من يحمي نهر العاصي؟ 


2021-08-30    |   

من يحمي نهر العاصي؟ 
ما زال نهر العاصي أجمل وأنظف نهر في لبنان (تصوير مايا مزبودي)

“ممنوع تغذية أسماك الترويت في مسامك رأس العاصي بأحشاء الدواجن (مصارين الدجاج)”، أمر أصدرته عشيرة دندش التي بنى بعض أبنائها نحو 30 منزلاً في منطقة رأس العاصي صعوداً من المنبع الأساسي للنهر، عين الزرقا، ومن حولها. هنا لا يسري المثل القائل “إن أردت أن تطاع فاطلب المستطاع” الذي تتبناّه بلديّتا الهرمل والشواغير ومعهما اتّحاد بلديات الهرمل والقوى السياسية في المنطقة مع مُربّي الأسماك وأصحاب المنتزهات على نهر العاصي خارج منطقة سيطرة الدنادشة. أَمرَ هؤلاء بمنع إطعام ترويت المسامك في أعلى العاصي أحشاء الدواجن، ونقطة على السطر، وهكذا كان. للدنادشة أسبابهم حيث تشرب عائلاتهم التي تسكن في رأس العاصي من مياه النهر وتستعملها للاستخدام المنزلي وهي أمور ستصبح متعذّرة لأنّ أحشاء الدجاج تُلوّث المياه. وتمتد منطقة سكن عشيرة دندش من النبع إلى المخاضة بمسافة تصل إلى 3 كيلومترات من طول العاصي.

يضحك أحد ناشطي الهرمل، ومعه كثيرون من أهلها، وهو يعلّق على هذا الأمر بالقول: “خلّيهم يسلّموا بقية النهر لشي عشيرة تانية لتحميه، طالما المسؤولين عن حمايته رافعين العشرة ومتخليين عنه”.  

تعتبر تربية سمك الترويت من أهم موارد الدخل في منطقة الهرمل مع المنتزهات المنتشرة على ضفّتيه من منبعه في عين الزرقا إلى مزرعة العميرية عند الحدود السورية بطول 46 كيلومتراً، هي مجمل حصّة لبنان منه، فيما يقطع 525 كيلومتراً في سوريا وصولاً إلى مصبّه في البحر المتوسط في لواء إسكندرون. والعاصي الذي عصى الطبيعة ومجرى الأنهار في لبنان من الشمال إلى الجنوب، إذ اختار معاكسة التيّار والجريان شمالاً نحو سوريا، يعجز عن ردّ المعتدين عليه حيث تُستنزف خيراته التي يغدقها على منطقة تكاد تنعدم فيها مصادر الدخل “الشرعي” لولا قطاع تربية أسماك الترويت من دون أي اعتبار لاستدامته سواء من أصحاب المنتزهات أو المسامك. 

الثروة السمكية في خطر

يتصدّر العاصي المركز الأوّل لإنتاج سمك الترويت في لبنان بكميّات تراوح ما بين 2500 إلى 3000 طنّاً في السنة. مع المسامك هناك نحو 150 منتزهاً تختلف أحجامها وبالتالي تأثيرها على النهر. عطاء لا يقابله منّة حيث يفعل مربو الأسماك وأصحاب المنتزهات والمطاعم والمقاهي ما بوسعهم لتحصيل الربح السريع دونما أي مقاربة تأخذ بعين الاعتبار استدامة هذه الثروة اليتيمة في لبنان بعد تلوّث كلّ أنهاره وموتها. 

كلام تؤكّده خلاصات فريق إيطالي جاء إلى العاصي قبل سنوات وأجرى دراسات حول نوعية المياه ونسبة الأوكسيجين فيها وحرارتها وجريان النهر ونظافته، وخلص إلى أنّه من أنسب الأنهار في العالم لتربية سمك الترويت حيث تبقى مياهه باردة حتى في عزّ الصيف. لكنّ الخبراء الإيطاليين حذّروا الجميع ومن بينهم بلديّتي الهرمل والشواغير المعنيّتين بالعاصي من أنّه “إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه، ولم يُحم النهر، لن تصمد هذه الثروة طويلاً”، كما تؤكّد اختصاصية التصنيع الغذائيّ، ابنة الهرمل التي عملت مع الفريق الأوروبي حينها، أماني ناصرالدين لـ”المفكرة”. 

يقول محمد علي العميري، أحد مربّي الأسماك على النهر، إنّه ليس هناك عاصِ واحد، بل ثلاثة. يمتدّ الأول من المنبع إلى جسر العاصي، وهو الأنظف برغم التعدّيات لكنّ انحداره من أعلى الوادي يسرّع جريانه، والثاني من الجسر لغاية منتزه الدردارة، وفيه التعدّيات الأساسية، حيث تقع معظم المسامك والمنتزهات. أما العاصي الثالث فيجري بين الدردارة إلى مزرعة العميرية على الحدود السورية. في الجزء الثالث تغيب المنتزهات (آخرها في الدردارة)، يخف جريان المياه وتكثر النباتات المائية على ضفتي النهر، لتساهم في تنقيته نسبياً، ولكنه يفقد لونه الأخضر إلى الأزرق ويصبح عكراً موحلاً.  

يسرح العميري بنظره في العاصي ثم يضيف “ع هالحالة بعتقد بعد عشر سنين ما منعود قادرين نربّي ترويت بالعاصي”. والعميري نفسه بدأ، إضافة إلى الترويت، بتربية أسماك الكارب في العميرية، وهي أسماك يصل وزنها إلى 5 و6 كيلوغرامات و”قوية” لا تحتاج إلى مياه بنظافة المياه التي تعيش بها سمكة الترويت المدللة، إذ لا تعيش الأخيرة (الترويت) إلا في المياه العذبة النظيفة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ سمكة الكارب هي الوحيدة التي تحمّلت تلوّث بحيرة القرعون القاتل ممّا يدلّ على قدرة تأقلم هذه السمكة مع الملوّثات في المياه الحلوة (حتى أيار الماضي حين نفق عشرات الأطنان من هذه السمكة في غضون أقلّ من أسبوع بعد انتشار مرض وبائي خطير، بحسب تقرير لمصلحة الليطاني).    

 

العاصي المستباح

صحيح أنّ عشيرة دندش اتخذت قراراً بحماية رأس العاصي من أحشاء الدواجن حفاظاً على سلامة مياه الشفة التي يتزوّدون بها في منازلهم، لكنّ بعض أفراد العشيرة ينضمّون إلى لائحة طويلة من المعتدين على النهر، وبخاصّة من خلال صبّ حرمه بالإسمنت لاستحداث مساحات لوضع طاولات لتقديم الطعام واستقبال الروّاد. 

تكفي نظرة واحدة إلى الصور الجوية لنهر العاصي قبل 30 سنة لمعرفة حجم التعدّيات عليه. تقول جنان مطر، إحدى بنات الهرمل التي هاجرت إلى أوروبا قبل 10 سنوات، إنّها لم تعرف النهر عندما عادت لزيارته: “حسّيت حالي بمنطقة تانية تماماً”. فالنهر الذي كان ينساب حرّاً من أسفل منطقة الشرقي في رأس العاصي مشكّلاً وادياً غضّاً وغنيّاً بالتنوّع البيولوجي ومن أجمل أودية الأنهار في لبنان لم يجد من يردّ عنه الاستثمار المتوحّش الذي غيّر مجراه وطوّعه. هنا حوّل صاحب مقهى جزءاً من النهر ليستحدث بقعة يابسة أو شبه جزيرة يضع عليها طاولاته، وهناك حفر صاحب مسمكة مجرى جديداً يجرّ عبره جزءاً من العاصي ليصبّ في أحواض مسمكته ويخرج منها إلى المجرى الأساسي، وهكذا دواليك تعدٍّ يستتبعه تعدٍّ آخر. وعليه صار النهر لمسافات كبيرة من مجراه مجموعة من السواقي التي تنقسم وتتباعد لتعود وتتلاقى وفق ما تقضي مصلحة مربّي الأسماك وأصحاب المرافق السياحية في غياب أيّ سلطة رقابية تسهر عليه. 

لا تقتصر التعدّيات على الإنشاءات وهي هائلة لدرجة لا يمكن لأي سلطة مهما بلغ إهمالها أن تقبل بها، حيث تمّ تغيير شكل العاصي وواديه بطريقة تشعر معها أنّه لا يوجد وزارة طاقة وموارد مائية ولا وزارة سياحة تدرج العاصي على لائحة المناطق السياحية وتسهر عليه في لبنان أو أنّهما، مع الوزارات المعنيّة الأخرى بحمايته كالزراعة والداخلية والصحّة والقضاء، لا يعرفون بوجود نهر اسمه العاصي على الخارطة اللبنانية. فلا يذكر أهل الهرمل أنّه حدث وتمّ تعزيل نهر العاصي، أو أوفدت أيّ وزارة مندوبيها للاطّلاع على وضعه والتعدّيات عليه، عدا عن قمعها. ومع الإنشاءات يعتدي معظم مربّي الأسماك على النهر عبر تغذية أسماكهم بأحشاء الدواجن وبكمّيات كبيرة تُلوّث مياه العاصي وتنشر البكتيريا والسالمونيّللا في حال كانت الدواجن مريضة فيها. وتحوّل النهر الذي كان أهل الهرمل والمقاهي وروّادها يشربون منه قبل 20 إلى 30 سنة إلى مياه تفوح منها روائح كريهة ويستشعر لامسها بزنخة مصارين الدجاج، إلى درجة امتنع معها أصحاب المقاهي والمنتزهات عن غسل خضارهم والمواد التي يستخدمونها في إعداد وجباتهم من مياهه، علماً أنّ النشاط الاقتصادي للمسامك لا يقتصر على موسم معيّن، إذ تستمرّ الأخيرة في تسويق الأسماك في كلّ لبنان وإلى سوريا حتى حين ينخفض نشاط مطاعم العاصي شتاء. ومع وجود نحو 150 مرفقاً سياحياً بين مقهى صغير ومطعم كبير وبعض الفنادق، يصبح السؤال عن مياه الصرف الصحي مشروعاً، برغم إصرار البعض أنّه يحفر حفراً صحّية لا نعرف مواصفاتها العازلة، فيما يسلّط البعض الآخر مجاريره إلى النهر مباشرة مع مياه غسل الأواني وتنظيف المنشآت وما تحمله من مواد تنظيف كيميائية. كل ما فعلته بلدية الهرمل و”تفخر به” هو بناء نحو 20 حفرة لتجميع مياه الصرف الصحّي في عشرين منتزهاً فوق جسر العاصي يتمّ تفريغها لدى امتلائها في مكبّ النفايات الذي استحدثته بلدية الهرمل في منطقة قريبة من العاصي وتحديداً قرب مستشفى الهرمل الحكومي (يشكو مرضى المستشفى وموظفوها من روائحه). ويشكّل المكب تعديّاً على العاصي وخطراً عليه إذ أنّ المياه الآسنة سواء الناتجة عن عصارة النفايات أو التي يتم تفريغها من بعض صهاريج مياه الصرف الصحي، غالباً ما تصل العاصي بعد تسرّبها في باطن الأرض، كما أنّ السيول التي تشهدها المنطقة من وقت إلى آخر تحمل إليه النفايات. وعندما نواجه بلدية الهرمل بهذه الحقائق، يردّ نائب رئيس البلدية عصام بليبل بالقول “لاقوا لي قطعة أرض لننقل عليها المكب”، وكأنّما ضاقت الهرمل ولم يعد هناك أمكنة إلّا قرب العاصي والمستشفى الحكومي فيها. 

ومع مكبّ نفايات الهرمل، ما زال مكبّ بلدات رأس بعلبك والجديدة والفاكهة ومعها بلدات أخرى من البقاع الشمالي يتركّز في مجرى السيل نحو نهر العاصي برغم صدور قرار بإقفاله. “ولكن مع بدء الأزمة الاقتصادية وكورونا، صارت الأولويات مختلفة ولم تقم القوى الأمنية بتنفيذ قرار محافظ بعلبك الهرمل بإقفاله”، وفق رئيس لجنة حماية العاصي في اتحاد بلديات الهرمل عباس الجوهري. ولا يستقبل مكب رأس بعلبك والفاكهة النفايات العضوية والصلبة فقط بل يتمّ فيه تفريغ الصهاريج التي تنقل الصرف الصحّي من الحفر الصحية لمنازل هذه البلدات حيث لا شبكات صرف صحّي فيها.  تبعاً لذلك، ليس مفاجئاً أن تكشف عيّنات المياه التي فحصتها ابنة الهرمل، الدكتورة المحاضرة في الجامعة اللبنانية والباحثة في الهيئة الوطنية للطاقة الذرّية سامية مخ حول السبب وراء وجود جرثومتي الإيكولي والكوليفورم في النبع الرئيسي لنهر العاصي وليس في المجرى فقط، وجود صرف صحّي في العاصي، وهو ما أعلنته في مؤتمر صحافي خاص بالعاصي بحضور بلديات ونواب المنطقة بتاريخ 19 تشرين الثاني 2018. ويمكن ذكر فارق بسيط حول تلوّث العاصي حيث يخفّ شتاء بسبب تقلّص نشاط المرافق السياحية وإقبال الروّاد على قصد منتزهاته مع أطعمته، بينما يبقى نشاط المسامك قائماً صيفاً شتاءً. 

البلدية: إن أردت أن تطاع فاطلب المستطاع

تراكمت كلّ تلك التعدّيات في الثلاثين عاماً الماضية. إلّا أنّ بلدية الهرمل المحسوبة على الثنائي الشيعي منذ الانتخابات البلدية في 1998 تطلب محاسبة أصحابها منذ 2016 وهو تاريخ إنشاء لجنة حماية العاصي بالتعاون بينها وبين اتّحاد بلديات قضاء الهرمل وبلدية الشواغير المعنيّة أيضاً بجزء كبير من النهر. 

يبدو رئيس لجنة حماية العاصي في اتّحاد بلديات الهرمل وبلديتها عباس الجوهري “متفهّماً” و”عطوفاً”  على أصحاب المسامك: “الله يساعد الناس، الدولار طاير والليرة بالأرض وفي مسامك كتير سكّرت لعدم قدرة مربي الأسماك على شراء العلف”. 

لا ينفي الجوهري حقيقة أنّ معظم مربي الأسماك اليوم يغذونها من أحشاء الدواجن “هناك فرق كبير بين سعر طنّ العلف البالغ 1600 إلى 1700 دولار وبين سعر طنّ الأحشاء”. ويستدرك الجوهري قائلاً “بس ممنوع التغذية بالمصارين، وهذا قرارنا”.

ويفيد أحد مربي الأسماك ممن يطعمون أحشاء الدواجن “المفكرة” أنّ سعر طنّ مصارين الدجاج اليوم يراوح بين مليون و200 ألف ليرة إلى مليون و500 ألف ليرة “حسب سعر صرف الدولار في السوق السوداء” ولذا يشترون بـ”البرميل” ويبلغ الطنّ نحو 10 براميل”. ويبرّر هذا المربّي اعتماده على مصارين الدجاج بالوضع الاقتصادي الكارثي في لبنان “عنّا أطفال وعيل بدنا نعيشهم، عم ننذلّ ع محطة البنزين لنلاقي تنكة وندفع سعرها مرة ونصف أغلى من بقية المناطق اللبنانية بسبب التهريب”. ويدعونا إلى زيارة ملاحم الهرمل التي تبيع لحوماً مدعومة “روحو شوفو كيف حاطين درك ع بوّابة الملحمة لأنّه الناس رح تقتل بعضها”. ولكن ألا يخشى من تلويث العاصي وبالتالي انعدام رزقه منه؟ يقول الرجل إنّ المرحلة اليوم صعبة “والذي ينفد بريشه ولا ينهار هو الناجي”، ولذا ليست أولويّته وغيره من معظم مربي الأسماك حماية نهر العاصي “الناس وأولادها أهم من النهر”، كما يرى. 

ويعود الجوهري إلى العام 2016 تاريخ تشكيل لجنة حماية العاصي: “عملنا شغل مهم وتغيّر وضع النهر وعدت أنا للسباحة فيه بعدما امتنعت عن ذلك في السابق”. ولكن عندما نسأله عمّن كان في البلدية قبل 2016 ومنذ 1998، يرد بالقول “أنا بحكي عن ولايتنا الجديدة في البلدية”. ولكن ماذا عن التعديات على النهر والتي غيّرت مجراه “شو منعمل؟ منهبّط مسامك العالم ومطاعمها ومقاهيها؟ إن أردت أن تطاع فاطلب المستطاع”. 

ويرى أنّ لجنة حماية العاصي تقوم بواجباتها “نحن منطلب من الجهات المسؤولة تحمّل مسؤوليّاتها في حماية العاصي ومنها مكتب حماية الثروة السمكية والحرجية التابع لوزارة الزراعة في الهرمل، ووزارات السياحة والطاقة والصحة والداخلية، والقضاء بشكل خاص، لماذا لا يقوم كل هؤلاء بواجبهم تجاه العاصي؟ نحن لسنا ضابطة عدلية”. ويدعونا الجوهري إلى مساءلة القوى الأمنية من مخفر وجيش لبناني ومخابرات الجيش: “هم يتمتّعون بالسلطة والقدرة، وبإمكان الجيش منع وصول الآليات المحمّلة بالمصارين إلى الهرمل، وكذلك مخفر الهرمل يمكنه مراقبة المسامك”. ويعود الجوهري للقول إنّ هؤلاء يقومون بواجبهم ولكن “لديهم أمور أهم اليوم، تبدأ من مشاكل العشائر حيث يقع قتلى بشكل دائم، إلى التظاهرات وقطع الطرقات إلى ارتفاع نسب السرقات والحوادث الأمنية”، وعليه صار العاصي وحمايته في “آخر سلم الأولويات”. 

وعندما نؤكّد له أنّ البلدية يمكنها تسطير مخالفات ضبط وفرض التراخيص على المسامك والمنتزهات في نطاقها، يجيب أنّ الأولويات منذ خريف 2019 ولغاية اليوم صارت في مكان آخر، “الناس عم تجوع بس تحكيها بحماية النهر بتعتبر إنّك عم تتعدّى على لقمة عيش أولادها”. 

يعترف رئيس بلدية الشواغير التي تقع على كتف العاصي حسين الحاج حسن أنّ العاصي في “أسوأ حالاته من حيث الاهتمام اليوم، هناك تعدّيات على حرم النهر ونحن نحاول إقناع أصحاب المسامك والمنتزهات بوضع آلية للتنظيم والترخيص ولكنهم يتلكأون ويتذرّعون بالأوضاع الاقتصادية لكي لا ينظّموا القطاع”. ويقع العدد الأكبر من المسامك والمنتزهات في نطاق بلدية الشواغير وتحديداً في المنطقة الواقعة بين جسر العاصي عند مدخل الهرمل إلى منطقة الدردارة “عنّا شي 35 منتزه في نطاق بلديتنا ونحو 47 مسمكة يراوح حجمها بين 500 إلى ألفي متر”. ويرى الحاج حسن أنّ تحوير مجرى النهر نحو المسامك “ضرورة لمربّي الأسماك حيث لا يمكن أن تعيش الترويت في المياه الراكدة وغير المتجدّدة”. ويقول إنّ البلدية غير قادرة على استيفاء الرسوم من المسامك والمرافق السياحية “الناس محتاجة وتمرّ بأزمة والمنطقة كلّها تعاني من قلّة الدخل”. وكابن الشواغير وقضى طفولته وشبابه ويعيش اليوم فيها وعلى النهر، يعترف رئيس بلدية الشواغير أنّ العاصي “الذي كنّا نعرفه ليس هو ذاته اليوم، كنّا نشرب منه حتى الحدود مع سوريا، وهذا كلّه انتهى حيث أنّ غالبية مربّي الأسماك يغذّونها من مصارين الدجاج، وطبعاً في ناس محافظة ع نوعية أسماكها ولديها زبائنها”. ويرفض الحاج حسن وصف العاصي بالملوَّث “هيدا نهر بطبيعته الجارية بغزارة بينظّف نفسه، يكفي أن نمنع عنه التلوث ليفعل ذلك تلقائياً”. وكيف ترفع عنه التلوث يا ريّس؟ نسأله. “نحن ننسّق مع أمن الدولة ووزارة الزراعة ونحاول منع استخدام مصارين الدجاج وهناك محاضر ضبط بحق المسامك المخالفة، وسبق أن صدرت قرارات قضائية بإقفال مسمكتين (تمّ فتحهما بعد 18 ساعة والإفراج عن صاحب إحداهما بعدما تم توقيفه، وقد تابعت “المفكرة” هذه القضية في عدد من المقالات).

ويعود الحاج حسن إلى التفاخر بأنّه يفعل كل ما في وسعه لحماية العاصي كبلدية، وعندما نسأله كيف، يقول: “هناك لجنة حماية العاصي في اتّحاد بلديات الهرمل وفيها نوّاب ووزراء ومحافظ بعلبك الهرمل وما قدروا يوصلوا لما نطمح له، فكيف سأتمكّن أنا كرئيس بلدية مع العلم أنّه يوجد في البلدية شرطي واحد فقط، بس كلّنا منساعده”. وبعدما يشير إلى أنّه يفعل ما بوسعه من موقعه، يلفت إلى الكلام المتداول بأنّ بعض كبار مربّي الأسماك ممّن يغذونها من مصارين الدجاج “محميّون من قوى سياسية وهناك رشى تُدفع للجهات الأخرى المعنيّة بالنهر”. ويضيف بحسرة: “التعدّيات ليست وليدة سنة وتنيتين وعشرة بل عمر من إدارة الظهر عن العاصي، ولهذا النهر حقّ علينا ونحن لا نوفيه حقه ولا نبادله العطاء بالمثل“. 

يوافق رئيس لجنة حماية العاصي عباس الجوهري الحاج حسن بأنّ البعض دفع رشى لبعض الجهات المسؤولة ولكنه ينفي حماية المتعدّين على النهر من قبل الجهات السياسية “يعني حزب الله وحركة أمل؟ أكيد لا”. وعندما نسأله عمّن تدخّل لإطلاق سراح من تمّ توقيفه من مربّي الأسماك وإعادة فتح مسامكهم بسرعة كبيرة، يردّ “شوفو شو اندفع مصاري”، ولمن ذهب المال المدفوع؟، يقول “مش مسؤوليتي أنا حدّد بس الفساد ضارب كلّ المؤسّسات من دون استثناء”.

نهر العاصي اوقد شوهت أحواض المسامك مجراه وأكلته (تصوير كامل جابر)

فساد بلا محاسبة 

يقول أحد الناشطين في الهرمل (لم يرد ذكر اسمه كونه موظّف دولة) أنّ وضع العاصي يزداد سوءاً فيما تتفرّج كلّ الجهات المسؤولة بحجّة “الأوضاع الاقتصادية والأمنية”. يؤكّد أنّه رأى بأمّ عينه شاحنة محمّلة بأحشاء الدواجن تتّجه نحو نهر العاصي عابرة أحد الحواجز الأمنية ولم يتمّ إيقافها. وعندما سأل العسكري عن سبب السماح لها بالمرور قال له “هيدي عشان مزرعة الخنازير”، مع العلم أنّه لا يوجد مزرعة خنازير في المنطقة، يضيف ساخراً، ليستنتج “يعني ما معهم أمر يمنعوا المصارين بكل بساطة”. ويعود الناشط إلى التجربة التي خاضها رئيس مخفر الهرمل السابق علاّم رعد في 2018: “الرجل حاول يحمي العاصي وهو من خارج منطقته، فكان كلّ ما أوقف مربي أسماك مخالفاً، تتدخّل القوى السياسية للإفراج عنه، كما أنّ القضاء لم يساعده حيث يتمّ إعادة فتح أيّ مسمكة كانت تقفل بالشمع الأحمر بعد ساعات على إقفالها”. ويشير إلى أنّ رعد كان يضبط المخالفات بالجرم المشهود ويصوّرها بالفيديو مع تاريخ مخالفتها لتوثيقها ويرسل الفيديو إلى القضاء من دون جدوى. ووفق الناشط الشاهد حدث أن قال له أحد القضاة الذين كانوا يتابعون ملف مخالفة تربية الأسماك: “ما بقى تروح تداهم المسامك إذا ما أنا طلبت منك، مين عم يبعتك؟”

ويسخر الناشط من قول القيّمين على لجنة حماية العاصي إنّ المسؤولية تقع على مكتب حماية الثروة الحرجية والسمكية في وزارة الزراعة في الهرمل ليقول: “رأينا سيارة المكتب معطّلة منذ أكثر من عام وقيل إنّهم شحنوها إلى بعلبك لإصلاحها ولم تعد لغاية اليوم، فكيف سيُداهم هؤلاء، المسامك؟ طبعاً إذا سلّمنا جدلاً أنّهم يقومون بواجبهم كما يلزم، وهم ليسوا كذلك”. ويتوقّف عند قيمة ضبط المخالفة البالغ 100 إلى 500 ألف ليرة لبنانية “شو بدّو يأثر هيدا المبلغ بصاحب مسمكة، رح يضلّ ربحان من المصارين حتى لو أكل 5 مخالفات بالشهر”.

 ويُشير الناشط نفسه إلى أنّه كان هناك مشروعٌ لتنظيف العاصي بقيمة 200 ألف دولار: “ما شفنا منهم إلّا بعض اللافتات التي تشير إلى ضرورة الحفاظ على النهر”. كما يعود محدّثنا ليشير إلى الفساد الذي اعترى مشروع مد خط مياه نظيفة من رأس العاصي، عند المنبع، إلى المرافق السياحية لاستعمالها في الطهي وغسيل الخضار، “واقتصر الأمر على نربيش (أنبوب) أسود ضخم يطفو على سطح الماء، وكلّ الهرمل تعرف قصة النبريش الذي أسموه الحنش (والحنش هو نوع من الأفاعي السوداء الضخمة)”. والأسوأ أنّ البلدية، وفق الناشط، عادت ودفعت مبلغاً يوازي مدّ النربيش لسحبه بعدما ضجّت الهرمل بكلفته البالغة نحو 80 ألف دولار “ما حدا عم يحاسب وحده العاصي يدفع ثمن كل شيء”.  

 

الترويت نعمة لا نعرف قيمتها

يشير مستثمر مزرعة العميرية وأحد مربي الأسماك في وادي العاصي محمد علي العميري إلى أنّ معظم مربّي الأسماك اليوم يغذّون أسماك الترويت بأحشاء الدواجن (مصارين الدجاج). وعندما نسأله عن كلفة كيلوغرام السمك، حيث أنّ مربي الأسماك رفعوا سعر الكيلوغرام من 7 آلاف قبل انهيار الليرة إلى 24 و30 وحتى 35 ألف ليرة لسمكة الترويت السالمون الكبيرة، يقول “معك حق بيقدروا بهيدا السعر يطعموا علف”. وبعملية حسابية بسيطة يجريها العميري لكلفة التغذية بالعلف، نجد أنّه يمكن بيع الكيلوغرام بـ3 دولارات “وبيكون المزارع ربحان”. وهذا ما يحصل فعلياً على العاصي ولكن من دون أن تنسحب هذه الربحية تحسّناً في تغذية السمك بالعلف غير المضرّ وكذلك حماية العاصي. 

هذه الحقيقة يعترف بها أحد كبار مربي الأسماك على العاصي وشاح محفوظ: “طبعاً بهيدي الأسعار بيقدر مربّو الأسماك يوقّفوا استعمال مصارين الدواجن”. ولكن هل يفعلون؟ نسأله: “طبعاً مش كلّهم عم يطعموا مصارين، في البعض منهم بس”، يقول. وردّاً على قول البعض إنّ مسامك كثيرة أقفلتْ على العاصي، يؤكّد محفوظ أنّ سوق السمك اليوم في عزّه بسبب غلاء أسعار اللحوم الحمراء والدجاج وارتباطها بالدولار مع الأسماك البحرية المحلية والمستوردة “فصارت الناس عم تاكل سمك ترويت وهو أرخص من كل اللحوم”. ويشير إلى أنّ 90% من إنتاج السمك اليوم يُباع في لبنان و10% يذهب إلى سوريا، فيما كانت سوريا قبلاً تستهلك 60% من إنتاج سمك العاصي “لأنّه كانت الأزمة بعدها ما وقعت بلبنان وكان الناس بعد معها مصاري لتشتري لحوم خواريف وعجول ودحاج وسمك بحري”. ويقول محفوظ للدلالة على أهمية الثروة السمكية في الهرمل إنّ “كلّ مطاعم السوشي بتاخد الترويت السلمون من عنّا، ويؤمّن القطاع آلاف الوظائف وهناك كثيرون يشتغلون بالاتّجار بالسّمك إلى بقية المناطق اللبنانية”.    

 

الترويت وجحود المربين

يتوقّف محمد علي العميري عند أهمية سمكة الترويت “الثروة التي يجهل كثيرون أهميتها وميزتها”، مستنداً إلى الدراسات التي أجراها كونه ينتج ترويت سالمون مدخّن. فـ”دهون الترويت، وهي سمكة Mi-gras et Maigre بالفرنسية أي نصف دهنية وكلّ المستشفيات بفرنسا بتطعمي فيليه ترويت، وتبلغ نسبة الأوميغا 3 فيها  1.28 غرام بكل 100 غرام، يعني زيت السمك عالي بس ما فيها يود”.  والترويت هو صنف من 43 صنفاً معروفاً لسمكة السلمون، وتعيش في العاصي الترويت السالمونيه Salmonier من عائلة سمك السلمون المؤلفة من 45 صنفاً من أصناف الترويت “وهم من نفس العيلة”. ويقول العميري إنّ الترويت في كندا وفرنسا “أغلى من السلمون البحري لأنّهم يربّونه بكمّيات أقلّ من السلمون وفي المياه المكرّرة، ولذا لا يكبر فرخ الترويت كما يفعل في العاصي الطبيعي”. ويأسف العميري لأنّ هذه النعمة والثروة مهدّدة في استدامتها “عنّا كنز مش عارفين قيمته، وعم نقتله بإيدينا”.

 

 

نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، بيئة ومدينة ، سياسات عامة ، مؤسسات عامة ، أحزاب سياسية ، الحق في الصحة ، مجلة لبنان ، لبنان ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني