معضلة الاستشارات النيابية في لبنان: شاهد آخر على تحويل المسؤوليات الدستورية إلى صلاحيات طائفية


2019-12-17    |   

معضلة الاستشارات النيابية في لبنان: شاهد آخر على تحويل المسؤوليات الدستورية إلى صلاحيات طائفية

تعتبر آلية الاستشارات النيابية الملزمة التي نص عليها الدستور عقب تعديلات اتفاق الطائف من المواضيع المبهمة التي يعاني منها النظام الدستوري اللبناني، والتي تعكس حالة الشلل الدائمة التي تتحكم بعمل المؤسسات، وعدم وجود حلول دستورية تسمح بحل الخلاف السياسي وفقا لاجراءات قانونية واضحة وشفافة.

عرف لبنان الاسشارات النيابية منذ السنين الأولى التي تلت إقرار الدستور اللبناني سنة 1926. وهي لم تكن مرتبطة بالتوزيع الطائفي للرئاسات كما بات الحال اليوم، بل كانت انعكاسا للتوازن السياسي الهش القائم في مجلس النواب وضعف رئاسة الجمهورية وحاجتها الدائمة الى تدخل المفوض السامي الفرنسي من أجل تأمين الأكثرية المطلوبة للحكومة. وقد انعكس هذا الأمر في العمر القصير للحكومات المتعاقبة لا سيما في عهد الرئيس شارل دباس، والمناكفات السياسية الدائمة بين النواب الذين سعوا لإسقاط الحكومات من أجل الحصول على حقيبة وزارية في الحكومة المقبلة.

وقد شكل موضوع عدد الوزراء الذين تتألف منهم الحكومة سببا للخلاف الدائم بين مجلسي الشيوخ والنواب قبل إلغاء مجلس الشيوخ في التعديلات الدستورية سنة 1927 التي هدفت لتقوية السلطة التنفيذية، حيث كانت المادة 28 كما تم تعديلها تنص صراحة "على أن عدد الوزراء الذين يؤخذون من المجلس يجب أن لا يكون لا أكثر ولا أقل من أكثرية عدد الوزراء المطلقة". وقد أوضح شبل دموس مقرر اللجنة النيابية التي درست مشروع التعديل الغاية من هذا النص قائلا: "في بلدان العالم الأخرى الوزراء تجد (الحكومة) من يؤيدها في البرلمان لأنها تؤخذ منه أما هنا فالسبب الذي دعا إلى التعديل هو أن الوزارة لم تجده كتلة تسندها والمجلس لم يجد وزارة يستند إليها. لأجل ذلك فكرت اللجنة أنها إذا أوجبت بأن أكثرية الوزارة تكون من النواب تكون الوزارة في مأمن من مقاومة المجلس لمشاريعها. لأجل ذلك نعتقد أن تجربة الحكم الذاتي لا تنجح ما دامت الحالة فوضى كما هي الآن. يجب أن تكون الأكثرية من المجلس كي يتفقا على خدمة الأمة. لم نقصد من ذلك منفعة شخصية فنحن لسنا خالدين". فالمادة 28 المعدلة فرضت تشكيل حكومات أكثريتها من النواب من أجل تأمين أكبر دعم ممكن داخل البرلمان.

وأقدم ذكر للاستشارات النيابية التي تمكنا من تحديدها بوضوح يعود لتاريخ 5 كانون الثاني 1928 عندما استقبل رئيس الجمهورية آنذاك شارل دباس رئيس مجلس النواب الشيخ محمد الجسر ومن ثم النواب فردا فردا من أجل التباحث في تشكيل الحكومة المقبلة. وعقب الاستشارات، تم تشكيل الحكومة برئاسة بشارة الخوري. وهكذا استمر الوضع في ظل الانتداب الفرنسي إذ كانت الاستشارات حاجة ضرورية في ظل سلطة تنفيذية ضعيفة ومجلس يهيمن عليه الوجهاء وتغيب عنه الأحزاب السياسية المنظمة.

تبدلت طبيعة الاستشارات بعد الاستقلال عندما تم تخصيص رئاسة مجلس الوزراء لشخصية من الطائفة السنية، إذ باتت الاستشارات وسيلة من أجل تأمين الشراكة الطائفية في السلطة التنفيذية والحد من صلاحيات رئيس الجمهورية الذي كانت المادة 53 القديمة من الدستور تمنحه حرية مطلقة بتسمية من يشاء كرئيس للحكومة.

لكن هذه الاستشارات لم تكن واجبا يفرضه الدستور بل مجرد تقليد تم اتباعه في لبنان نقلا عن الجمهورية الثالثة في فرنسا حيث كان رئيس الجمهورية يستشير رئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب وأحيانا نائب رئيس مجلس الشيوخ ونائب رئيس مجلس النواب قبل تكليف الشخص المعني بتشكيل الحكومة. وقد أثيرت طبيعة هذه الاستشارات سنة 1966 عندما انتقد رشيد كرامي طريقة تكليف عبدالله اليافي تشكيل الحكومة كونه من خارج مجلس النواب ولم تتم تسميته خلال الاستشارات. فما كان من صائب سلام إلا وأن أعلن أن الاستشارات ليست ملزمة إذ لو كانت كذلك لوجب "على فخامة رئيس الجمهورية إما أن يبعث بصندوق مغلق إلى هذه القاعة أو يضع صندوقاً مغلقاً في قصر الرئاسة فيأتي كل نائب ويضع ورقته فيها للتصويت لفلان أو لفلان. هذا ليس هو الشيء المقصود في النظام البرلماني الذي نمارسه. إن المقصود من الاستشارات النيابية أيها السادة، هو أن يكون لفخامة رئيس الجمهورية رأي صحيح يتقبله هذا المجلس ويؤيده. وبعد الاستشارات الأخيرة، وقد قيل أيضاً ما قيل هنا، بأن فخامة رئيس الجمهورية كان قد سمى له فلانا أو فلانا، كثيرون منكم أيها النواب الكرام ترك الأمر له وبين يديه، فأخذ كل الاعتبارات بنظره، وأخذ وضع المجلس والرأي العام، وأخذ مصلحة هذا البلد، فكلف الدكتور عبد الله اليافي، وأنا أعلم أنه في التصويت الذي سيجري هذا اليوم على الثقة بالحكومة سيؤيد رئيس الجمهورية فيما ذهب إليه" (محضر جلسة 28 نيسان 1966).

تحولت الطبيعة غير الملزمة للاستشارات إلى سبب للخلاف السياسي حول التوزيع الطائفي للصلاحيات لا سيما بعد قيام الرئيس سليمان فرنجية بتعيين أمين الحافظ رئيسا لمجلس الوزراء سنة 1973 من خارج الزعماء التقليديين. فقد ثارت تبعا لذلك حفيظة نواب الطائفة السنية الذين قرروا مقاطعة جلسة منح الحكومة الثقة ما دفع أمين الحافظ إلى تقديم استقالته. وبعد اندلاع الحرب الأهلية تم طرح إدخال تعديلات دستورية عديدة من بينها انتخاب رئيس مجلس الوزراء مباشرة من قبل مجلس النواب كما ورد في الوثيقة الدستورية التي أعلنها الرئيس فرنجية سنة 1976 أو كما تم التداول به في مؤتمري جنيف ولوزان بين 1983 و1984.

شكل انتخاب رئيس الحكومة سببا للخلاف السياسي ولم يتم التوافق عليه كون ذلك يؤدي إلى منحه شرعية مماثلة لرئيس الجمهورية المنتخب في مجلس النواب الذي يفقد تباعا أي دور له في تسمية رئيس مجلس الوزراء. وهكذا كان الحل الوسط هو جعل الاستشارات النيابية ملزمة ما يعني أن رئيس الجمهورية يحتفظ بدور ما خلال عملية التكليف لكنه لا يستطيع أن يرفض إرادة واضحة لغالبية النواب.

لكن النص الدستوري الذي كرس الاستشارات النيابية الملزمة جاء مقتضبا جدا إذ نصت الفقرة الثانية من المادة 53 على التالي: "يسمي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسمياً على نتائجه"·أي ان الدستور لم يفرض أي مهلة أو آلية تنظم كيفية إجراء هذه الاستشارات ولا حتى معرفة ما هي الغالبية المطلوبة لتكليف رئيس الحكومة. ففي حال لم تتمكن أية شخصية من الحصول على تأييد الغالبية المطلقة (65 نائبا) من النواب هل على رئيس الجمهورية تسمية من حصل على الغالبية النسبية فقط؟ هل عليه إعادة إجراء الاستشارات؟ هل يمكن له حينها أن يقرر بنفسه أيّ المرشحين يمتلك القدرة على تشكيل جكومة تتمكن من الحصول على الثقة؟ لاشيء في الدستور أو التجربة يعد 1990 يسمح بالاجابة على هذه الأسئلة.

مسألة أخرى شكلت محورا خلافيا له أبعاد طائفية تتعلق بحق النواب تفويض رئيس الجمهورية اختيار الشخص المناسب وقد طرحت لأول مرة سنة 1998 عندما فوضت مجموعة من النواب الرئيس اميل لحود تسمية من يشاء لرئاسة الحكومة ما أثار حفيظة الرئيس رفيق الحريري الذي وجد في ذلك خرقا للدستور ومسا بصلاحيات رئيس الحكومة.

من الناحية الدستورية الصرفة لا شيء يمنع النائب تفويض رئيس الجمهورية كون الاستشارات تحديدا ليست انتخابا وهي وجدت أصلا كي تمنح رئيس الجمهورية دورا ما في عملية التكليف. وفي حال لم يكن النائب راضيا على خيار رئيس الجمهورية يستطيع بكل بساطة رفض منح الحكومة الجديدة الثقة وإسقاطها أمام مجلس النواب أي أن قواعد النظام البرلماني تظل محترمة ولا تتعرض لأي نوع من أنواع الخرق. ولا يردّ على ذلك بأن المادة 45 تمنع على النواب التصويت وكالة، كون المادة تتعلق بالتصويت على القوانين خلال جلسة تشريعية (والتي هي صلاحية دستورية خاصة بشخص النائب) بينما الاستشارات تفرض بطبيعتها تبادل للآراء قد تفضي إلى اقتناع النائب بضرورة تفويض رئيس الجمهورية، أو حتى قد يقوم النائب بكل بساطة بتسمية الشخص الذي يريده رئيس الجمهورية ما يعني أن الغاية من التفويض تكون قد تحققت دون وجود تفويض شكلي.  

إن الجدل الدائر حول الاستشارات هو نتيجة تحول هذه الآلية من عملية تفرضها طبيعة النظام البرلماني إلى وسيلة لتحويل المسؤوليات الدستورية إلى صلاحيات طائفية في خدمة نظام الزعماء وهي مسألة لا علاقة لها بالمنطق الدستوري السليم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني