من هم المغاربيون إن لم يكونوا أفارقة؟


2023-11-02    |   

من هم المغاربيون إن لم يكونوا أفارقة؟
مسيرة ضد العنصرية في تونس، جويلية 2023 | تصوير احمد زروقي

تعريب: محمد معالي

في الضواحي الجديدة للعاصمة الجزائرية حيث يشيّد التجار وأصحاب الأعمال الأغنياء فيلاتهم الفخمة، يجلسون الواحد جنب الآخر، عندما تسمح لهم الشرطة بالعمل لكسب قوتهم. يحتسون قهوة على أرصفة الساحات التي تحوّلت إلى سوقٍ للتشغيل الموازي، في انتظار أرباب العمل المُيَاوِمِ الذين يأتون لاصطحابهم. جميعهم سود البشرة، أجانب، ويُطلق سكان الجزائر العاصمة على هذا المكان تسمية “سوق العبيد”. 

هم بذلك يستعيدون خيالا روائيّا وسينمائيّا لتشديد بؤس أوضاع العمال الأجانب ضحايا الاستغلال، بالإحالة  على شخصية كونتا كيتي بطل مسلسل “جذور” التلفزي الشهير حول العبودية في الولايات المتحدة، الذي هزّ الجزائر في ثمانينات القرن الماضي. هي سخرية تخفي على الأرجح توتّرا واضطرابًا. وحتى إن كانت تتيح تخفيف وقع المأساة بفعل المسافة التي تفصلنا عن تاريخ العبودية الذي يحيلنا إلى الغرب، فإنها تتيح كذلك إبراز أوجه الشبه والقرابة، باعتبار هذه المسألة ليست أمرا غريبا عنّا،  وعلامة على خطإ ما في الصورة التي نحملها عن أنفسنا نحن الجزائريين والجزائريّات، الذين نحيا على أرض قاومت تاريخيًا الاستعمار والعنصرية.

ففي الجزائر غنت ميريام ماكيبا سنة 1969، وباللغة العربية، أغنية “إفريقيا”. 

لم تكن العنصرية ضدّ السود موضوعا مطروحا للتفكير في الجزائر. ولم يكن ذلك واردا أصلا، إنها مسألة تابو، لكنها تنكشف عبر ما تلهج به الألسن ومن خلال لغة الأجساد، كما تفضحها الطريقة التي نستقبل بها المهاجرين الذين يأتون من الجنوب عبر الصحراء البعيدة مترامية الأطراف، من مالي والنيجر والكاميرون وحتى من نيجيريا. لقد أصبحت منطقة الساحل، على وجه الخصوص، “منطقة مركزية في إشكالية الهجرة غير النظامية إلى أوروبا”. وهو ما جعل أوروبا تكثف ضغوطها على بلدان المغرب للمساهمة في احتواء “الهجرة السرّية” عبر حدودها.

وإذا كنا لا نريد مطلقا تجاهل هذه الضغوط التي تمارسها القوى الغربية، فإن ذلك لا ينبغي أن يُعفينا من التساؤل عما جعلنا نلتزم الصمت إزاء فظاعة المحتوى العنصري الذي تعجّ به لغتنا.

مسيرة ضد العنصرية في تونس، جويلية 2023 | تصوير احمد زروقي

كحلوشة

في شوارعنا وفي حياتنا اليومية، نُسمّيهم استنادا إلى لون بشرتهم، “كحلوش وكحلوشة”، وهي أول كلمة عربية يتعلمونها ويحفظونها.

أسْوَد هو الاسم الذي يُطلق عليهم، وما يُميّزهم كأجانب هو لون بشرتهم، وما يقوم مقام الحدود بين الأجساد هو بشرتهم السوداء. وفي نهاية المطاف: هم ليسوا سوى سود.

تُضفي كلمة “كحلوش” من البداية “أحكاما عنصرية مسبقة” على العلاقة القادمة بين “أولاد البلاد” وهؤلاء الأجانب الذين يشاركوننا الانتماء إلى نفس القارة، وهم جيران لنا في التاريخ كما في الجغرافيا، فيما كنا نسمّيه بلاد السودان.

واليوم، إذ ننسى هذا التاريخ المشترك، نطلق عليهم في الجزائر وفي كل بلدان المغرب أيضا تسمية “الأفارقة”، مُعيدين بذلك إحياء التقسيم الاستعماري الذي يفصل “إفريقيا السوداء” عن “إفريقيا البيضاء”، بعد 60 سنة من التحرر الوطني والانعتاق من الاستعمار وعنصريته الهيكلية.

عن هذا التوق إلى “أن نغدو فجأة  بيضا” كتب فرانز فانون في “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء”، وتحديدا في فصل “الإنسان الملون والبيضاء”، أنّنا نسعى، من خلال حلم الارتباط بامرأة بيضاء، إلى جعل”الحضارة البيضاء والكرامة البيضاء حضارتنا وكرامتنا”[1].

هذا الاغتراب، أو هذه اللغة-الحدّ، هي التي تسمح بعنف العنصرية الاعتياديّة، الظاهرة للعيان في الجزائر، حتى وإن لم تعبّر عن نفسها في خطاب علني.

“هؤلاء الأفارقة الذين يجلبون لنا مرض السيدا”، هذا ما أوردته، من دون خجل، في شكل عنوان رئيسي، صحيفة تقدّم نفسها على أنها ديمقراطية ومعتدلة. وبينما كانت الشرطة تنشر بالتفصيل ما لديها من معطيات حول الإجرام “الإفريقي” من “إتجار بالمخدرات” و”شبكات بغاء” و”تزييف عملة” و”تزوير وثائق”، وتعمل على تحويل تسوّل الأطفال النيجيريين في أسواقنا إلى إتجار بالبشر،​​ دأبت وسائل الإعلام على نقل هذا الخطاب الأمني من دون أي تحرّ. إن أية جالية أجنبية أخرى مقيمة في الجزائر، من صحراويين وفلسطينيين وسوريين وصينيين، بغض النظر عن وضعها القانوني، لا تخضع لمثل هذا الانتظام في إحصاء جرائمها.

ولا ينفك الخطاب الأمني ​​المهيمن يُجرّم المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء ويمطرنا بمزاعمه أنهم يجلبون المرض والفوضى.

ويجب الإقرار بأنهم هم المستهدفون بقانون 25 جوان 2018 الذي ذهب إلى حدّّ تحويل المخالفة الإدارية إلى جريمة حيث ينصّ على أن الأجنبي الذي دخل الجزائر بشكل غير قانوني يتعرّض لخطر السجن لمدة تتراوح بين 6 أشهر وسنتين. ويمكن أن تصل العقوبة إلى 5 سنوات إذا لم يغادر البلاد بعد صدور أمر الطرد.

يتحوّل المهاجرون القادمون من جنوب الصحراء من ضحايا للجفاف والجوع والحروب الأهلية والصراعات العرقية وعنف الحركات الجهادية والأنظمة الاستبدادية وتجار المخدرات، ولكل هذا العنف المستشري في تلك المنطقة التي أصبحت تعرف فقط بتسمية منطقة الساحل، إلى مصدر خطر يُهدد سلامة “التراب الوطني” بمجرد استقرارهم في الجزائر. وكما كتب هوارد زين في كتابه الرائع التاريخ الشعبي للولايات المتحدة: إن “العنصرية هي أداة للنظام العام”.

النظام العام

وانطلاقا من هذه المنظومة التي تخدّّر الرأي العام المتساهل، لم يبقََ إلاّ دعوة وزارة الداخلية وكل الأجهزة الأمنية لتطويق مهاجري جنوب الصحراء ومراقبتهم. وإذا اعتبرتْ أنهم تجاوزوا الحدود المسموح لهم بالتحرك ضمنها، يُصبح من الممكن طردهم خارج الحدود الوطنية أو أيضا اعتقالهم وحجز ممتلكاتهم و”إعادتهم إلى الحدود” في إطار مداهمات عنيفة وفجائية، ومن دون تمكينهم من الحق الذي يضمنه لهم القانون في الدفاع عن أنفسهم، وحقهم في أن يكونوا حيث هم. إنّ كل شيء مُعدّ على نحو يجعلهم يخسرون المعركة أمام القضاء في أية حال. ولا يهمّ ما إذا كانوا قد دخلوا الجزائر بشكل قانوني أو غير قانوني، ولا يهمّ ما إذا كانت مكاتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مكان ما قد اعترفت بهم بصفتهم لاجئين سياسيين، بما أنه ليس لديهم عقد عمل ولا عقد كراء كما أنهم غير مسجلين في أيّ مكان.

ملامح وجوه مجرّدة، بلا تاريخ ولا وطن، ليس لها إلا التسلل داخل الضواحي قيد الإنشاء، والأحياء الشعبية، والحمامات. أما بالنسبة للأكثر فقرا وضعفًا فليس أمامهم سوى مقاعد الفضاءات العمومية وعشب الحدائق للإقامة والعيش على هامش المدينة، وخوض الصراع من أجل البقاء وهم لامرئيون.

إن بإمكاننا إنجاز جرد للحالات اللامرئية المؤسسية هذه.

ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن “البيانات… المتعلقة بالسكان الأجانب في بلدان المغرب هي من مهام وزارة الداخلية أي أنها مرتبطة بأمن البلدان. والمعلومات المتعلقة بهؤلاء السكان مخصصة للاستخدام الأمني ​​فقط ولا تُنشر عادة… أما البيانات المتعلقة بالمهاجرين غير النظاميين فهي غير موجودة بطبعها”.

هذا الحجب عن الأنظار هو الباب المؤدّي إلى طرد الناس الذين لا فائدة من وجودهم، باعتبارهم أشياء يُنقلون في إطار ما يسميه الجغرافي علي بن سعد “الازدواجية” التي “(…) تتعامل بها السلط المغاربية مع هجرة اليد العاملة المسموح بها، بل المطلوبة، ولكن من دون الاعتراف بها مطلقًا، مع إبقائها دائما في وضع هشاشة تُسهّل التراجع عنها عند الحاجة”.

هذا التراجع الذي تمتلك السيادة الوطنية القدرة المطلقة عليه من خلال تخويل نفسها ما تسمّيه باحتشام “الترحيل”، أي العودة إلى نقطة الصفر بإلقاء هؤلاء الأشخاص، بسيادتهم ومواطنتهم، في الصحراء الشاسعة لتموت معهم حيث يموتون.

كيف وصلنا إلى هذا الحدّ من دون أن تتحرك أحاسيسنا؟

كيف مررنا مما قاله فرانز فانون الذي كتب سنة 1960 في صحيفة “المجاهد” لسان جبهة التحرير الوطني خلال حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي “… إنّ استعادة السيادة الوطنية الجزائرية لن تكون جزائرية فحسب، بل سوف تكون انتصارا لإفريقيا، (…) وخطوة نحو تحقيق إنسانية حرة وسعيدة”، إلى هذه السيادة الوطنية السالبة لإنسانية الإنسان؟

كيف أمكن لبلدان المغرب أن تُقحم أنفسها بعد الاستقلال فيما يسميه أشيل مبيمبي “مسارات الفرز العنصري الجديدة” التي من خلالها “يتعلق الأمر بفرز هذه المجموعات السكانية، وتصنيفها في الوقت ذاته على أنها “أنواع”، و”سلاسل” و”حالات” ضمن حساب معمم للمخاطر والصدفة والاحتمالات، بحيث يُمكن استباق المخاطر التي يمكن أن تنشأ عن تنقلاتها، وإن أمكن، تحييدها مسبقًا، باللجوء عامة إلى السجن والترحيل”؟

إن استعمال كلمة ترحيل خطير ويستدعي توضيحا، فلكي يُرحّل شخص يجب أن يكون مُقيما في مكان ما، وهذا ليس حال القادمين من جنوب الصحراء الذين يُنظر إليهم في بلدان المغرب على أنهم عابرون إلى أوروبا لا غير. يبدو أن الطبقات الحاكمة والسلط المغاربية ما زالت تعيش بعقلية التابع لأوروبا، فهي عاجزة عن التفكير فيما يحدث على ترابها الوطني. هذا ما نفهمه من خطاب الرئيس قيس سعيد الذي تبنّى إيديولوجية اليمين الفرنسي المتطرف عندما تحدث عن “تغيير التركيبة الديمغرافية” الذي يُهدّد الهوية التونسية العربية المسلمة، بإحلال الهوية الإفريقية محلها، ووصل بذلك إلى مستوى كاريكاتور رجل “أبيض” عنصري.

 وخاطب قيس سعيد ممثل الاتحاد الإفريقي الذي جاء ليعبر له عن انشغاله إزاء خطورة تصريحاته، قائلا: ”أنا لست عنصريا ولدي أصدقاء وطلاب أفارقة”، وكأنه نسي، في غمرة اغترابه،  أنه رئيس دولة عضوة في الاتحاد الإفريقي، أي أنه هو نفسه إفريقي.

لعل الشيء الوحيد الذي يُحسب لما صرّح به قيس سعيد هو كسر التابو الذي يحيط بهذه العنصرية ضدّ السود. هذه العنصرية الزاحفة التي أعطاها دفعا كبيرا صوت أعلى ممثل لدولة إفريقية مستقلة وهذا ما سوف يؤدي إلى نتائج مأساوية.

كان يجب أن يكون لهذا الخطاب  وقع مزلزل يُسائل وعينا التاريخي المغاربي والإفريقي، كي نتساءل عمّا إذا كان هذا الرجل يمثل ماضينا، أو رواسب الاستعماري الجديد، أو ما إذا كان يخبرنا بمستقبلنا في مرحلة ما بعد الاستقلال، وما بعد العنصرية في تقسيم العالم الذي يجري أمام أنظارنا، ويدعونا إلى نسيان انتمائنا الإفريقي واشتراكنا في آلام تجارب الاستعمار والمنفى والهجرة؟

نشر هذا المقال ضمن الملف الخاص في العدد 27 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

للاطلاع على العدد كاملا، إضغطوا هنا


[1] فرانز فانون، بشرة سوداء أقنعة بيضاء، تعريب خليل أحمد خليل، دار الفارابي، 2004، ص. 69.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني