ملاحظات على هامش ملاحقة “رباح” أمام القضاء العسكري: الأوهام الدستورية في الإجماع اللبناني


2024-03-19    |   

ملاحظات على هامش ملاحقة “رباح” أمام القضاء العسكري: الأوهام الدستورية في الإجماع اللبناني

في تطور خطير استدعى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية فادي عقيقي الأستاذ الجامعي مكرم رباح من أجل التحقيق معه في دائرة الأمن العام بخصوص المواقف التي أطلقها حول ظروف العدوان الإسرائيلي على لبنان. وبغض النظر عن صوابية موقف رباح، تبين أن مفوض الحكومة وجّه خلال الاستجواب إلى هذا الأخير أسئلة حول مخالفة تصريحات رباح “للبيان الوزاري” و”الإجماع اللبناني”. وهو ما يفهم منه أن القاضي يعتبر أن مفاهيم مثل البيان الوزاري والإجماع تتمتع بقوة قانونية ملزمة لمؤسسات الدولة والمجتمع ما يوجب تفنيد هذا الادّعاء وتبيان مدى خطورته على حقوق المواطنين وحرياتهم العامة.

جاء الدستور اللبناني بعد تعديله سنة 1990 على ذكر البيان الوزاري في الفقرة الثانية من المادة 64 التي نصت على وجوب عرض الحكومة لبيانها الوزاري على مجلس النواب لنيل الثقة خلال شهر من تأليفها علمًا أن المادة 66 القديمة كانت أيضًا تشير إلى “بيان خطة الحكومة” الذي يجب عرضه على البرلمان بواسطة رئيس الوزراء أو وزير يقوم مقامه.

فالبيان الوزاري هو خطة أو مجموعة من الأهداف التي تتعهّد الحكومة بالعمل على تنفيذها انطلاقًا من صلاحياتها الدستورية أي أنّه وعد لا يمكن تحقيقه إلّا من خلال اتّباع الوسائل التي يتيحها الدستور. إذ أنّ بعض تلك الأهداف قد يستوجب تعديل الدستور مثلًا أو إقرار قوانين جديدة أو فقط اصدار مراسيم في مجلس الوزراء أو بكل بساطة إصدار الوزير المعني لقرار ما. فالبيان الوزاري يتضمّن “عرض السياسة الداخلية والخارجية التي تنوي الحكومة اتباعها وبرنامج الأعمال التي تلتزم بتنفيذها، وهو الفعل الأساسي الذي تنطلق منه عملية منح الثقة أو حجبها أو نزعها”[1].

وهكذا يتبين أن البيان الوزاري لا قوة قانونية له بذاته على الرغم من أهميته السياسية ما يعني أن المبادئ التي يكرّسها ليست ملزمةً لسائر مؤسسات الدولة الدستورية لا سيما السلطة القضائية كون هذه الأخيرة ملزمة بتطبيق القوانين فقط التي يخضع إقرارها وإصدارها لأصول خاصة نص عليها الدستور. وهي أصول لا تنطبق إطلاقًا على البيان الوزاري الذي لا يصدره رئيس الجمهورية ولا يتم نشره في الجريدة الرسمية ولا يمكن الطعن به أمام المجلس الدستوري ما يعني أنّه مجرد من أيّ قوة ملزمة ولا يدخل في البناء القانوني للدولة اللبنانية.

وما يفاقم من خطورة موقف مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية هو أن البيان الوزاري يعكس في الحقيقة التوازن بين أركان النظام الحاكم، أي أنّه عبارة عن توافقات سلطويّة يتمّ تكريسها عند تشكيل الحكومة كجزء من التفاوض السياسي المرافق لتوزيع الحقائب الوزارية على مختلف الأحزاب المسيطرة على مجلس النواب.

فهذه التوافقات لا تعكس حقيقة موقف تلك الأطراف بقدر ما هي تسويات مرحلية تتسم بالصياغة المبهمة من أجل إرضاء الجميع من دون حسم الإشكاليات المختلف عليها فعليا وذلك بانتظار التطورات المستقبلية التي قد تؤدّي إلى حلّها لصالح هذا الفريق أو ذاك. فالبيان الوزاري هو أبعد ما يكون عن الإجماع الحقيقي، هذا فضلا عن أن الإجماع غالبا ما يُخفي علاقات قوّة تتّخذ لبوس المواقف المجمع عليها من أجل منحها شرعية إضافية، لكن طبيعتها المبهمة تسمح لكل جهة بتفسيرها وفقا لأهوائها السياسية، ما يفقد هذا الإجماع المزعوم أي حقيقة له.

لا بل أن مجلس شورى الدولة الفرنسي[2] اعتبر أنّ إجابات الوزراء على أسئلة النواب لا تشكّل قرارات ملحقة للضرر يمكن الطعن بها كونها مجرّد مواقف سياسيّة غير ملزمة من الناحية القانونية على الرغم من أن الحكومة تتحمل مسؤوليتها سياسيا وقد تتعرض للمحاسبة أمام البرلمان بسببها. فالبيان الوزاري هو شبيه بأجوبة الحكومة إلى النواب، إذ هو عبارة عن مواقف سياسية لا يمكن لها بأيّ شكل من الأشكال أن تكون بحد ذاتها ملزمة ما لم تقترن بالوسيلة القانونية الصالحة الصادرة عن المرجع المختص لتحقيق هذا الإلزام. وهذا ما ذهبت إليه أيضا محكمة التمييز الفرنسية[3] التي أعلنت أن أجوبة الوزراء لا قوة قانونية لها فكم بالحري إذا كانت مخالفة للقوانين.

لكن موقف مفوض الحكومة لا يستند فقط إلى إجماع غير موجود لكنه أيضا ينطلق من مفهوم لا وجود له من الناحية القانونية. فالإجماع في النظام القانوني الوضعي اللبناني لا وجود له إذ أن القوانين يقرها مجلس النواب بالأغلبية العادية وكذلك القرارات العادية للحكومة التي تحتاج إلى غالبية الوزراء، ما يعني أن الإجماع لا يشكّل هدفا دستوريا ولا هو مطلوب أصلا كونه يؤدّي إلى شلّ عمل المؤسسات الدستورية وتعطيلها بالكامل.

وخطورة الإجماع لا تكمن فقط في هذا الجانب بل هي تنطلق في لبنان من فرضية مفادها أن هذا الإجماع هو بين الأحزاب الطائفية التي تحتكر التمثيل السياسي للطوائف. وهذا أيضا لا سند له كون الدستور اللبناني لا يعترف بوجود ممثلين للطوائف. وهذا ما أعلنه صراحة المجلس الدستوري في القرار رقم 2 تاريخ 8/6/2000 وفقا للتالي: “(…) إن المادة 27 من الدستور تنص على أن عضو مجلس النواب يمثل الامة جمعاء ولا يمثل طائفته او منطقته او حتى اولئك الذين انتخبوه، بدليل ان النائب لا ينتخب من أبناء طائفته ولكن من جميع الناخبين في الدائرة الانتخابية على اختلاف طوائفهم. وبما ان القانون الذي يسنّه مجلس النواب يتمّ إقرارُه منهم بوصفهم ممثلين للشعب اللبناني، وفقا للمادة 27 من الدستور وليس بوصفهم ممثلين للطوائف، وإلا لكان لكلّ مجموعة من النواب تنتمي إلى طائفة معيّنة حقّ الاعتراض على أيّ مشروع أو اقتراح قانون يتناول تنظيم أوضاع الطوائف أو حقوقها التي تنتمي إليها هذه المجموعة، والحؤول بالتالي دون إقراره، وهو الأمر الذي يتعارض وأحكام الدستور والمرتكزات الدستورية الأساسية التي يقوم عليها نظام المجتمع وكيان الوطن، والمنصوص عليها في مقدمة الدستور”.

فالإجماع الذي ينطلق منه مفوّض الحكومة لا وجود له من ناحية الشكل ومن ناحية المضمون. فمن ناحية الشكل لا وجود لجهات مخولة دستوريا تمثيل الطوائف اللبنانية سياسيا أو التعبير عنها كي يتحوّل توافقها إلى إجماع يمكن ملاحظته. ومن ناحية المضمون لا وجود لإجماع فعلي بل لتسويات سياسية ظرفية لا يمكن أن تكون ملزمة للسلطة القضائية أو أن تصبح مؤسسات الدولة مرتهنة لها.

وليس أدلّ على ذلك من وثيقة الوفاق الوطني التي تعرف باتفاق الطائف. فهذا الاتفاق على الرغم من أهميته السياسية الاستثنائية لا يتمتع بقود دستورية أو قانونية إذ هو عبارة عن اتفاق سياسي فقط لا غير ووحدها البنود التي أدرجت في الدستور اللبناني يمكن اعتبارها تتمتع بقوة قانونية عملا أيضا بصراحة موقف المجلس الدستوري في قراره رقم 1 تاريخ 31/1/2001 الذي اعتبر أن مخالفة وثيقة الوفاق الوطني لا تخضع لرقابة المجلس الدستوري “إلا في أحكامها المدرجة في مقدمة الدستور أو في متنه”. فإذا كان اتفاق الطائف مجرد اتفاق سياسي غير ملزم من الناحية القانونية فكم بالحري البيانات الوزارية المتبدلة والظرفية والإجماع اللبناني المتخيّل؟

لكن الأفدح هو أن مزاعم مفوض الحكومة تظهر بشكل جلي الكيفية الفعلية التي يعبر بها النظام السياسي الحاكم عن نظرته إلى الدولة. فقد دأب أركان النظام الحاكم على منح توافقهم السياسي قوة قانونية لا بل قوة دستورية، وأحيانا حتى أقوى من الدستور،عبر اختراع مفاهيم كالميثاقية والوفاق الوطني والإجماع ‘إلى ما هناك من مصطلحات سياسيّة تعبّر عن مصالح من يروج لها. فأحزاب السلطة باتت تعتبر وتتصرف على أساس أن إرادتها السياسية هي كفيلة بإنتاج القاعدة القانونية الملزمة إذ بمجرد انعقاد الإجماع بينها يصبح على كل مؤسسات الدولة والمجتمع وسائر المواطنين الخضوع لتلك الإرادة الاجماعية المتعالية كمصدر للمبادئ القانونية التي لا يمكن ردها. ومن هنا يمكن تفسير “الأعراف” التي فرضها النظام السياسي تحت مسميّات شتّى (طاولات حوار وتشاور، اتفاق الدوحة)  على مؤسسات الدولة مانحا إياها قوة دستورية متخيلة كضرورة تخصيص بعض الحقائب الوزارية والوظائف العامة إلى طوائف معينة، أو ضرورة توقيع جميع الوزراء على المراسيم عند خلو رئاسة الجمهورية، أو عدم جواز انعقاد مجلس النواب أو مجلس الوزراء في ظل غياب نواب أو وزراء “يمثلون” طائفة معينة.

فالقاضي عقيقي بمجرد استخدامه لمفهوم مثل الإجماع اللبناني يكون قد أقرّ بكلّ هذه الممارسات السياسية الاعتباطية المخالفة ليس فقط للدستور بل أيضا التي تشكل خطورة كبيرة على حقوق المواطنين وحرياتهم كونها تسمح باستبدال القاعدة القانونية بإجماع أركان النظام الحاكم. فهل على القضاء مثلا الخضوع لإجماع يخالف الدستور أو القوانين وينتقص من سيادة الدولة؟ هل يمكن له القبول بإجماع يحد من حرية الرأي والمعتقد أو إجماع يحد من الحريات الشخصية بحجة أن التوافق السلطوي بين من يدعي تمثيل الطوائف هو أسمى من دستور وقوانين الدولة اللبنانية؟ إن الجواب على هذه الأسئلة لا يمكن أن يكون إلا بالنفي وخلاف ذلك يعني انتهاء ما تبقى من نظام قانوني في لبنان واستبداله بالمشيئة العليا للأحزاب السياسية الحاكمة.


[1]  ادمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، ص. 789.

[2] « Les réponses faites par les ministres aux questions écrites des parlementaires ne constituent pas des décisions faisant grief susceptibles de faire l’objet d’un recours devant la juridiction administrative » (CE, 20 avril 1956, sieur Lucard). 

[3] “ALORS QUE les circulaires et réponses ministérielles – a fortiori lorsqu’elles sont contraires à la loi – sont dépourvues de toute valeur normative” (Cass. 1ère civ., 15 janv. 2020, n°18-22.503).

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، قرارات قضائية ، حرية التعبير ، لبنان ، مقالات ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني