مسودة حكوميّة لتسوية أوضاع المصارف: حفظ الحدّ الأدنى من الودائع… ومن المسؤولية


2024-02-16    |   

مسودة حكوميّة لتسوية أوضاع المصارف: حفظ الحدّ الأدنى من الودائع… ومن المسؤولية
رسم رائد شرف

تسرّبت مؤخرا مسودة مشروع القانون المتعلّق بمعالجة أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها، وهي المسودة التي قد يعكف مجلس الوزراء على دراستها تمهيدا لإقرارها وإرسالها إلى المجلس النيابي. ويجمع المشروع المذكور ما بين إعادة التوازن إلى النظام المالي ومعالجة أوضاع المصارف، فيحدّد أولاً إطار كلّ من عمليّة إعادة الهيكلة وعمليّة التصفيّة، لينتقل إلى معالجة وضع مصرف لبنان، والودائع المصرفيّة، وأوضاع المصارف. وفي قراءة سريعة لأبرز بنود المشروع قبل المضي في التدقيق بتفاصيله، أمكن القول أنه ينبني على فكرة ضمان جزء من “الودائع” تصل بحدّها الأقصى 100 ألف دولار تسدد على 10 إلى 15 سنة، مقابل إعفاء المصارف والدولة ومصرف لبنان من أيّ مسؤولية بما يتجاوز الحدّ المحميّ. أما ما فاق ذلك فيسدّد بالليرة بقيمة 20% من سعر الصرف، أو بتحويل ودائع إلى أسهم في المصارف المعنية بمعادلة 5 دولارات لكل دولار واحد. 

ويسهب معدّو المشروع في الأسباب الموجبة في تبرير ضرورة التشريع وأهدافه، من دون تسليط الضوء مباشرة على الممارسات التي تسبّبت في الأزمة أو المسؤوليّات الناجمة عنها. ويرجّح أن يكون هذا المشروع قد وضع بدلا عن الاقتراحين المقدميّن من النائبين جورج بوشكيان وأحمد رستم (المقربين من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي) بشأن إعادة التوازن المالي (21/12/2022)، وبشأن معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها (10/10/2023). وكانت لجنة حماية حقوق المودعين في نقابة المحامين في بيروت قد أعدّت في مواجهة هذه الاقتراحات، اقتراح قانون يرمي إلى إصلاح وضع المصارف المتوقفة عن الدفع وإعادة تنظيم القطاع المصرفي، تقدّم به النائب فراس حمدان في تاريخ 13/2/2023 واقتراح قانون آخر لوضع ضوابط على السحوبات والتحويلات (الكابيتال كونترول) تقدم به النواب حليمة القعقور وإبراهيم منيمنة في تاريخ 10/2/2023.

وقد نشرتْ المفكرة القانونيّة مقارنةً موسّعة ما بين المقترحات السابقة، حيث تبيّن بوضوح أنها تختلف ليس فقط لجهة كيفية توزيع الخسائر وتحديداً مدى مسؤولية القطاع المصرفي في تحمّلها (مفهومالوديعة الجديرة بالحمايةمن أجل توزيع عادل للخسائر (2): من المسؤول عن تعثر المصارف؟)، ولكن أيضا مدى جدارة الودائع بالحماية (مفهومالوديعة الجديرة بالحمايةمن أجل توزيع عادل للخسائر)، على نحو يسمح باستبعاد الودائع غير المشروعة أصلا مقابل منح حماية أكبر للودائع المتصلة بأهداف اجتماعية.

ونقارب هذا المقال من نفس زاوية المشروع المتعلّق بمعالجة أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها، وذلك بالمقارنة مع المقترحات السابقة.

أوّلاً: تصنيف الودائع وفق مدى جدارتها بالحماية

استعاد المشروع التصنيفات المعتمدة في اقتراح إعادة التوازن المالي رستم/بوشكيان، لجهة تصنيف الودائع غير المشروعة، وهي الودائع التي لا تستفيد عمليا من أي حماية والودائع المشروعة التي تنحصر الحماية فيها. بالمقابل، وإذ استعاد تصنيف الودائع المؤهلة والودائع غير المؤهلة (وهي الودائع التي حُوّلت إلى عملات أجنبية بعد 17 تشرين الأول 2019 وفقاً لسعر صرف تعامل مصرف لبنان مع المصارف)، فإن الودائع غير المؤهّلة لم تعدْ مجرّدةً عن أيّ حماية بل فقط مستفيدةً من ثلث الحماية الممنوحة للودائع المؤهلة.

فيما عدا ذلك، منح المشروع جميع الودائع المشروعة والمؤهلة نفس الحماية من دون أي تمييز، مُستبعدا بذلك مجمل التصنيفات التي اعتمدها اقتراح نقابة المحامين في بيروت والتي هدفتْ إلى منح حماية أكبر للودائع المرتبطة بضمان حقوق اجتماعية كما إلى منح حماية أكبر لغير المحترفين بالنسبة إلى المحترفين، بالنظر إلى قلة معرفتهم في الشؤون المصرفية. كما يلحظ أن المشروع شمل في حمايته مجمل هذه الودائع بما فيها ودائع ذوي المكانة في إدارة المصارف، التي كانت هي تم استثتاءها تماما من أي حماية. 

وبصورة أكثر تفصيلا، تظهر التصنيفات الآتية:

ودائع مؤهلة وودائع غير مؤهلة

كما سبق بيانه، استعاد المشروع ما كان تفرّد به اقتراح النائبيْن بوشكيان ورستم باعتماد هذا التصنيف بين ودائع مؤهّلة وأخرى غير مؤهلة، وإن عاد وخفّف من نتائج إعلان الوديعة غير مؤهّلة، بحيث لم يُجرّدها من أيّ حماية وإنّما منحها حماية أقلّ قوامها ثلث الحماية الممنوحة للودائع المؤهلة. بمعنى أن الجزء المحمي منها يحدد ب 36 ألف د.أ فقط بدلا عن 100 ألف د.أ للودائع المصنفة مؤهّلة. وتُعدّ الودائع غير المؤهلة، بحسب المشروع والاقتراح، بأنها تلك التي حُوّلت إلى عملات أجنبية بعد 17 تشرين الأول 2019، وفقاً لسعر صرف تعامل مصرف لبنان مع المصارف.

ويقبل هذا التصنيف الانتقاد من جهتين: أولا، لأنه يعاقب فئة من المودعين عملت على تحويل ودائعها بالليرة إلى الدولار حفظا لقيمة ودائعهم في ظلّ بدء فقدان الليرة لقيمتها، في توجّه اعتيادي في حالات كهذه. وأنه على فرض أن عملية التحويل حصلت في وقت باتت فيه قيمة الليرة أقل بكثير من قيمتها وفق سعر الصرف الرسمي (1515 ليرة مقابل الدولار الواحد)، فلا يجوز اعتبار الوديعة بكاملها غير مؤهّلة إنّما فقط جزءاً منها وهو الذي يعادل الفارق بين قيمتها عند التحويل وقيمتها لو تمّ اعتماد سعر الصرف الحقيقي (السوق) عند إجرائه. وثانيا، لأنه يضع جميع هؤلاء ضمن نفس الفئة من دون أن يميّز بين المودعين بحسب سعر الصرف الذي أجروا العمليّة على أساسه.

ودائع مشروعة وودائع غير مشروعة

كما سبق بيانه، استعاد المشروع تصنيف الودائع على أساس مدى مشروعيتها. وعلى غرار اقتراح النائبين بوشكيان ورستم، استعاد المشروع مفهوم مشروعيّة الودائع من دون تعريفه، وإن تميّز عنه لجهة وضع آلية لتحديدها وبقي للمصارف الدور الأبرز في تفعيل هذه الآلية. 

وبالتفاصيل، أوجبَ المشروع كشرط للاستفادة من أحكام القانون، إثبات مشروعية الوديعة. وإذ افترض المشروع مشروعية الوديعة التي تقلّ قيمتها عن مبلغ معين، فإنه حدد هذا المبلغ ب 500 ألف د.أ بالنسبة إلى المودع غير الموظف العمومي و300 ألف د.أ بالنسبة إلى الموظف العمومي، علما أنه لم يعرّف هنا الموظف العمومي بخلاف القوانين المختلفة المتصلة بمكافحة الفساد.

أما بالنسبة إلى الإجراءات التي اعتمدها للتثبّت من مشروعية الودائع، فإنه فرض على الموظف العام التقدّم بإفادة صادرة عن الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد تثبت أصوليّة تصاريحهم، فيما فرض على المودع غير الموظف أن يتقدم بتصريح يضاف إلى تحديث نموذج “اعرف عميلك” KYC، يرفق به مستندات تثبت مشروعيّة ومصدر أمواله (علمًا أن المشروع حدّد المستندات المطلوبة لتثبيت المشروعيّة بالنسبة للأشخاص الطبيعيين المقيمين في لبنان وخارجه، وبالنسبة للأشخاص المعنويين والشركات والكيانات). فإذا تم ذلك، تتولى الوحدة المختصّة في المصرف المعني دراسة المستندات المبرزة أمامها، على أن تحيل إلى هيئة التحقيق الخاصّة الحالات التي لا تتطابق فيها المستندات مع معايير الامتثال الموضوعة من قبل لجنة الرقابة على المصارف. 

وإذ أمكن انتقاد رفع عتبة التأكّد من مشروعية الوديعة إلى 300 و500 ألف د.أ حسب الحالات، فإن النقد الأكبر يتّصل بائتمان المصارف على مهمة التثبت من أصوليّة المستندات والمطلوبات وبالتالي من مشروعيّة الوديعة، من دون تحديد الآليات التي ستتبعها. وهنا يطرح السؤال حول مصداقيّة هذه الوحدات في التحقّق من الودائع المودعة لديها سابقا، أي الاعتراف بإهمالها في التحقق من المصدر الفعلي للوديعة آنذاك، وذلك من دون تدخّل أيّ من هيئات الرقابة على المصارف.

وتأكيدا على هذه المخاوف، نذكّر أنّ غالبيّة المجلس النيابي كانت رفضتْ صراحة الأخذ بتوصيات صندوق النقد الدولي ورئيس الجمهورية لجهة وجوب منح هيئات الرقابة على المصارف إمكانية الاطّلاع على الحسابات المصرفيّة كافّة. وقد تجلّى ذلك في قانون رفع السرية المصرفية رقم 306 الصادر في 28/10/2022 الذي حصر صلاحيّة هيئات الرقابة بالحصول على معلومات عامّة من دون إمكانية الاطلاع عن معلومات تتعلّق بحساب أو عميل معين. 

هذا مع العلم أن المشروع لم ينصّ صراحة على مصير الودائع غير المشروعة، أو على شطبها من سجلّات المصرف المعني ومن قيمة وديعة المصرف لدى مصرف لبنان، إنما اكتفى بتحديد ضرورة إثبات المشروعيّة للاستفادة من أحكام القانون.

يلحظ أنّ اقتراح نقابة المحامين كان عرّف الوديعة غير المشروعة على أنها تلك المتأتيّة من أعمال محظورة بموجب القوانين والأنظمة وسيّما تلك التي تكوّنت جزئيّاً أو بكاملها من أموال غير مشروعة ناتجة عن ارتكاب أو محاولة ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادة الأولى من القانون رقم 44 تاريخ 24/11/2015 (تبييض الأموال). ولم يكتفِ الاقتراح في معالجة النقص في تعريف الوديعة غير المشروعة، إنما عمل أيضا على وضع آليات للتثبّت من وضعيّتها. فقد جاء فيه أنّ الجهاز المعنيّ في المصرف يتقدّم بتصريح يرفق به مستندات تثبت مشروعية ومصدر الودائع المشار إليها أعلاه خلال مهلة ثلاثة أشهر تحت طائلة الملاحقة والمساءلة، على أن تُحال هذه التصاريح إلى لجنة الرقابة على المصارف، التي بدورها تُبدي بالتعاون والتنسيق مع لجنة التحقيق الخاصة رأيها حول مشروعية الوديعة على أن يكون للمحكمة قرار البتّ النهائي. يفهم من ذلك أن الاقتراح يُجيز للهيئات المعنية تجاوز السرية المصرفية بخلاف ما نص عليه قانون رفع السرية المصرفية، وإن كان من الأفضل أن ينصّ صراحة على ذلك.

الفوائد الفائضة والفوائد التي ليست كذلك 

أخيرا، استعاد المشروع مفهوم الفائدة الفائضة التي يصار إلى شطبها وإن عدّل آلية احتسابها. ويستند هذا التوجّه إلى واقعة قوامها منح فوائد باهظة وغير مبرّرة، مما يفقدها مشروعيتها. فقد نصّ المشروع في المادة 51 منه على حسم فائض الفوائد المستحقّة التي تفوق 1% والتي تمّ دفعها منذ سنة 2015 من رصيد الودائع التي تفوق ال100 ألف دولار. وفي هذا المجال، نصّ المشروع صراحة على شطب مقابل المبالغ المحسومة ما يعادلها من حسابات المصرف في مصرف لبنان.

أما اقتراح نقابة المحامين، فقد تميز هنا أيضا بأنه وضع تعريفا واضحا للفوائد الفائضة، وهي مجمل الفوائد التي تجاوزت معدّل ليبور LIBOR، (هـو متوسط معدلات الفوائد خلال فترة معينة في أسواق لندن المصرفية، الذي يضيف إليها كل مصرف هامشاً يقــاس عـادة بالكسور) منذ تاريخ إيداعها المصرف، فضلا عن الفائدة المركّبة وذلك اعتباراً من شهر كانون الثاني سنة 2014.

ثانياً: توزيع المسؤوليات والخسائر

الأمر الثاني الذي نستشفه من المشروع هو أنه استعاد ما كان ورد في اقتراح رستم/أوشيكيان لجهة أمرين: أولا، اعتبار المصارف ومصرف لبنان والدولة مسؤولين بالتضامن ومناصفة عن تسديد الودائع المحمية من دون أي تراتبية فيما بينهم، بمعنى أن مسؤولية مصرف لبنان والدولة تكون ثابتة بمعزل عن وضعيّة المصرف ومدى قدرته أو عدمها على إيفاء الودائع المحمية. وثانيا، اعتبار مسؤولية كلا منهما محدودة بتسديد الودائع المحمية على نحو يؤدي عمليا إلى تحميل المودعين المسؤولية كاملة عن الخسارة فيما يتجاوز ذلك. وبالطبع، تنطبق هذه القواعد حصْرا على المصارف التي تخضع لإعادة الهيكلة ويمكنها متابعة أعمالها. أمّا المصارف الأخرى التي صدر قرار بتصفيتها أو شطبها، فيقع عبء تسديد ودائعها على الأطراف الأخرى كالدولة ومصرف لبنان.

وعليه، يختلف المشروع عن اقتراح لجنة نقابة المحامين من ثلاث زوايا:

أولا، أنه أبرأ المصارف من المسؤولية الشاملة تجاه المودعين، ليجعل المسؤولية في تسديد الودائع مشتركة بينها وبين الدولة/ مصرف لبنان، فيما أن اقتراح لجنة نقابة المحامين اعتبر مسؤولية الدولة/ مصرف لبنان  استلحاقية محض أي فقط في حال عجز المصرف عن تسديد الودائع وهي تترتب انطلاقا من المسؤوليات المتعددة التي تقع على عاتق الدولة.

ثانيا، أنه حصر مسؤولية الدولة في ضمان الودائع في المصارف اللبنانية، مبرئا إياها بالمقابل من مسؤولياتها في ضمان الودائع المخصصة لضمان حقوق اجتماعية واقتصادية، وذلك على خلاف اقتراح لجنة نقابة المحامين  الذي منح هذه الودائع حماية خاصة بالنسبة إلى سائر الودائع.

ثالثا، أنه حمّل المودعين كامل المسؤوليّة عمّا تجاوز قيمة الوديعة المحميّة، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار التمييز بين المُودعين المحترفين والمُودعين غير المحترفين، على نحو يتناقض مع مبادئ المسؤولية العامة.

خلاصة

تتعرض اليوم مسودة المشروع لهجوم من قبل جمعية المصارف وعدد من القوى السياسية الوازنة، على خلفية أنه يُعفي مصرف لبنان (وتاليا الدولة) من مسؤولية ردّ الودائع التي أودعت لديه. ولا يجد البعض حرجا في الحديث مجددا عن قدسية الودائع رغم ما تشهده من قص شعر مستمر منذ 2019 أو أيضا عن ضرورة بيع الدولة أصولها تحصيلا لقيمة الودائع غير المسددة. 

بالمقابل، يدافع عن هذا المشروع عدد آخر من الجهات على خلفية أنه أقل الشرور وأن أي تأخير في هيكلة المصارف وحسم مصير الودائع سيشكل حائلا دون تنشيط الاقتصاد ويؤدي إلى مزيد من القضم للودائع إلى حد تلاشيها تماما. ويرى عموما المدافعون عن المشروع أنه كان بالإمكان أن نأمل بتوزيع أفضل للخسائر لو كانت مؤسسات الدولة راغبة وقادرة على إعمال المحاسبة على المصارف كما على المسؤولين السياسيين، وهو أمر للأسف برهنت السنوات السابقة أنه غير متوفر.

يبقى أن هذه المسودة تبقى في مطلق الأحوال دون المستوى المأمول سواء لجهة ما تفترضه قواعد الحماية أو قواعد المسؤولية كما بينّا في هذا المقال.

للاطّلاع على المسودّة، إضغطوا هنا

انشر المقال



متوفر من خلال:

سياسات عامة ، مصارف ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني