ملاحظات حول قضية المركز التربوي (1): حين اقترنتْ إدانة “التّكليف” بتكريسه


2022-03-18    |   

ملاحظات حول قضية المركز التربوي (1): حين اقترنتْ إدانة “التّكليف” بتكريسه

أصدر مجلس شورى الدولة قراره في قضيّة المركز التربوي في تاريخ 12 آذار 2022. وقد صدر القرار في الطّعن الذي قدّمته السيدة ندى عويجان ضدّ قرارات وزير التربية السابق طارق مجذوب بإلغاء تكليفها برئاسة المركز التربوي للبحوث، وبتكليف شخص آخر (جورج نهرا) تولّي هذه المهمة. ويذكر أنّ هذه القضية تفاعلت إعلاميا بعدما تناول مجذوب حجم الفساد الذي اكتشفه داخل وزارته في برنامج “يسقط حكم الفاسد” بتاريخ 25 أيلول 2020. وقد أعلن آنذاك أنه تعرّض لتهديد من وزير سابق على خلفيّة إجراءات اتّخذها ضمن وزارته (وفهم أنّ المقصود هو بو صعب على خلفيّة عزل إبنة خاله عويجان). وقد انتهت الهيئة الحاكمة (وهي مكوّنة من رئيسها يوسف نصر والمستشارتيْن فيها ميشيل مزهر منصور ورانيا أبو الزين) إلى إبطال القرارات الصّادرة عن مجذوب بعدما اعتبرَتْ أنّه تجاوز حدّ السلطة بل “انحرف” في استخدامها. وإذ تميّز هذا القرار في تأكيد المؤكّد وهو أنّ “التكليف” الذي توسّعت الإدارات العامة في ممارسته في ملء وظائفها من دون المرور بآليات التعيين العادية، إنما يشكّل ممارسة غير شرعية على ضوء القوانين المعمول بها، فإنّه انتهى إلى تطبيق هذه القاعدة بصورة انتقائية. فلئن أبطل المجلس تكليف نهرا في رئاسة المركز بحجّة أن تكليفه من قبل الوزير مجذوب غير شرعي، فإنّه انتهى بالمقابل إلى إعادة إحياء تكليف عويجان من قبل الوزير بو صعب بالطريقة نفسها في القيام بنفس المهمّة.

وقبل المضيّ في تبيان ذلك، تجدر الإشارة إلى بُعدٍ آخر لهذه القضية فرضه الوزير/ القاضي مجذوب حين تناول في معرض حديثه عن الفساد داخل وزارة التربية تقاضي قضاة مجلس شورى الدولة مبالغ طائلة منها على خلفيّة قيامهم بمهامّ استشاريّة في الإدارات العامّة. وقد انعكس هذا البعد بوضوح في البيان غير المسبوق الذي أصدره مكتب المجلس والذي استهجن فيه ضمنًا ما صدر عن مجذوب من اتّهامات بحق قضاة المجلس، محذّرا إيّاه من مغبّة الخروج عن موجب التحفظ الذي يبقى ملزما به حتى ولو كان وزيرا. وقد اعتبرتْ “المفكّرة” آنذاك في تعليقها على هذا البيان أنّ حديث مجذوب عن الأموال التي يجنيها عددٌ من القضاة الإداريين من الإدارات العامة هو بالنسبة لمجلس الشورى بمثابة “فتح لعلبة باندورا”، لما يفضحه من تضارب للمصالح وانتهاك لمبدأ الفصل بين السلطات. وقد بدا هذا البُعد واضحا ليس فقط في حدّة النبرة غير الاعتياديّة التي تضمّنها القرار بحق الوزير مجذوب وإنما أيضا في ارتباط رئيس الهيئة الحاكمة (يوسف نصر) بتكليفات عدّة في عدد من الإدارات العامة ومن بينها وزارة التربية، فضلا عن اشتراكه بصفته رئيسا للغرفة في إصدار البيان بحقّ مجذوب. وهذا ما سنخصّص له الجزء الثّاني من هذا المقال.

حين اقترنتْ إدانة التكليف بتكريسه

كما سبق بيانه، قبلتْ الهيئة الحاكمة دعوى عويجان بإبطال تعيين بديل عنها في رئاسة المركز التربوي بالتّكليف على أساس أن التكليف غير قانوني. إلا أن تبنّيها لهذا الموقف أوقعَها في تناقض بيّن مع ذاتها، طالما أن تنفيذ قرارها إنما يؤدّي إلى إعادة عويجان التي كانت هي أيضا مكلّفة إلى هذا المركز. فكيف أمكن الهيئة الحاكمة أن تتجاوز هذه النتيجة؟ كيف أمكنها إعادة إحياء قرار عويجان في حين أنه مشوب بالعيوب نفسها التي توسّعتْ في تبيانها بما يتصل بتكليف نهرا؟ والأهمّ، لا تُقبل دعوى الإبطال لتجاوُز حدَّ السلطة أمام مجلس شورى الدولة إلا من أشخاص لهم مصلحة “مشروعة” (فضلا عن كونها شخصية ومباشرة) وفق ما نصّت عليه صراحة المادة 106 من قانون نظام مجلس شورى الدولة. فكيف أمكن الهيئة العامة قبول مصلحتها في الطعن بتعيين بديل عنها في رئاسة المركز في حين أن تعيينها في هذا المنصب هو بالأصل غير قانونيّ وأن مصلحتها بالدفاع عنه هي تاليا مصلحة غير مشروعة؟ هذا ما سنحاول الإسهاب في تبيانه أدناه.

بخلاف كلّ الناس، بإمكان عويجان الادعاء حتى ولو كانت مصلحتها غير مشروعة

رغم وضوح نظام مجلس شورى الدولة لجهة اشتراط أن تكون المصلحة مشروعة (مادة 106)، فإن الهيئة الحاكمة أباحتْ لنفسها تجاوزه. لهذه الغاية، استعانت بقراراتٍ فرنسيّة بعدما حوّرت معناها المباشر، وتحديدا بقرار صدر عن مجلس الدولة الفرنسي بقبول طعن تقدّم به إمام مسجد باريس بمعزل عن أي قرار رسميّ  صريح بتعيينه في هذا المنصب. وهذه المقارنة خاطئة تماما طالما أنّ هنالك اختلافا كبيرا بين وضعيّة مشروعة وإن كانت نشأت من دون قرار رسمي (وهي حالة إمام مسجد باريس الذي قُبل طعنه) ووضعيّة واقعيّة غير مشروعة (وهي حالة عويجان). ففي الحالة الأولى، تكون المصلحة المشروعة متوفّرة وجديرةً بالحماية، في حين تنتفي هذه المصلحة تماما في الحالة الثانية وتكون حمايتها من قبل القضاء الذي انْوجد لضمان احترام القوانين، بمثابة اشتراك وتماهٍ في مخالفتها.

وما يزيد من عبثيّة الحكم في هذا الخصوص هو أنّه اعتبر أنّ اشتراط المصلحة المشروعة صحيحٌ فقط في حال الطعن بالقرارات التنظيميّة أي القرارات التي ترسي قواعد عامة، في حين أن القرارات المطعون فيها في هذه القضية قرارات ذات طابع فردي تتصل بأشخاص بعينهم. وهذا أمر مستغرب للغاية: فعدا عن أنّ المادة 106 التي اشترطتْ توفّر المصلحة المشروعة لم تميّز أبدا في هذا الخصوص وأنه لا يجوز للقضاء أن يميّز حيث لم يميّز القانون، فإنّ هذا التمييز يتنافى تماما مع المنطق القانوني الذي يفترض أن يكون أكثر تساهلا وانفتاحا في قبول الطعون في القرارات التنظيمية التي تطبّق على الجميع توخيا للمصلحة العامة وليس العكس. وبفعل هذه القراءة المخالفة لمادّة قانونيّة صريحة والتفسير الملتبس لقرار إداريّ فرنسي، أمكن الهيئة الحاكمة قبول صفة عويجان في تقديم هذا الطعن، رغم تسليمها بعدم مشروعية تكليفها لاحقا في القرار نفسه (وهذا ما سنعود إليه لاجقا).

وما يزيد من قابلية هذا القرار للنّقد هو أنّ مجلس شورى الدولة كان تشدّد من قبل في تعريف مفهوم “المصلحة” وتحديدا مفهوم “المصلحة المباشرة” وذلك في قراراتٍ عدّة انتهى فيها إلى ردّ الطّعون المقدّمة ضدّ مراسيم مشُوبة بعيوب جسيمة بداهة معللا ذلك بانتفاء هذه المصلحة وفق ما أسهبتْ “المفكرة” في تبيانه في أكثر من مقال. وقد أدّى ردّ هذه الطعون في بعض الأحيان إلى تحصين قرارات إداريّة بالغة الخطورة بالتخلي عن غير حقّ عن ملكيّة مساحات كبيرة من الأملاك العامّة تبلغ قيمتها مئات ملايين الدولارات الأميركية، كما حصل مثلا في قضية المنطقة العاشرة أو في قضية مكبّ صيدا (قرار 1/7/2021 وهو غير منشور) أو أيضا بالسماح بإشغال مساحات شاسعة من الأملاك العامة كما حصل مؤخرا في قضية الناعمة. ومن شأن مقارنة موقف المجلس في هذه القضية مع مواقفه السابقة أن يضيئ على خللٍ كبير في تصوّره لدوره والمصالح التي يفترض أنه مؤتمن على حمايتها. ففي حين يتشبّث غالبية قضاة المجلس في قراراتهم في قضايا الأملاك العامّة والبيئة بتضييق تعريف المصلحة وعمليا حقّ الادعاء من دون إيلاء أيّ اعتبار لما يترتب عن ذلك من أضرار جسيمة على الصالح العام، اندفعتْ الهيئة الحاكمة في هذه القضية لقبول مصلحة عويجان غير المشروعة وإن ترافق ذلك مع مخالفة نصّ قانوني صريح. فكأن قضاة هذه الهيئة يعلنون أنفسهم مُؤتمنين (ونقولها بكثير من الأسف) ليس على حماية الملك أو المال العامّ أو البيئة أو حقوق الأجيال الحاضرة واللاحقة أو بشكل أعمّ المساواة بين المواطنين والشرعية والصالح العام، إنّما قبل كل شيء على حماية مصالح غير مشروعة.        

الإضاءة على المخالفة في تعيين خلف عويجان مقابل التعتيم على نفس المخالفة في تعيينها

خصّصت الهيئة الحاكمة صفحات عدة لمناقشة مدى مشروعية تكليف جورج نهرا برئاسة المركز التربوي. وإذ ذكّرت بأن تولّي أشخاص مراكز في الوظيفة العامة لا يكون شرعيا إلا في حال حصوله وفق آلية التعيين المحدّدة قانونا أو بالوكالة أو الانتداب سندا للمادة 49 من قانون الموظفين العامّين، أعلنتْ أنّ التكليف “هو وضعية وظيفية غير شرعية ولا ينشأ عنها أيّ حق مكتسب للشخص المعين بموجبها” وفق اجتهاد راسخ لمجلس شورى الدولة. وقد أضافتْ الهيئة الحاكمة أسبابا أخرى قوامها أنّ تعيين رئيس المركز التربوي (وهو يعدّ من موظفي الفئة الأولى) إنما يتم بقرار يتخذ في مجلس الوزراء. وعليه، فإنّ حصول التكليف من قبل الوزير يشكّل تعدّيا على صلاحيات هذا المجلس ومخالفة دستورية علاوة على كونه مخالفا لقانون الموظفين العامين.

وفي حين أنّ هذا التحليل صحيح من حيث المبدأ طالما أنّه ينسجم مع نيّة المشرّع في تحصين الموظف العام في منصبه تمكينا له من خدمة الصالح العام والحؤول دون وضعه في وضعية هشة تجعله أكثر عرضة للتدخّلات، فإنه يستدعي أربع ملاحظات هامة:

  • إنّ اعتماد آلية التكليف لملء المراكز الشاغرة يكاد للأسف يصبح القاعدة المعمول بها في الإدارات العامّة، بما يعكس أحد أكبر عوامل الخلل فيها. وهذا ما تثبّتت منه الهيئة الحاكمة في متن قرارها لجهة أنّ “جميع وظائف رؤساء المكاتب والأخصائيين المساعدين هي وظائف شاغرة منذ سنوات طويلة ويتمّ تسيير أعمال المكتب والوحدات في المراكز بواسطة أشخاص من المتعاقدين أو من بين أفراد الهيئة التعليمية الملحقين بالتكليف”. ومن اللافت أنّ هذا القرار صدر في نفس الفترة التي كان وزير التربية الحالي عباس الحلبي يتهيّأ فيها لتعيين بديل عن المدير العامّ لوزارة التربية فادي يرق بالتكليف بعدما صدر مرسوم بوضع هذا الأخير خارج الملاك لمدة سنة،
  • أن التكليف حصل في فترة تعبئة عامة وفي ظروف استثنائيّة اقتضتْ إيجاد حلولٍ سريعة لتأمين الحدّ الأدنى من آليات التّعليم عن بُعد في ظلّ الإغلاق المتكرر للمدارس وقبل بدء العام الدراسي الجديد،
  • أن أول القرارات المطعون فيها تمّ تأريخه في يوم استقالة الحكومة، في حين أن القرارات الأربعة اللاحقة صدرتْ كلها في ظلّ حكومة تصريف الأعمال والتي امتنعتْ منذ استقالتها عن عقد أيّ اجتماع خلافا لواجباتها الدستورية بتأمين استمرارية الحكم حتى تشكيل حكومة جديدة. وقد جعل هذا الممشى الحكومة عاجزة عن اتّخاذ أيّ قرار في موازاة وضع الوزراء أمام صعوبات عملية في إدارة المرافق العامة المتصلة بوزارتهم،
  • أن كل ما أثارته الهيئة الحاكمة بشأن عدم مشروعية تكليف نهرا في رئاسة المركز التربوي ينطبق من باب أولى على عويجان المعينة بالطريقة نفسها، ولا سيما أن تكليفها في 2015 حصل في ظروف عاديّة وغير استثنائيّة وأتى مشوبا بتضارب مصالح واضح طالما أنه تم تكليفها من قبل وزير يمت إليها بصلة قرابة. وهذا ما عادتْ وسلّمتْ به الهيئة الحاكمة في حيثياتها الختامية من دون أن ترتّب عليه أي نتائج وفق ما نعود إليه لاحقا.

ورغم أهمية هذه الملاحظات، فإنّ مجلس شورى الدولة اكتفى بالتأكيد على عدم قانونية وعدم دستورية تكليف نهرا تمهيدا لإبطاله، من دون أن يتوقّف عند أيّ منها.

غلواء في إدانة مجذوب يقابلها تجاهل تامّ لمخالفات في تكليف عويجان وأدائها

مما تقدّم، يُفهم أنّ وضعيّة عويجان قبل إلغاء تكليفها، كانت وضعيّة غير شرعيّة لا يتولّد عنها أيّ حقّ مُكتسب لها. وعليه، وعلى فرض تجاوز إشكال غياب المصلحة المشروعة للطعن في قرار إلغاء تكليفها، يفترض أن يؤدّي أبسط تدقيق قانوني فيه إلى اعتبار هذا الإلغاء صحيحا، طالما أنّه يؤدّي إلى إعادة الانتظام العامّ لإدارة المركز التربوي والتعيينات فيه. أما وأن الهيئة الحاكمة أبطلتْ تكليف نهرا في رئاسة المركز لعدم قانونية “التكليف” في موازاة إعادة إحياء “تكليف” عويجان في المنصب نفسه، فإنها بذلك وقعتْ في ازدواجية المعايير بصورة فاقعة.

ومن هنا، يصبح السؤال: كيف نجحتْ الهيئة الحاكمة في تجنّب هذه المسألة بما سمح لها بالوصول إلى ما وصلت إليه؟ هنا أيضا يتبدّى أن الهيئة اعتمدت نهجا مثيرا للاهتمام هو أشبه بنهج محامٍ يسعى إلى الإضاءة على النقاط التي تخدم مصالح موكله منه إلى نهج قاضٍ يسعى إلى الإحاطة بالقضية من مختلف جوانبها وصولا إلى ضمان المصلحة العامة. وقد تمثل هذا النهج ببساطة في قلْب وجهة المسألة المطروحة عليها: فبدل التدقيق في واجب الإدارة العامة في إلغاء تكليف عويجان غير الشرعيّ ضمانا لحسن سير العمل في المركز التربوي، عمدتْ على العكس من ذلك إلى التّدقيق في تصرّفات الوزير مجذوب ونواياه وصُولا إلى إعلان أنها خطيرة جدا إلى درجة تستوجب إبطالها برمّتها. واللافت أنّ الهيئة الحاكمة أعلنتْ بوضوح عن توجّهها في هذا المنحى. فبعدما سلّمتْ بأنّ تكليف المستدعية مخالف للقانون طالما أنه تمّ على غرار تكليف نهرا، صرّحت حرفيا: “إلا أنه نظرا إلى المخالفات العديدة التي شابتْ عملية إلغاء تكليف المستدعية (عويجان)، بالأخصّ الانحراف في استعمال السلطة في إصدار القرارات المطعون فيها، لا يمكن الاكتفاء بإبطال هذه القرارات جزئيّا وبالتالي تصديق قرار الوزير بإلغاء تكليف المستدعية”. وبذلك، تكون الهيئة الحاكمة قد غطّت مسألة عدم شرعيّة تكليف عويجان ومعها صحّة عمليّة إلغاء تكليفها بالمخالفات التي اعتبرتْها شديدة الخطورة والتي شابتْ هذه العملية، من دون أن تولي أيّ اهتمام لمصلحة المركز التربوي أو ضمان حسن سيره. ولكن، ما هي هذه المخالفات التي عزتْها الهيئة الحاكمة للوزير مجذوب؟ والأهمّ، هل من شأن المخالفات المدّعى بها، أيّا تكن خطورتها أن تحجب المخالفة المرتكبة في تكليف عويجان؟

هنا، وبالتدقيق في القرار، يتّضح أنّ الهيئة الحاكمة أعابتْ على هذا الأخير ارتكابه ثلاث مخالفات:

الأولى، إنه لم يسجّل قراره الأول بإنهاء تكليف عويجان في السجّل الخاص لقرارات الوزير، بما يجعله وفقها بحكم غير الموجود. وقد أكّدت الهيئة الحاكمة هذا الأمر بعدما ادّعتْ عويجان أن مجذوب أرّخ هذا القرار بتاريخ آخر يوم قبل استقالة الحكومة في 10/8/2020. واللافت أن الهيئة الحاكمة خصّصت جهودا كبيرة وصفحات عدة للبحث في هذه المسألة التي لا صلة لها بالقضية المعروضة قط، طالما أن إنهاء تكليف غير قانوني (أو أي وضع غير قانوني) من قبل أيّ وزير يكون جائزا بل واجبا سواء حصل قبل استقالة الحكومة أو من بعدها، طالما أنه يدخل حكما ضمن مفهوم تصريف الأعمال. هذا مع العلم أن جلّ ما أثبتته الهيئة الحاكمة هو أن مجذوب تأخّر عن تسجيل عددٍ من قراراته في السجلّ الخاص لقرارات الوزير، في حين أن هذا القرار حمل منذ صدوره توقيع الوزير وختمه وتمّ إبلاغه فعليا للشخص المعني (عويجان)،

أما المخالفة الثانية المعزوة لمجذوب، فقوامُها أنّه التفّ على قرار وقف تنفيذ قراره الأول بإلغاء تكليف عويْجان بإصدار قرار ثانٍ أكّد عليه بعد يوم واحد من إبلاغه إيّاه. وقد كان هذا الأمر كافيا بالنسبة إليها لاعتبار القرار الثاني نابعا عن انحراف في ممارسة السلطة طالما أنّه يهدف إلى تعطيل الأحكام القضائية الملزمة للإدارة، من دون أن تولي أي اهتمام لمسعى الوزير إلى تصحيح العيوب التي عزتْها عويجان لقراره الأول (ومنها عدم تسجيله في السجل الخاص) أو توضيح مبررات اتخاذه، وهي أمور استقرّ مجلس شورى الدولة على أخذها بعين الاعتبار. وللدلالة على ذلك، يكفي التذكير بقضية الإيدن باي حيث عمدت الهيئة الحاكمة آنذاك ليس فقط إلى الأخذ بمسعى محافظ بيروت زياد شبيب لتصحيح رخصة البناء (وهو تصحيح بقي قاصرا عن إزالة المخالفات التي شابتها) بل أيضا إلى التراجع عن قرار وقف تنفيذ هذه الرخصة تبعا لهذا التصحيح. وعليه، تكون هنا أيضا الهيئة الحاكمة بالغتْ في تقييم أداء مجذوب أو تحديد مفاعيله. ففي حين كان لها أن تسارع إلى ضمّ القرارين للتلازم وفق ما فعلته واعتبار وقف تنفيذ القرار الثاني مشمولا حكما بوقف تنفيذ القرار الأول ضمانا لنفاذ القرارات القضائية، إلا أنها ذهبتْ أبعد من ذلك في اتجاه نقضه بالكامل بمعزل عن مضمونه. وعليه، وكما تجنّبت الخوض في مضمون قرار إلغاء التكليف الأول بعد اعتباره بحكم غير الموجود، تجنّبت الخوض في مضمون القرار الثاني بعدما اعتبرته انحرافا في ممارسة السلطة، 

وأخيرا، عزتْ الهيئة لمجذوب مخالفة ثالثة قوامها إنه ناقض نفسه حين اعتبر في متن أحد قراراته أنه ليس لعويجان وهي أستاذة في الجامعة اللبنانية أن تشغل منصب رئيس المركز التربوي طالما أن قانون الجامعة اللبنانية يسمح لأساتذة الهيئة التعليمية القيام بمهام استشارية وليس مهام تنفيذية، ليعود من ثمّ ليرشّح أستاذة في الجامعة اللبنانية في نفس وضعيّتها لإشغال هذا المنصب بدلا عنها. وقد ذهبتْ الهيئة الحاكمة هنا إلى حدّ اتهام مجذوب بسوء النيّة والانحراف عن السّلطة تبعا لتناقض مواقفه على هذا الوجه. والواقع أن التّناقض الذي ادّعته الهيئة الجاكمة إنّما يرشح عن تفسيرها الخاصّ لهذا القرار بعدما تغاضتْ تماما عن إدلاء مجذوب بالظروف الاستثنائية السّائدة آنذاك والتي تبرر من وجهة نظره اختلاف الشروط تبعا لاختلاف الظروف.

هذه هي المخالفات التي عزتْها الهيئة الحاكمة لمجذوب. وإذْ اعتبرتْ الهيئة هذه المخالفات على درجة عالية من الخطورة، فإن التّدقيق فيها يظهر على العكس من ذلك أن ثمّة مبالغة متعمّدة من قبلها في إبرازها وتضخيم خطورتها على نحو لامس الشيطنة، تمهيدا لتبرير النتيجة التي توصلت إليها وهو المبالغة في مفاعيلها وبشكل خاصّ تجنّب التسليم بصحّة إلغاء تكليف سلّمت هي قبل سواها أنّه غير قانونيّ. وقد بدتْ الهيئة من خلال ذلك وكأنّ اهتمامها بإدانة مجذوب أو إعادة عويجان إلى مركزها حجَب تمامًا لديها أيّ اهتمام بضمان إدارة حسنة معينة للمركز التربوي للبحوث الذي هو إحدى أكثر المؤسسات حيوية في مجال التربية الوطنية.

وما يعزز هذا الاعتقاد هو أنّ الهيئة الحاكمة اختارت في خضمّ غلوائها في الحديث عن مخالفات مجذوب أن تغمض عينيها تماما عن كلّ المخالفات التي عزاها مجذوب لعويجان ولتكليفها من قبل وزير سابق رغم صلة القرابة معها ومخاوفه من هدر الأموال المخصصة للمركز التربوي بموجب هبات أو قروض من منظمات دولية تصل قيمتها إلى قرابة مائة مليون د.أ، فضلا عن الشكاوى المقدمة منه ضدّها أمام كمّ من الهيئات القضائية والرقابية، وهي شكاوى ما برحت في غالبها تنتظر من يحقّق فيها.               

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، قرارات قضائية ، قرارات إدارية ، الحق في التعليم ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني