مواقف منظمات المجتمع المدني من الاستفتاء: بوادر صحوة بعد ركود


2022-09-28    |   

مواقف منظمات المجتمع المدني من الاستفتاء: بوادر صحوة بعد ركود
من صفحة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات على فيسبوك

أحدثَ 25 جويلية 2021 شرخا عميقا في صفوف المجتمع المدني التونسي الذي لم يكن على استعداد لرجّة تزعزع ديمقراطية اعتقدها ثابتة ولا دستورًا ومؤسّسات شارك في تصوّرها ووضعِها. ظهرتْ نتائج الشرخ من خلال تذبذب المواقف حيال لحظة 25 جويليّة وما بعدها، كاشفة عن مكامن ضعف القراءة السياسيّة لدى البعض والتسليم بالأمر الواقع لدى آخرين.

فعلى خلاف الدّور الرّيادي الذي لعبه المجتمع المدنيّ في الفترة التأسيسيّة لدستور 2014، فإنّه بدا في ظلّ “التّدابير الاستثنائيّة” في سباقٍ محموم لردّ الفعل على القرارات الأحاديّة لرئيس الجمهورية قيس سعيّد من دون أن يقدر على التصدّي لها أو إيجاد قوّة مدنيّة مضادّة فعليّة. ولئن شهدت الأسابيع الأخيرة قبل الاستفتاء نوعا من الاستفاقة لقوى المجتمع المدني ومساعٍ لإعادة إطلاق حركيّة مشتركة، فإنّ اختلاف القراءات حول عشرية الانتقال الديمقراطي والتدابير الاستثنائية والمسار التأسيسي الذي انتهجه سعيّد ظلّ قائما. فكانت الحصيلة أقرب إلى تسجيل المواقف منها إلى المقاومة الجدّية والمنظّمة للمسار.

صحوة تدريجيّة

لا يمكن أن نقرأ المواقف المتعدّدة لمكوّنات المجتمع المدني التونسي على أساس لحظة الاستفتاء بمعزل عمّا سبقها من محطّات طيلة السنة المنقضية. في الواقع، باغت 25 جويلية 2021 أغلبيّة الفاعلين المدنيين من أفراد ومنظمات حيث استفاق الجميع يومها على ضوء تحرّكات شعبيّة لم يدعُ لها أو يشارك فيها جلّ المجتمع المدني الذي كان طيلة عشر سنوات يمسك بصمّام الشارع والتحرّكات المناهضة للسلطة. تواترُ الأحداث وسرعتها انعكسا على قدرة المجتمع المدني على فهم ما يحصل والتأقلم مع تبعات 25 جويلية. أضيفَ إليه اكتفاء “قاطرة المجتمع المدني” ممثلة في الاتحاد العامّ التونسي للشغل، بالإشارة إلى ضرورة التمسّك بالشرعية الدستورية بالتوازي مع مباركته “إنهاء الحقبة التي وضعت تونس على صفيح من نار”. تواصل تخبّط المواقف حيال تأويل الفصل 80 لفترة، فيما عدا قلّة قليلة أكّدت منذ الوهلة الأولى على أنّ ما يحدث هو” انقلاب على الدستور” التونسي، أبرزها جمعية بيتي والجمعية التونسية للدفاع عن الحريّات الفرديّة.

مثّل الأمر 117 -وهو تنظيم مؤقت مقنّع للسلط- الصادر في 22 سبتمبر 2021 المنعرج الأوّل في صحوة المجتمع المدني التونسي، حيث بدأت المنظمات تتوجّس من خطر الانفراد بالرأي والسلطة مبقين على الشارع فارغا مفرغا من أبنائه الشرعيّين. خوفٌ ما انفكّ يتعمّق إزاء “التدابير الاستثنائية” في ظلّ تعنّت الرئيس سعيّد وانفراده بالرأي في علاقة بـ”خارطة الطريق” المعلن عنها في 13 ديسمبر 2021.

لعلّ المنعرج الحاسم الثاني الذي يمكن على أساسه قراءة مواقف المجتمع المدني اليوم هو ذهاب سعيّد إلى إجراء “الاستشارة الوطنيّة” التي انفرد بإعداد أسئلتها الموجهة لشرعنة مشروعه، من دون أن تتجاوز نسبة المشاركين فيها 5 بالمائة، ومن ثمّ رفضه إجراء حوار وطني فعليّ تشاركي ومروره بقوّة المراسيم إلى حوار بين مساندي الرئيس والمطبّلين له. دفع سعيّد بذلك جزءاً من النّخب المدنيّة التي ساندتْ انقلابه وتوسّمت انفتاحاً وتشاركيّة في مسار 25 جويلية، إلى مربّع المتوجّسين من مسار موغل في الانفراد.

لكنّ صحوة المجتمع المدنيّ لم تكن فقط متأخّرة، بل كانت أيضا ضعيفة، مكتفية بالحدّ الأدنى. فبعد سنة من سلطة الاستثناء، لا يمكن القول أنّ المجتمع المدني التونسي كان فاعلا وازنا في المعادلة. حيث واصل قطار الرئيس نسفَ كلّ مكتسبات الثورة التونسية -على قلّتها- عبر حلّ مجلس نوّاب الشعب، حلّ المجلس الأعلى للقضاء، عزل القضاة، تعيين هيئة للانتخابات موالية له ووأدِ الدستور، من دون أن يجدَ سلطة مضادّة قويّة تردعُه. بقِيَ المجتمع المدني التونسي في سباق محموم لإصدار البيانات المبرزة للخطر الواقع منذ 25 جويلية 2021 من دون عودةٍ فعليّة للشارع أو خلقِ مبادراتٍ من شأنها الحدّ من سلطة الرئيس.

 اكتفى المجتمع المدني بإصدار بيانات دون خلقِ مبادراتٍ تحدّ من سلطة الرئيس

عوامل الضعف

كشفَ 25 جويلية 2021 عن مكامن ضعف المجتمع المدني الذي وقف سدّا منيعاً طيلة العشريّة الفارطة في وجه محاولات العودة إلى الوراء أو محاولات تمرير قوانين تضرّ بتطلّعات الشعب سواء كان ذلك على مستوى دستور 2014 أو التشريعات اللاحقة له. في الواقع، انطلقتْ الأصوات المنادية بتقييم أداء المجتمع المدني من داخله بداية من العيد العاشر للثورة، حيث بدا عديد الفاعلين المدنيين غير راضين عمّا تحقّق، من دون أن تحقّق تلك الدعوات نتائج فعليّة. كما اعتبر آخرون أنّ بعض الانتصارات على غرار الفوز بجائزة نوبل للسلام جعلتْ المجتمع المدني يظنّ أنّه ربح المعركة وأنّ الديمقراطية مكسبٌ لا تراجعَ عنه. غيابُ هذا التقييم للانتصارات والهزائم على حدّ السواء، ساهم بطريقةٍ ولو غير مباشرة في غياب سرديّة جماعيّة مدافعة عمّا تحقق خلال العشريّة الماضية. فلم يجِدْ دستور 2014 من يدافع عنه رغم أنّ باب الحقوق والحريات وُلد من رحم المجتمع المدني. ولم تجدْ الهيئات الدستورية من يقيّمها ويدافع على ضرورة الإبقاء عليها. ولم تجدْ العدالة الانتقالية من يعاضدها ويتشبّث بضرورة استكمال مسارها لطيّ صفحة الماضي. ولم تجدْ اللامركزيّة من يدافع عنها من خبراء أو نشطاء مدنيين على الرغم من كونها أحد استحقاقات الثورة.

من جهة أخرى، نجحتْ حملاتُ السّحل الجماعي التي تعرّضت لها الجمعيّات خلال السنوات الأخيرة وخاصّة منذ 25 جويلية 2021، وخطاب التخوين الذي يستهدف النشطاء المدنيين بتصنيفهم في خانة عملاء الخارج أو “المرتزقة” المنتفعين من “العشريّة السوداء”، في التأثير على جزء كبير من مكوّنات المجتمع المدني، التي ظلّت خجولةً في تعاملها مع الأحداث السياسيّة في بداية السنة الماضية. فكلّ من يدافع عن الانتقال الديمقراطي هو بالضرورة مدافع عن مكاسبه ومصادر رزقه المتمثلة في التمويلات الأجنبية “المشبوهة”. ثمّ كيف يمكن لمن “تمعّش” من العشرية السابقة أن يُملي على الشعب الذي يعرف ماذا يريد مصيره واختياراته؟

نجح خطاب التخوين ضدّ النشطاء المدنيين في التأثير على جزء كبير منهم

من جانب آخر، ساهم ضعف تجذّر وتواجد المجتمع المدني، خصوصا الجمعيات الموجودة على مستوى وطني، على الميدان، في الحدّ من قدرته على تحريك الشارع. كما أدّى طغيان البعد التقنيّ على عديد الجمعيّات التونسيّة التي غلّبت المنطق “الإداريّ” على المنطق النضاليّ، إلى تذبذبِ المواقف حيال المسار الانقلابيّ. في الضفة المقابلة، دفعت القناعات السياسيّة اللاديمقراطيّة البعض الآخر إلى عدم معارضة مسار اعتقدوا أنّه يستهدف خصومهم السياسيّين والإيديولجيّين. أُضعفَ المجتمع المدني التونسي من خلال تواجد موالينَ لقرارات الرئيس في صفوفه وهو ما جعل عديد الجمعيّات تعيش مخاضا داخليّا عسيرا منعها من اتخاذ موقف واضح، بلغ في بعض الأحيان حدّ إصدار بيانات وبيانات مضادّة عن نفس الهيكل على غرار الجمعيّة التونسيّة للمحامين الشبّان والرابطة التونسية لحقوق الإنسان.

كلّ هذه الأسباب وغيرها جعلتْ المجتمع المدني يتعامل لفترة طويلة كالأحزاب السياسيّة، في تغليب واضح لحسابات الرأي العامّ على المواقف المبدئية التي لطالما ناضل من أجلها. الاّ أنّ هذا المخاض بجميع محطّاته مهّد اليوم إلى محاولات تجميع جديّة للقراءات والجهود بين مختلف مكوّنات المجتمع المدني على اختلاف مهامّه وخلفيّاته.

عديد الجمعيّات عاشت مخاضا داخليّا عسيرا منعها من اتخاذ مواقف واضحة

المواقف من الاستفتاء: التزام بقواعد الديمقراطية في لعبة غير ديمقراطية

اجتمعت جلّ قوى المجتمع المدني التونسي على انتقاد المسار الذي مرّ به صياغة دستور سعيّد حيث كُتبت فصوله داخل “الغرف المظلمة”، من دون أيّ تداول علني. فعلى خلاف ما تعوّد به المجتمع المدني التونسي خلال عشريّة الثورة، لم يخضعْ هذا النصّ على أهميته إلى نقاش عامّ وحوار مجتمعي كما كان عليه الحال في مسار صياغة دستور 2014.

لم يُترجم نقدُ مسار صياغة دستور 2022 في موقف موحّد لكلّ القوى المدنيّة، بل على العكس، اختلفت تدرّجات الرفض وصولا إلى الانخراط، مع اتفاق ضمنيّ على احترام قواعد الديمقراطية، حتّى وإن كانت اللعبة في حدّ ذاتها غير ديمقراطيّة، في ظلّ سيطرة لاعب أوحد عليها.

يمكن تلخيص المواقف بخمسة مواقف كبرى:

أوّلها دعوة المواطنين والمواطنات الى مقاطعة “مهزلة الاستفتاء”، موقف تزّعمته منظمة أنا يقظ وجاء على خلفيّة مقاطعتها للاستشارة الإلكترونيّة التي اعتبرتها مشوبة بخروقات وعدم حماية المعطيات الشخصيّة للمواطنين، معتبرةً أنّ النتائج الضعيفة للاستشارة لا تعكس “إرادة الشعب” وبالتّالي لا جدوى من اعتمادها كأساس لصياغة دستور جديد.

كما طالبت المنظمة رئيس الجمهورية بإلغاء الاستفتاء معتبرة أنّ التنقيحات المدخلة على مرسوم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات غير دستورية وأنّ الهيئة فاقدة للاستقلالية، وعبّرت عن استعدادها التامّ للدخول في تحرّكات نضالية من أجل حثّ المواطنين على عدم المشاركة في “مهزلة استفتاء الدستور”[1].

موقف وإن كان شجاعاً وأقليّاً فانّه لا يأتي على خلفيّة موقف مبدئي من “مسار 25 جويلية”، حيث ساندت منظمة أنا يقظ حلّ المجلس الأعلى للقضاء وإعفاء القضاة من قبل الرئيس. بل يستند هذا الموقف أساسا على أخطاء تقنيّة شابتْ الاستشارة وعدم استقلاليّة هيئة الانتخابات، وغيرها من الخروقات الجوهريّة التي شابتْ المسار وأدّت إلى استفتاء غير شرعي.

ثاني المواقف والذي تبنّاه طيف واسع من المجتمع المدني التونسي هو “رفض مشروع الدستور ومسار الاستفتاء” من دون دعوة المواطنين للمقاطعة صراحة أو التصويت بلا. بادرت النقابة التونسيّة للصحفيين التونسيّين في 05 جويلية بهذا الموقف، معتبرة أنّ النصّ المعروض لم يشملْ تشريكاً لمكوّنات المجتمع السياسي والمدني وترجم توجّها انفراديا واضحا ومصادرة لحقّ التونسيين في النقاش العامّ حول مستقبلهم، منبهة لخطورته وعدم استجابته للحقوق والحريات واستقلالية القضاء والفصل بين السلطات والتوازن فيما بينها.

موقف ما فتئ يتطوّر في 07 جويلية من خلال بيان أصدرته 28 جمعيّة تحت عنوان “لا لدستور الانفراد بالحكم”، تضمّن رفض مشروع الدستور والدعوة إلى سحبه، والتعبير عن تجنّدها للقيام بكل “التحركات المشروعة لتحقيق إصلاحات دستورية تحترم كرامة التونسيات والتونسيين وتستجيبُ لتطلّعاتهم”. توّج هذا الموقف بانعقاد “الملتقى الأول للمجتمع المدني حول مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء” بمبادرة من المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، والذي أسفر عن تأسيس “الائتلاف المدني من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة”، الذي ضمّ 40 منظمّة وجمعيّة، ليكون قوّة مضادّة رافضة لمشروع “الدستور الممنوح” ومسار الاستفتاء “المعطوب”.

تمسّك الائتلاف المدني برفض استفتاء الشعب عن الحقوق الإنسانية الكونية والانخراط في مسار ملغوم معلناً استعداده لتنظيم كلّ الأشكال النضالية المشروعة لتحقيق مطالبه، في إشارة إلى الخروج للشارع. هذا الموقف الأغلبي في صفوف المجتمع المدني كان وسيلة لتجميع الكلّ حول رفض المسار والدستور من دون الدخول في الجدل المحتدم حينها بين أنصار المقاطعة، ومن يدعو إلى المشاركة والتصويت بلا.

لكنّ الدعوة للتصويت بلا لم تغبْ عن الساحة المدنيّة التونسيّة، حيث تبنّته الجمعية التونسية للدفاع عن الحقوق الفرديّة قبيْل أيّام من الاستفتاء رغم رفضها القطعيّ للمسار، معتبرة أنّ خطورة المشروع المعروض بما يحمله من تهديد للحريّات والحقوق وعدم تكريس الهيئات الدستورية والرقابية لا يمكن الحدّ منها الاّ عن طريق المشاركة الواسعة في الاستفتاء لقبر المشروع المذكور[2].

موقف شُجاع وإن أثبتت نتائج الاستفتاء محدودية تأثيره على الناخبين والناخبات. حيث باستثناء ائتلاف صمود المشارك في حملة الاستفتاء والداعي للتصويت بلا، لم يناصرْ هذا الموقف أحد. في الواقع، لا يمثّل الشقّ الداعي للتصويت بلا وحدة متجانسة بل تختلف مكوّناته حول تشخيص لحظة 25 جويلية. ففي حين اعتبرت الجمعية التونسية للدفاع عن الحقوق الفردية منذ الوهلة الأولى أنّ ما يقوم به سعيّد هو انقلاب على الدستور، ساند ائتلاف صمود، الذي يضمّ في صفوفه العميد الصادق بلعيد رئيس الهيئة الوطنية من أجل جمهوريّة جديدة، ما سميّ بالإجراءات الاستثنائيّة واستمات في الدفاع عن المسار، مؤكّدا على أنّ الدعوة للتصويت بلا ليست رفضا للمسار وانّما هي رفض لمشروع الدستور[3].

انتظر جميع الفاعلين المدنيين والسياسيين موقف الاتحاد العام التونسي للشغل من الاستفتاء باعتباره البوصلة التي توجّه عديد القوى المجتمعية والجهة الأكثر قدرة على الحشد والتعبئة في البلاد. لم تشرْ بوصلة الاتحاد إلى وجهة محدّدة، حيث اختارتْ المركزيّة النقابيّة تقديم ملاحظات بخصوص النسخة الأولى لمشروع الدستور والنسخة المعدّلة، مع “ترك حريّة التصويت لفائدة الهياكل النقابية وكافّة العمّال بالفكر والساعد”[4]. موقف غلبتْ عليه الحسابات النقابية/ السياسيّة، وطغى عليه هاجس الخوف من الانقسام.

على خلاف المواقف الأربعة السابقة، تفرّدت بعض الجمعيات بموقف مساند للدستور ومنخرط في مسار الاستفتاء. فكلّ الجمعيات الاثنتين والعشرين التي شاركت رسميّا  في حملة الاستفتاء عبّرت عن موقف مناصر له. ولعلّ أبرز ما يجمع بين الجمعيات المساندة رسميّا للاستفتاء كونها جمعيّات محليّة غير معروفة على الساحة المدنيّة الوطنية وهو ما يطرح تساؤلات حول خلفيّة الانخراط في الحملة ومدى ارتباط الجمعيّات المعنيّة بالحملة “التفسيرية” للرئيس.

من جهة أخرى، حظيَ الاستفتاء بدعم من قبل منظّمتين “تاريخيتين” ألا وهما الهيئة الوطنية للمحامين بتونس والاتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري. تبلور الموقف على خلفيّة مساندة الهيئة الوطنية للمحامين ممثلة في شخص العميد ابراهيم بودربالة منذ اللحظات الأولى ل25 جويلية 2021 لمسار الرئيس وتدعّم من خلال ترؤّس العميد بودربالة للجنة الحوار الاقتصادي والاجتماعي ودفاعه المستميت عن الدستور وصولا لمغالطة التونسيين عبر التأكيد على أنّه في حالة فشل الاستفتاء يتولّى راشد الغنوشي -رئيس البرلمان المنحلّ- رئاسة الجمهورية.

انضمّ الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري إلى صفّ الداعين للتصويت بنعم على لسان رئيسه نور الدين بن عيّاد مؤكّدا على ضرورة المشاركة بكثافة في الاستفتاء مع “ترك الحريّة للفلاحين والبحارة للتعبير عن موقفهم بكلّ حريّة بنعم أو لا” مشدّدا على القناعة الراسخة للمنظمة بأنّ التصويت بنعم يخدم مصلحة منظوريهم[5]. ينسجم هذا الموقف تماماً مع واجب الولاء والطاعة الذي أبداه نور الدين بن عيّاد لقيس سعيّد من خلال انقلابه على الرئيس السابق عبد المجيد الزار برعاية مباشرة من رئيس الجمهوريّة الذي رفض التعامل مع المنظّمة “ما لم تطهّر في شخص رئيسها” السابق.

ذات الاختلافات التي شقّت صفوف المعارضة الحزبيّة التونسيّة شقّت صفوف المجتمع المدني بين مقاطع وداعٍ لها وبين رافض للاستفتاء دون “الوصاية” على مواقف الشعب وداعٍ للتصويت بلا أمل في إسقاط استفتاء حُسمت نتائجه من قَبل ومنظمات “تاريخيّة” وجمعيّات محلّية منخرطة في مسار الرئيس.

اختلافات جوهريّة فنّدت سرديّة وأكّدت معطى: لا يمكن الحديث عن المجتمع المدني كوحدة صمّاء تتحرّك بالضرورة في فلك المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان وتحتكم لقواعد الديمقراطية. أمّا المعطى، فهو عدم قدرة المجتمع المدني على التعبئة بما يكفي في الشارع وعدم قدرته على التأثير في صناديق الاقتراع.

إنّا للشارع وإنا إليه راجعات: النسويات يَقُدنَ المعركة

في ظلّ الحركيّة التي شهدها المجتمع المدني التونسي مؤخّرا، برزت القوى النسويّة كشمعة مضيئة في ظلام الاستبداد وعملت على إيجاد قوّة مضادة لمقاومة أيّ انحراف من شأنه أن ينتهك حقوق النساء والمواطنة والديمقراطية، سواء من خلال تقديم قراءات نسويّة لمشروع النصّ والعمل على تبيان مخاطره أو من خلال العودة إلى الشارع.

أخذ نشاط المنظمات النسويّة ضدّ الاستفتاء أشكالا عدّة، سواء بصفة فرديّة، أو في إطار الدينامية النسويّة، ومن ثمّ في إطار حزام أوسع يضمّ الجمعيّات التونسيّة على اختلافها. واعتبرت الديناميّة النسويّة أنّ مشروع الدستور ناتج عن مسار شابته إخلالات جمّة أهمّها غياب الحوار المجتمعي الضروري لكلّ مسار تأسيسي باعتباره يفرز “عقداً اجتماعياً” بين المواطنين والمواطنات. كمّا أشارت إلى أنّ النصّ المعروض على الاستفتاء خطير ومهدّد للديمقراطية والحريات العامّة والفرديّة وتحقيق المواطنة والمساواة الفعلية. فلئن أقرّ المشروع “مبدأ عدم التمييز” إلا أنه قد عوّض المساواة الفعلية بين الجنسين بالعدل وفق تصوّر ديني يحيل على المعنى المقاصدي الذي تغيب فيه المساواة. كما حافظ النص الدستوري الجديد على الحريات العامة والفردية إلاّ أنه قد قيّدها بما يهدّد جوهرها”[6].

إثر أشهر طويلة من هجْرِ المجتمع المدني للشارع وتركه للأحزاب والائتلافات المناهضة لسعيّد، قادتْ الديناميّة النسويّة، المتكوّنة من تسع جمعيّات نسويّة، معركة العودة إلى شارع الثورة في 10 جوان 2022، من خلال وقفة احتجاجيّة تحت شعار “لا تراجع لا استفتاء على حقوق النساء”. وقد دعتْ من خلالها إلى الدفاع عن الحقوق والحريات والمساواة باعتبارها مكاسب للثورة التونسيّة ولا يمكن أن تكون رهينة مزاج الأغلبية.

مخاوف تأكّدت في إثر صدور مشروع دستور ملغوم يستند إلى مقاصد الإسلام من جهة ويسقط عمدا الإشارة إلى المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان، ولا يحمّل الدولة التونسية واجب تحقيق مقاصد الإسلام فقط بل يدستر انتماء تونس إلى “الأمّة الإسلامية”. مشروع يستلب باب الحقوق والحريات المكرّس بدستور 2014 ويسقط عمدا مدنيّة الدولة والضمانات المحيطة بهذه الحقوق. هذا التهديد الصريح لمكاسب النساء وحقوق الإنسان جعل المنظّمات النسوية تنخرط في حملة مناهضة لمشروع الدستور على غرار جمعيّة أصوات نساء التي نظّمت حملة متميّزة لتبسيط مخاطر النصّ على حقوق النساء والإنسان.

توّج الحراك النسوي المناهض للاستفتاء بالخروج ثانية إلى الشارع يوم 22 جويلية الى جانب  مجموعة من التنظيمات المدنيّة والشبابيّة للتعبير عن رفضهم لمشروع دستور الرئيس ثلاثة أيّام قبل الاستفتاء من خلال مظاهرة في شارع الثورة، جوبهت بالغاز المسيل للدموع واستعمال العنف ضدّ المتظاهرين والمتظاهرات والإيقافات، لتعطي صورة بشعة عن وضع الحريّات في ظلّ “الجمهورية الجديدة”.

تمثّل بوادر الصحوة التي يعيشها المجتمع المدني منذ نشر مشروع الدستور معطًى إيجابياً يجب تدعيمه والعمل على ديمومته. لكنّه يبقى نسبيّا في ظلّ القدرة المحتشمة على تحريك الشارع وعجز القوى المدنيّة على إقناع الشعب بخطر الدكتاتورية القادمة وتواصل الرئيس في انفراده بالسلطة واعتماد سياسة الأمر الواقع. لن ترضى السلطة الحاليّة بوجود قوى تقلّل من مصداقيتها وتطعن في شرعيتها. وهو ما يضع على رأس أولويات المجتمع المدني القادمة، التفكير في كيفيّة التصدّي للسيف المسلّط على الجمعيّات، وهو تنقيح المرسوم عدد 88 المنظم لها، والذي بدأت الحكومة العمل عليه منذ أشهر في اتجاه التضييق من الحرّيات. لكنّ حريّة الجمعيات لا تنفصل عن الاستحقاق الديمقراطي، الذي يجب علينا الاعتراف بأنّه لم يجد في الفترة الماضية مجتمعاً مدنيّاً مهيئاً للدفاع عنه.

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة


[1] بيان لمنظمة أنا يقظ، 27 ماي 2022.

[2] الجمعيّة التونسية للدفاع عن الحقوق الفرديّة، بيان بعنوان “لا لدستور انفرادي يؤسس لنظام رجعي”، 7 جويلية 2022.

[3] ائتلاف صمود، بيان صادر في 10 جويلية 2022.

[4] الاتحاد العامّ التونسي للشغل، بيان الهيئة الإدارية الوطنية المجتمعة يوم 02 جويلية 2022.

[5] تصريح نور الدين بن عياد لوكالة تونس افريقيا للأنباء، 21 جويلية 2022.

[6] بيان صادر عن مكونات الديناميكية النسوية، 2 جويلية 2022.

انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، حراكات اجتماعية ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني