تأسّست حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” وانطلقت في آذار 2016، عشية الإنتخابات البلدية في لبنان، التي امتدت على أربع مراحلخلال شهر أيار. خاضت الحركة الإنتخابات البلدية في المدن والبلدات الرئيسية المختلفة، من بيروت إلى البقاع فبعلبك وجبل لبنان والجنوب وطرابلس. في المحصلة، فازت الحركة بمقعدين: جوزيفين زغيب عن المعقد البلدي في كفرذبيان، وغادة غانم عن المعقد البلدي في صغبين. كما حصل المرشح على بلدية بيروت شربل نحاس، مطلق “مواطنون ومواطنات في دولة”، على 6921 صوت أي ما يعادل 7.1 في المئة من أصوات المقترعين[1].
جاءت حملة حركة “مواطنون ومواطنات” لتقدم نموذجاً إنتخابياً متكاملاً يقوم على ثلاثة عناصر أساسية. أولاً، فتح باب المواجهة الصريحة مع النظام السياسي ونخبه الحاكمة بصفتها “فاشلة، عاجزة، ومافياوية”، بحسب مصطلحات الحركة. ثانياً، الإستفادة من الإنتخابات البلدية كخطوة أولى من أجل بناء إطارٍ سياسيّ منظّم ورحب، يمتد على مستوى لبنان.ثالثاً، وإستطراداً، خوض الإنتخابات البلدية على مساحة الوطن من أجل التحضير لهذا الجسم الذي يطمح ليضمّ أكبر عددٍ من العاملين في الشأن العام. فهذا النموذج يقوم على مبدأ تقديم حلولٍ جذرية للمشاكل التي تعاني منها المناطق اللبنانية. لا مهادنة مع النظام الذي يعاني من أزمات وتخبطات داخلية، ولا تقديم لوعود وردية، وإنما تسمية الأشياء بأسمائها، فـ”حراثة الحقل”، أيّ تحضير الأرضية الخصبة للتغيير، تأتي “قبل زرع أيّ بذرة فيه”[2]. يهدف هذا المقال، وبناءً على مراجعة دقيقة لأدبيات الحملة وبرنامجها وحملتها الإنتخابية، إلى تقديم عرضٍ لأهدافها، واستراتيجيتها الإنتخابية، وخطابها السياسيّ، مثلما قدمته هي للرأي العام. وهو يأتي عن حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” كجزءٍ ثان من سلسلة مقالات حول القوى الإعتراضية في الانتخابات البلدية. قدم الجزء الأول لتجربة “بيروت مدينتي”[3]، ويقارب الجزء الثالث “لائحة الإنماء” في زغرتا ولائحة “بعلبك مدينتي”، وتنتهي السلسة بمقالٍ تحليليّ رابعٍ يقارن بين التجارب.
فرصة سياسيّة لتغيير ميزان القوى لم تكن الإنتخابات البلدية بالنسبة إلى “مواطنون ومواطنات في دولة“سوى خطوة أولى في سياق العمل السياسيّ المباشر الذي تهدف إليه الحركة، ويصبّ في “بناء إطارٍ سياسيّ منظّم” على مستوى لبنان.والبلديات، بحسب الحركة هي جزءٌ من المؤسسات التي تعكس بصورة واضحة “البنيان المترهل للدولة”. وبالتالي، مقاربة الإنتخابات البلدية لم تأت حصراً من الباب المحلي بهدف الإنماء أو تنفيذ المشاريع المعينة، إنما من باب محاولة إستعادة الدولة وإعادة تفعيل مؤسساتها. فالمسألة، إذاً، هي سياسية بامتياز تتعلق بالمستوى الوطني الكامل أكثر منه من المستوى المحلي الجزئي. والسياسة هنا لا تعني بالضرورة الإنماء المحلي وإدارة الشؤون اليومية للمواطنين على صعيد البلدية. فالبلديات وطريقة انتخاب أعضائها هما جزءٌ من الهرمية التي أوصلت الأفراد في لبنان لأن يكونوا رعايا وأبناء عائلات وطوائف، أكثر من كونهم مواطنين في دولة يحكمهم القانون ويحدد واجباتهم وحقوقهم. تكاد الحملة الانتخابية، وتالياً الحركة السياسيةالمنشودة،تتمحور حول فكرة مفادها أن النظام السياسيّ مترهلٌ حالياً وهو نظامٌ مأزومٌ وفاشل، ونحن نمرّ بمرحلةٍ إنتقالية يجب الإستفادة منها للانتقال إلى الدولة المدنية والعادلة. وبالتالي، فإن الفرصة التي تقدّمها الإنتخابات البلدية تتيح تعريته أكثر، إذ أن كلّ استفتاء شعبي خطر على النخب الحاكمة، وهو فرصة للناس الراغبة في التخلص منها والمتضررة من الوضع القائم لإظهار قوتها ومكانتها في ميزان القوى. بالنسبة إلى الحركة، الغمار الانتخابي البلدي لا يهدف بالضرورة إلى الوصول إلى السلطة المحلية، إنما هو خطوة من أجل تغيير ميزان القوة لصالح القوى الإعتراضية في لبنان ضد النظام الحاكم.
لا لتجهيل الفاعل كان جلياً أن الحركة تخوض الغمار السياسي برؤيةٍ واضحة لا التباس فيها. استراتيجية الحملة خلال الانتخابات البلدية اعتمدت على القول صراحةً بأن الطبقة الحاكمة، كونها مافيات، سرقت المال العام، ومن ضمنها أموال البلديات، للمنفعة الشخصية. هذه الفلسفة حدّدت خطاب الحملة، خصوصاً لجهة التهجم الصريح على النخب الحاكمة، منافستها الأساسية. فلجأت الحملة مثلاً إلى عرضٍ صوريّ يقدّم بالأرقام حجم الدعم الشعبيّ للنخب الحاكمة، من أجل نفي صفة التمثيل الحصري والمطلقة التي تدعيها. بحسب هذا التمرين، يمثّل “الحزب التقدّمي الإشتراكيّ” نسبة لا تتعدى 5.3 في المئة من اللبنانيين، و”حركة أمل” 8.8 في المئة، و”التيار الوطني الحر” 13.7 في المئة، و”تيار المستقبل” 29 في المئة. ولفتت الحملة إلى أن هذه الفئات قلماً يتواجد لها تمثيلٌ شعبيّ خارج نطاقٍ جغرافيّ محدّد يأخذ معالمه من حدود تواجد أبناء طائفة معينة. فما يمكن أن تقدمه “مواطنون ومواطنات” يأتي على تناقضٍ تامّ مع هذه المعادلة المحدودة جغرافياً. وضعت الحملة الإنتخابات البلدية في سياق النظام السياسيّ الذي بني بعد الحرب. فالمشاكل التي تواجه المدن والبلدات ليست فقط محدودة بالزمان والمكان، منعزلة عن السياق الوطني العام، إنما هي نتاج نهج معين تستفيد منه سلطة المال التي تلتهم مصالح الناس، وتصفّي أيضاً الأرض من خلال القضاء على المساحات العامة، وتدفع الشعب إلى الهجرة.فيأتي التنافس البلدي كمساحة يهتم بها وجهاء العائلات ومندوبي الأحزاب، من أجل تشكل “وجهاء جدد” على الصعيد المحلي، هدفهم إرضاء الزعامات التقليدية والمالية في مرحلة أولى من أجل الإستفادة منهم في مرحلة تالية ينتج عن هذه المقاربة الإبتعاد التام عن سياسة تجهيل الفاعل. فالطبقة الحاكمة هي المسؤولة الأساسيّة عن ترهل الدولة وخدماتها. وما يشكو منه المجتمع اللبناني “له أسبابه وأربابه. وله حلوله أيضاً”. لذلك، قرّرت الحركة خوض الإنتخابات على صعيد المدن والبلدات المختلفة في لبنان، ولو من خلال الترشّح بمقعدٍ واحد، وبخطابٍ سياسيّ يواجه النخب الحاكمة. وسعت الحملة إلى ربط مشاكل القرى والمدن، “بحيث أن الهموم الأساسيّة التي يعاني منها اللبنانيّون واللبنانيّات في بلداتهم المختلفة ليست مختلفة، وهي تجمعهم ولا تفرقهم”[4]. مع الأخذ خصوصيات كل منطقة بعين الإعتبار، تم التركيز على النهج الفاسد الذي طال جميع مناطق لبنان. فمثلاً، كانت المرشحة كلود مرجي في جبيل تخوض الحملة ضد خصخصة المرافئ العامة في جبيل، واصفةً إياها بـ”سويليدير 2″، من أجل تسليط الضوء على النهج الواحد الذي بدأ مع ولم ينته عند “سويليدير” في وسط بيروت. قُدّم التكامل بين جبيل وبيروت وصيدا على أنه نهج واحد من الحكم. بوضوح، الحركة تخوض الإنتخابات ضد النظام، كمسبّبٍ أساسيّ للخلل على المستوى المحليّ، ولم تسعَ إلى الوصول إلى السلطة المحلية لتنفيذ مشاريع الإنماء بمعزلٍ عن الأزمة السياسيّة التي سبّبها النظام.
الحملة الانتخابية: إلى المواجهة لقد وضعتالحركة برنامجاً إنتخابياًبلدياً شاملاً لا يتعلق فقط ببلدية معينة إنما يشمل العمل البلدي بشكلٍ عام، ويتناول الصلاحيات والعقبات القانونية والمسائل الاقتصادية الخدماتية. وقد صيغ البرنامج بلغةٍ مباشرة تحاكي الواقع المأزوم للدولة، محاولاً تقديم الحلول. وبُني على معاينةوتشخيص وخطّة عمل محدّدة للمرحلة الإنتقالية. عكست الحملة الإنتخابية الأسلوب السياسي الذي اعتمدته في خطابها السياسي، لجهة المواجهة المباشرة. فتوجهت بوسطة “مواطنون ومواطنات” برفقة الإعلام إلى الوسط التجاري والواجهة البحرية لبيروت لتسليط الضوء المباشر على الفساد وسرقة الحيز العام. كذلك، رفضت الحملة بشخص مرشحها في طرابلس، المشاريع التي تحاك للمدينة ضمن النهج الواحد، كردم البحر والمرآب. بذلك، تم خوض التحدي بغض النظر عن النتائج. فقد أتى أساساً لتسجيل موقفٍ مبدئيّ يعكس القناعة بالمواجهة من جهة، ومحاولة إزعاج هذا النظام بكامل عناصره وتفرعاته من جهة أخرى. فخاضت الحركة الانتخابات البلدية في مدينة جبيل مثلاً رفضاً لمبدأ التزكية. بالإضافة إلى ذلك، اعتمدت الحملة على فلسفة المواجهة من خلال البرامج مع الجميع، خصوصاً في بيروت. فلائحة “مواطنون ومواطنات” كانت الوحيدة التي لم ترفض المشاركة في المناظرة التي دعا اليها معهد العلوم السياسية في “جامعة القديس يوسف”. وتساءلت الحملة، نتيجة “التهرّب” في آخر لحظة من مناظرة إنتخابية، عن مدى جرأة الآخرين في مواجهة سلطة المليارات والميليشيات، في إشارةٍ غير مباشرة للائحة “بيروت مدينتي”. يعكس موقف الحركة هذا قرارها الواضح بالمواجهة المباشرة وغير المهادنة منذ لحظة إعلانها وبعدها.
إعادة السياسة إلى الإنتخابات البلديّة لقد بدا جلياً أن المواجهة المباشرة وتسمية الأشياء بأسمائها هو العنوان العريض لحملة “مواطنون ومواطنات في دولة”. أما الاساليب الأخرى التي تبنتها لوائح السلطة أو لوائح المجتمع المدني فهي بالنسبة إلى شربل نحاس، محاولات لخلق مسافة، لا بل الفصل بين المواطن والسياسة[5]. ففي الانتخابات البلدية، حضرت أدبيات وسرديات من شأنها أن تبعد الناس عن السياسة، مثل: العائلات، الإنماء، والمجتمع المدني. وهذه المصطلحات الثلاثة، برأيه، ليست إلا نفياً للسياسية. فالإنماء يعد بالبرامج على الصعيد المحلي لإخفاء قصور الدولة والمؤسسات الرسمية في تحمل مسؤولياتها تجاه المجتمع. ومفهوم العائلات يبرر ظهور وجهاء محليين لديهم مونة على قاعدة شعبية محلية، وهدفهم إرضاء الزعماء أو الأحزاب التقليدية. أما المجتمع المدني الذي يخوض الانتخابات فهو لا-سياسيّ، يأتي بتشكلات تسعى للحلول محلّ النخب الفاسدة التقليدية، ما يغيّب مبدأ المحاسبة وتحميل المسؤولية. في هذا السياق، يأتي الموقف من النظام والفساد والسرقة كمحورٍ للعمل السياسيّ. فالحركة لا تهدف إلى بناء إئتلافات ظرفيّة، يمكن أن ينفرط عقدها غداة إعلان النتائج الإنتخابية. الهدف كان تثبيت الوجود في كلّ مناطق لبنان وتأكيد وجود خيار ثالث أمام اللبنانيين يدعوهم إلى الإلتفاف حوله، من أجل بناء دولة مدنيّة ديمقراطيّة، عادلة وقادرة.
نشر هذا المقال في العدد | 41 | تموز/ يوليو 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.