بتاريخ 31 تموز 2019، وجه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون للمرة الأولى منذ توليه منصبه كتابا إلى مجلس النواب طلب فيه تفسير المادة 95 من الدستور، وتحديدا لجهة فئات الموظفين الذين يخضع تعيينهم لمبدأ المناصفة. فهل ينحصر تطبيق هذه القاعدة على الفئة الأولى من الموظفين كما يخرج من ظاهر هذه المادة، أم أنه ينسحب على مجمل الموظفين العامين؟ وقد جاء كتاب الرئيس عون على خلفية النقاش الحادّ الحاصل حول قانون الموازنة العامة لسنة 2019، وبخاصة المادة 80 منه. وكانت هذه المادة حفظت “حق الناجحين (لتولي وظائف من الفئتين الثالثة والرابعة) في المباريات والامتحانات التي أجراها مجلس الخدمة المدنية بناء على قرار مجلس الوزراء وأعلنت نتائجها بحسب الأصول في الإدارات المعنية”، خلافا للقانون المعمول به والذي يسقط حقوق هؤلاء في حال مرور سنتين من دون تعيينهم رسميا[1].
وكان النقاش السياسي احتدم سابقا ليس حول مبدئية حفظ حق هؤلاء بالتوظيف رغم انقضاء المدة القانونية على نجاحهم، إنما حول هويتهم الطائفية حيث وصلت نسبة المسلمين من بينهم إلى 426 مقابل 140 للمسيحيين. ومن هنا، وبعد التراشق الإعلامي بين عدد من النواب والقوى السياسية حول هذه المادة ومدى تطبيقها، أتى الرئيس عون ليطلب من مجلس النواب وضع اليد على المسألة بما يخرجها عن التخاطب العام.
وقد بدا إرسال هذا الكتاب مرتبطا سياسيا وقانونيا بتوقيع الرئيس على قانون الموازنة، بحيث كُلّف وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية سليم جريصاتي (وزير القصر على حد وصفه لذاته) تسليم كلا المستندين في الوقت نفسه لرئيس المجلس النيابي نبيه بري. وقد هدف هذا التزامن في تسليم الوثيقتين إلى الحؤول دون تفسير الأولى من دون الأخرى، فلا يفسر أحد توقيع الرئيس على الموازنة العامة بقبوله لتجاوز مبدأ المناصفة في تعيين أي من الموظفين العموميين، طالما أن كتابه المحرر في اليوم نفسه، يعبّر صراحة عن موقف مناقض تماما لهذا التفسير. وعليه، يكون توقيع الموازنة العامة حصل ليس لاقتناع منه بدستورية موادها، بل فقط من باب شعوره بالمسؤولية بعدم جواز تعطيل إصدار الموازنة بعد كل التأخر الذي شاب وضعها وإقرارها.
وبمراجعة مضمون الكتاب، يبدو أن الرئيس عون اعتبر مدى تطبيق المادة 95 غامضا، ليس على ضوء صياغة هذه المادة بالذات، بل على ضوء تناقضها مع الفقرة “ي” من مقدمة الدستور والتي تنص صراحة على الآتي: “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”. ومجرد تقديم الأمور على هذا النحو إنما يعني تسليم الرئيس بفرضية أن من شأن أي تجاوز للمناصفة في مجمل التعيينات الإدارية أن يعرض الوفاق الوطني للخطر، مما يستدعي النظر في وضعها على ضوء الفقرة “ي” ويفقد المادة 95 حصرية الحسم في هذه المسألة. لا بل أن الرئيس ذهب أبعد من ذلك في اتجاه الدعوة إلى حلّ الغموض بين المادتين من خلال تغليب أحكام الفقرة “ي” وإعمال المناصفة الشاملة، طالما أن الحفاظ “على ميثاقنا ووفاقنا الوطني وعيشنا المشترك وهي مرتكزات كيانية لوجود للبنان وتسمو على كل اعتبار”.
كما تجدر الإشارة إلى أن الرئيس لم يبرر طلبه فقط بالأسباب المبدئية التي تدفعه إلى التشكيك بمدى تطبيق المادة 95 من الدستور، إنما أيضا ضمّن كتابه إشارة إلى الظروف الخاصة بالمباريات والامتحانات المشمولة بالمادة 80 والتي تدفعه إلى التشكيك بنزاهتها، حيث تحدث عن الأخطاء التي اعترتها والمراجعات القضائيّة بشأنها. وفيما من المستغرب زجّ اعتبارات ظرفية في كتاب يتحدث عن مواد دستورية في مسألة أساسية كالمسألة الطائفية، إلا أن هذا الربط يجد ما يبرره في فلسفة حماية الأقليات، حيث غالبا ما تخشى الأقليات الدائمة أن تعمد الغالبية الدائمة إلى إستخدام نفوذها، ولو بطرق ملتوية، لزيادة حصتها في الوظائف العامة على حساب حصص الآخرين. من هذه الزاوية، تأتي الملاحظات الظرفية لتضيء على جانب آخر من المشكلة والذي هو انعدام الثقة والتشكيك الدائم بنتائج المباريات، بمعنى أن مراعاة الكوتا الطائفية لا تهدف فقط التمييز الإيجابي لصالح الأقليات إنما أيضا للحؤول دون انزلاق مشاعر التشكيك وانعدام الثقة إلى مستويات تهدد الوفاق الوطني برمته.
ورغم تعدد هذه الأسباب، فإن رئيس الجمهورية اكتفى بمطالبة النواب بتفسير المادة 95 ليس إلا، على أمل أن يسهم هذا التفسير “في الإضاءة الوافية (له) ولأيّ سلطة دستوريّة معنيّة بالمسائل المذكورة”، مع حفظ حقّه وواجبه الدستوريين باتخاذ التدبير الذي يراه متوافقاً والدستور في المسائل التي تضمنها كتابه.
وفيما أن تعيين تاريخ 17 تشرين الأول موعدا لجلسة عامة تتولى النظر في كتاب الرئيس عون يخالف المادة 145 من النظام الداخلي لمجلس النواب والتي تفرض دعوة المجلس للانعقاد خلال 3 أيام من تبلغها، فإن من شأن هذا التأخير أن يُولّد نتيجة إيجابية من خلال إتاحة المجال أمام إطلاق نقاش عام حول مضمونه.
وإسهاما في هذا النقاش، يهنا تقديم ثلاثة أفكار أساسية هي بمثابة ملاحظات اعتراضية على كتاب رئيس الجمهورية.
1- الاعتبار الأول للدولة:
كما بينا أعلاه، أورد كتاب رئيس الجمهورية أن الحفاظ “على ميثاقنا ووفاقنا الوطني وعيشنا المشترك وهي مرتكزات كيانية لوجود لبنان وتسمو على كل اعتبار”. وهذه الجملة التي يُراد منها تغليب عمومية الفقرة ي على وضوح المادة 95 تصطدم بروحية الدستور التي تعتبر على العكس من ذلك تماما أن الوفاق هو ضرورة لبناء الدولة التي تبقى هي الغاية والاعتبار الأول. بمعنى أن الوفاق لا يمكن أن يفهم أو يفسر بشكل يناقض الدولة أو يعيق قيام أي من ركائزها، بقدر ما لا يمكن التضحية بالغاية من أجل الوسيلة. وهذا ما نتبينه بوضوح بالرجوع إلى المادة 95 الأصلية (الدستور 1926) التي نصت صراحة أنه “بصورة مؤقتة والتماساً للعدل والوفاق، وعملا بالمادة 1 من صك الانتداب، تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة“.·فنصّ هذه المادة يعني بشكل واضح وجليّ أن اعتبارات الوفاق على أهميتها لا يمكن بحال من الأحوال أن تستخدم على نحو يضرّ بالدولة أو بمصالحها، الأمر الذي يضع حدودا واضحة لما قد تبرره بعض القوى السياسية أو تطلبه تحت تسمية “تمثيل الطوائف” أو “الوفاق”.
وعليه، يُفهم تمثيل الطوائف على أنه مجرد ضمانة مبررة بحدة الانقسام الطائفي وبخوف الطوائف الأقلية من هيمنة الطوائف الكبرى وأن ثمة هدفا وطنيا لإلغاء هذه الضمانة عند تجاوز الأسباب المبررة لوجودها. وفيما عادت دولة الاستقلال لتؤكد في سنة 1947 على مضمون المادة 95 لسنة 1926 بعد حذف العبارة المتصلة “بصك الانتداب”، فقد جاء الطائف ومن بعده التعديل الدستوري ليعدل نص المادة بأكمله بهدف تفصيل وتفسير العبارات العامة الواردة فيها، سواء لما يتصل بالتمثيل الطائفي أو بحدوده المتمثلة بمصلحة االدولة. فبعدما وضعت المادة الجديدة الآلية الوطنية الواجب اعتمادها لتجاوز “المؤقت” (إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية)، حددت القصد من عبارة (بصورة عادلة) وبخاصة بالنسبة للوظائف العامة، بحيث رأت أنها تعني “المناصفة” بعدما حصرت إعمالها بالمراكز الأكثر تأثيرا في عمل الدولة (وظائف الفئة الأولى وما يعادلها).
لكن الأهم من كل ذلك هو تضمين المادة ضمانات أساسية تفاديا لاستخدام المناصفة على نحو يضر بمصالح الدولة، بما يشكل تفسيرا هنا أيضا للعبارة الأخيرة الواردة في المادة 95 القديمة.
ومن هذه الضمانات، عدم تخصيص أية وظيفة لأية طائفة، وهذه قاعدة بالغة الأهمية تحول دون هيمنة أي طائفة (أو بالأحرى قوة سياسية طائفية) على وظيفة معينة، مع ما يتيحه هذا الأمر من استغلال لها وتحويلها إلى ما يشبه الإمارة على حساب الدولة.
الضمانة الثانية والتي لا تقل أهمية، هي التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة. وهذا الأمر يفرض أن تتم جميع التعيينات وفق معايير واضحة تتولى وضعها وتطبيقها مؤسسات موثوقة، احتراما لمبدأ المساواة في تولّي الوظائف العامة. ومن شأن هذه الضمانة أن تحول دون تغليب كفة الموالين والمحسوبين في المراكز الهامة، على نحو قد يفقد القضاء والإدارات العامة حياديتها ويجعلهما بمثابة امتداد للنفوذ السياسي مع ما يستتبع ذلك من إضرار بالدولة. وعليه، يظهر جليا أن المادة 95 الجديدة هي محاولة توضيحية وتفسيرية للمادة 95 القديمة، قوامها السعي إلى تكريس توازن دقيق بين طمأنة الأقليات وصون مصالح الدولة وحظوظها في التطور.
ويتأكد سمو مصالح الدولة على الاعتبارات الطائفية في مجالات أخرى نص عليها الدستور، منها مجال الأحوال الشخصية. فلئن منحت المادة 9 من الدستور الطوائف ضمانات بتنظيم أحوالها الشخصية وإقامة شعائرها الدينية، فإنها وضعت حدودا لهذه الطوائف ومعه للتشريع، قوامها احترام حرية المعتقد المطلقة وعدم الإخلال بالنظام العام.
وهذا ما يتأكد أيضا من الفقرة ح من مقدمة الدستور التي أعلنت أن تجاوز الطائفية السياسية هو هدف وطني، بحيث تؤكد هذه الفقرة أن الكوتا الطائفية هي مجرد وسيلة تستخدم في مرحلة معينة لتعزيز بناء الدولة والثقة المتبادلة، وعلى أمل تجاوز الحاجة إليها عند بلوغ درجة معينة من النضج الوطني.
انطلاقا من ذلك، نستشف المحاذير التي يتوجب أخذها بعين الاعتبار كلما أثيرت مسألة التمثيل الطائفي ضمانا لسمو الدولة ومصالحها، وهي محاذير تم تجاوزها أو إهمالها إلى درجة كبيرة على نحو أدى إلى انتشار ممارسات غير مشروعة وغير دستورية لزم كتاب الرئيس للأسف الصمت حيالها. وهي الآتية:
- تجنب أي ممارسة من شأنها تحويل التمثيل الطائفي في الإدارة العامة والقضاء والأمن إلى مرادف لتمثيل القوى السياسية المهيمنة في كل طائفة. كأن يعين الحزب الشيعي الأقوى (يدرج الآن تعبير الثنائي الشيعي الآن) المرشحين الشيعة والحزب السني الأقوى المرشحين السنة، وفق المعايير التي حددها كل منهم والتي غالبا ما تغلب اعتبارات الولاء على اعتبارات الكفاءة. وهذا ما شهدناه منذ بدء التسعينيات بدرجة كبيرة، من خلال استبدال التوظيف بالمباراة بالتعاقد وبدرجة أقل المباراة المحصورة بالمتعاقدين. وقد حصل آخرها في ظل التوظيفات العشوائية في 2017 و2018 عشية الانتخابات، بعدما أكد أكثر من مصدر اشتراك القوى السياسية كافة فيها، بهدف تعزيز قواعدها الانتخابية وفي الآن نفسه تعزيز مواقعها داخل الإدارات العامة وتاليا قدرتها على خدمة مزيد من “الزبائن”[2]. وقد أكدت لجنة المال والموازنة في تقريرها أن عدد الذين توظفوا قبل 21 آب 2017، من دون مراعاة القوانين والأنظمة المرعية بلغ 32009، فيما أن عدد الذين توظفوا بعد هذا التاريخ بشكل غير قانوني 5473.
ومن شأن هذه الممارسة أن تجعل الموظف العمومي أكثر ولاء للقوة التي عينته مما هو للدولة. وما يفاقم من هذا الأمر هو تولي القوى السياسية وفق القاعدة نفسها سلطة واسعة في ترقية الموظفين العامين وتعيينهم في المراكز الهامة المخصصة لهذه الطائفة أو تلك. وعدا عن أن هذه الممارسات تناقض تماما نص المادة 95، فهي تشكل بحد ذاتها مثالا واضحا على المنزلقات التي قد يقود إليها التمثيل الطائفي على نحو يؤدي إلى الإضرار بالدولة ومصالحها. ولنا في التشكيلات القضائية الصادرة في تشرين الأول 2017 دليل ساطع على خطورة هذا التوجه، حيث استخدمت المناصفة لتحويل التشكيلات إلى مجموعة من اللوائح الحزبية الحاكمة، تولى من خلالها كل حزب أساسي وضع القضاة الذين يثق بهم في المراكز المخصصة للطائفة التي يمثلها في الحكومة. وعليه، أصبحت النيابات العامة وقضاء التحقيق وبعض المحاكم بمثابة مراكز نفوذ لجهة معينة، بدل أن تكون ملاذ عدالة لكل مواطن. وفيما أبرزت وزارة العدل آنذاك أهمية المداورة لمنع نشوء إمارات قضائية، فإن تخصيص المراكز طائفيا منع في الواقع نشوء إمارات لقضاة بعينهم من دون أن يحول دون إنشاء إمارات تديرها المرجعية السياسية التي تتولى تعيين القضاة واستبدالهم في هذا المركز.
مؤدى هذه الممارسات، ليس فقط الإضرار بجودة أداء المرفق العام أو مساواة المواطنين أمامها أو أيضا المساواة في تولي الوظائف العامة (وكلها مضرة بمصالح الدولة) إنما قبل كل شيء تعزيز نفوذ القوى السياسية على حساب الدولة، وتاليا تعزيز اتجاهات الاستقطاب الطائفي والفئوي على اتجاهات بناء المساحة المشتركة المتمثلة بالدولة.
- تجنب أي تعيين في أي وظيفة عامة من خارج آليات المباراة والامتحان القادرة على اختيار الأكثر كفاءة وتخصصا. وهذا الأمر يفترض في الآن نفسه بذل الجهد لتعزيز الثقة بآليات المباريات والامتحانات، تبعا لتعزيز المؤسسات التي تتولى إجراءها. فبقدر ما تبنى هذه المؤسسات وتتطور ممارساتها وتقاليدها، بقدر ما تقوى الدولة وتتراجع الهواجس الطائفية إزاء هيمنة الغالبية وتتعزز الثقة بعدالة التعيينات من قبل المرشحين لهذه الوظيفة أو تلك. ويتعزز ذلك على ضوء تضمين كتاب الرئيس عون مجموعة من الهواجس إزاء نزاهة المباريات. فبمعزل عن مدى صحتها (والرئيس لا يجزم بذلك)، فإن مجرّد إثارتها يُظهر حجم المخاوف والشكوك على أعلى مستويات الدولة، في ظل تراجع الثقة بمؤسسات الدولة عموما. ومن هنا، فإن حماسة كتاب الرئيس عون للتمثيل الطائفي في موازاة استعادة الشكوك بنزاهة المباريات، من دون التشديد على أهمية معالجة الخلل المؤسساتي الذي قد يظهر من جراء ذلك، تبدو في هذا المحل وكأنها تغيب أهمية امتحان الكفاءة والأهم أهمية تشجيع أصحاب الكفاءة على المشاركة في هذا الامتحان مستقبلا.
وعليه، بمعزل عن شمولية التمثيل الطائفي أو عدمها، فإن الكتاب عكس رؤية مجتزأة لاشكاليات الوظيفة العامة، مختزلا إياها باشكالية التمثيل الطائفي، بمعزل عما يرشح عنه هذا التمثيل من محاذير ومنزلقات مضرة بالدولة. وللتذكير، كان رئيس الجمهورية ووزير القصر (الذي كان آنذاك وزيرا للعدل) اعتبرا التشكيلات القضائية 2017 إنجازا رغم ما تخللها من هيمنة للأحزاب على مراكز قضائية واستتباع للقضاة. كما لزم كتاب رئيس الجمهورية الصمت إزاء التوظيف العشوائي الحاصل في 2017-2018، وإن غيّب اعتبارات الكفاءة بشكل كامل. وفيما تبدو هذه المواقف منسجمة مع تغليب التمثيل الطائفي على أي اعتبار آخر، فإنها تقبل النقد وبشدة في ظل القراءة التي أجريناها للدستور والذي أولى على العكس من ذلك تماما الاعتبار الأول للدولة ومصالحها وأخضع أي تمثيل طائفي لما تفترضه هذه المصلحة.
2- الإدارة العامة والقضاء هي ضوابط لشرعية السلطة المنتخبة وليست امتدادا لها
الفرضية الثانية التي اعتمدها الكتاب والتي يجدر مناقشتها بجديّة مطلقة، مفادها أن أي تعيينات لا تعتمد المناصفة الشاملة في التوظيف العامّ تناقض ميثاق العيش المشترك، مما يجعلها غير شرعية سندا للفقرة “ي” من مقدمة الدستور والتي تنص أن “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”.
وللأسف، هنا أيضا يظهر الكتاب قراءة خاطئة تماما للدستور، حيث تتناول هذه المادة شرعيّة ومبادئ نظام الحكم، من دون أن يكون لها أي صلة من قريب أو بعيد بشرعيّة التعيينات في الإدارات العامة.
ولعل فهم هذه الفقرة الأكثر انسجاما مع مبادئ الديمقراطية، هو أنها تهدف لتصحيح بعض المبادئ الشكلية للديمقراطية الكلاسيكية وتحديدا “مبدأ حكم الغالبية”، نزولا عند تحديات الانقسام العامودي في لبنان. فلا يبرّر الحصول على “الغالبية” بحال من الأحوال الاستئثار بالسلطة أو اتخاذ القرارات العامة، إنما يتعين دوما إعطاء حيز هام للتشاركية والتوافقية في تكوين السلطة أو اتخاذ هذه القرارات. ومن هذه الزاوية، تأتي الإشارة إلى ميثاق العيش المشترك بمثابة تصحيح ضروريّ ل “مبدأ حكم الغالبية” الذي قد يؤدّي فيما لو طبق في لبنان كما في سائر المجتمعات المنقسمة، إلى نتائج غير ديمقراطية، أساسها قيام غالبيات وأقليات طائفية دائمة، مع ما يرافق ذلك من هيمنة وتهميش دائمين وتاليا تقويض لمبدأ المساواة في المواطنة[3].
وما ينطبق على شرعية الحكم أو السلطة السياسية، لا يصحّ أبدا في التعيينات في الإدارات العامة والقضاء، حيث لا ترتبط شرعية هذه التعيينات إطلاقا بمعايير “الأغلبية”، إنما هي ترتبط بشكل خاص بمعايير المساواة والكفاءة والتخصص والتي يفترض بالسلطة السياسية المكوّنة وفق ميثاق العيش المشترك أن تضمنها وترسخها صونا لمصالح الدولة وضمانا لحسن سير المرافق العامة ومساواة المواطنين أمامها. وهذا ما يؤكده بشكل كامل مبدأ حيادية الإدارة العامة واستقلالية القضاء والجامعة، وما يعكسه الدستور بوضوح في المادة 12 منه والتي تنص حرفيا على الآتي: “لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة، لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون”، وفي المادة 95 التي تعود لتؤكد بدورها على المبدأ نفسه وإن استثنت مرحليا ومؤقتا موظفي الفئة الأولى أي عمليا المناصب الإدارية الأعلى، وهو استثناء مدعو للإنحصار مرحليا، لا للتوسع.
وما يقطع الشك باليقين لجهة ارتباط الفقرة ي بنظام الحكم ومبادئه بمعزل عن التعيينات في الوظائف العامة، هو أن هذه الفقرة بما تستوجبه من تشاركية وتوافقية وضعت كإحدى ثوابت الدستور اللبناني حتى بعد تجاوز المرحلة المؤقتة وإلغاء الطائفية السياسية، فيما أن التمثيل الطائفي في بعض الوظائف العامة المستثناة هو مجرد تدبير مؤقت يأمل الدستور تجاوزه وفق خطة مرحلية كما سبق بيانه. فلو أن هذه الفقرة “ي” تشمل التمثيل الطائفي كما يشير كتاب رئيس الجمهورية، لوصلنا إلى نتيجة عبثية لا يحتمل الأخذ بها، قوامها أنها تعدّ هي الأخرى، تماما كميثاق العيش المشترك، من التدابير المؤقتة المدعوة للزوال.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مجموعة من أساتذة الجامعة اللبنانية كانوا أول من تصدى لهذا الخلط بين شرعية السلطة وشرعية الإدارة العامة، وذلك حين طعنوا في حزيران 2018 (مراجعة رقم 22936/2018)، بالتعميم رقم 3/2018 الصادر عن رئيس الجامعة اللبنانية فؤاد أيوب والذي طلب إعمال التوازن الطائفي في مجال التعيينات داخل الجامعة، سندا للفقرة ي من مقدمة الدستور. وما يزال هذا الطعن عالقا أمام مجلس شورى الدولة.
3- خطورة التشكيك بالنصوص الواضحة للدستور وبخاصة في ظل تنامي الخطاب الشعبوي
الأمر الأخير الذي يجدر مناقشته هو مدى ملاءمة تشكيك رئيس الجمهورية بنصوص دستورية ذات صياغة واضحة كالمادة 95 من الدستور في مسألة حساسة كمسألة التوازن بين الطوائف، وما يحيط بها من مشاعر عصبية. وما يزيد هذا التساؤل إلحاحا هو أن التفسير المذكور يتم ليس من قبل مرجع قضائي (كالمجلس الدستوري الذي جرد في 1991 من صلاحية تفسير الدستور) ولا من قبل مرجع جامعي علمي، إنما من قبل القوى السياسية الممثلة في المجلس النيابي والحريصة قبل كل شيء على الدفاع عن مصالحها الانتخابية. وما يفاقم من هذا الأمر هو توقيت حصول هذا النقاش السياسي في ظل أزمة اقتصادية، تتزايد فيها الخطابات والمزايدات العصبية والطائفية، مما سيمنحنا مشهدا سرياليا يتنطح فيه بعض النواب إلى نكران ما هو بديهي من نصوص دستورية في سعيهم إلى استرضاء عصبية الجماعة التي ينتمون إليها أو خوفا من اعتبار أي تسليم ببداهة النص ضعفا أو تنازلا عن حقوق الفئة التي يستمدون مشروعيتهم منها. وعدا عن أن من شأن هذا الأمر أن يجعل الرأي الغالب داخل كل طائفة الرأي الأكثر عصبية، على نحو يرجح أن يؤدي إلى التضحية بمصالح الدولة وبما بقي منها من ثقة للمواطنين فيها، فإن من شأنه بالأخص أن يؤدي إلى مزيد من الإضرار بمرجعية الدستور الذي يصبح بحكم المستباح عند هبوب أي ريح.
لهذه الأسباب كلها، نظن أن مسؤولية رئيس الجمهورية تتطلب منه اليوم قبل غدا توجيه كتاب جديد للمجلس النيابي يعيد تصحيح مضمون الكتاب السابق على نحو يعيد الاعتبار للدولة، الدولة قبل كل شيء. فلا شرعية لسلطة إذا ناقضت مصالح الدولة.
[1] . الفقرة 7 من المادة 8 من نظام الموظفين كما عدّلت بموجب القانون موجب 58 /1982
[2] ا يراجع عن تقرير التفتيش المركزي، هذا ما جاء في تقرير التفتيش المركزي وكيف توزعت التوظيفات في الوزارات والإدارات؟
وعن تقرير لجنة المال والموازنة، تقرير لجنة المال: 37 ألف موظف خلافاً للقانون!
[3] Phillipe Gérard, Droit et démocratie, Publications des facultés universitaires Saint-Louis, 1995, p.212.