “الموازنة الخاصّة بكل اللقاحات من الكَلَب والحمى الصفراء والحجاج وتلك المضادة للأفاعي، كانت تبلغ 800 ألف دولار، أما اليوم مع انهيار العملة، لا تزيد عن 12 ألف دولار”.  

نشر هذا التحقيق في العدد 72 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان

لتحميل العدد بصيغة PDF

انشر المقال



متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، تحقيقات ، الحق في الصحة ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني