مزيد من المُنازلات بين القضاء المدني والقضاء الواقف: قرار قضائي ثانٍ في مواجهة تمدد أذرع النيابة العامة


2024-04-17    |   

مزيد من المُنازلات بين القضاء المدني والقضاء الواقف: قرار قضائي ثانٍ في مواجهة تمدد أذرع النيابة العامة
رسم رائد شرف

أصدرت محكمة الاستئناف المدنيّة في النبطية في تاريخ 9/4/2024 قراراً يقضي بفضّ الأختام بالشمع الأحمر عن مؤسسة المستأنفة ومحلاتها والموضوعة بناء لاشارة النائب العام الاستئنافي في الجنوب. وقد خلصت المحكمة بالأكثرية إلى عدم صلاحية النيابة العامّة بفرض تدابير مماثلة. 

وفي عرض مقتضب لحيثيات القضيّة، تملك المستأنفة مؤسسة تجارية إضافة إلى عدد من المحلات استأجرتها تخزن المواد الغذائية فيها، ويعمل لديها عدد من الموظفين من ضمنهم إبن شقيقتها. ونتيجة خلاف مالي لا صلة له بالمؤسسة، تقدّم أحد الأفراد بشكوى جزائيّة ضدّ هذا الأخير (ابن شقيقة صاحبة المؤسسة) بجرم احتيال أمام النيابة العامّة في الجنوب. وتبعا للشكوى، أصدر النّائب العامّ رهيف رمضان قرارا بختم المؤسسة وبقيّة المخازن التابعة لها بالشمع الأحمر من دون توضيح أي علاقة للشكوى بالمؤسسة والأهم من دون أن يتسنّى لصاحبة المؤسسة إبداء رأيها في هذا الشأن. وعليه، تقدمت هذه الأخيرة بطلب أمر على عريضة أمام قاضي الأمور المستعجلة في النبطية لفك الأختام عن محلاتها مدلية بأن المحلات تحتوي على مواد قد تتعرض للتلف والفساد. وإذ ردّ القضاء المستعجل الطلب بحجة أنه يجدر أن يقدم أمامه بالطريقة النزاعية أي في إطار دعوى تقام ضد الحاجز وليس بطلب أمر على عريضة، عادت صاحبة المؤسسة وحصلت على قرار بفضّ الأختام من محكمة استئناف النبطية. 

صدر القرار المذكور بأكثرية أعضاء المحكمة، بعدما سجّل أحد أعضاء المحكمة مخالفة على هذا القرار. وقد عللت الأكثرية موقفها بأن صاحبة المؤسسة ليست خصماً في الشكوى الجزائية أي أنها طرف ثالث ولا يكون مبررا اختصام فريق لا يشكّل خصما لها، وأن قانون أصول المحاكمات المدنية يولي القضاء  المستعجل صلاحية واضحة باتخاذ جميع التدابير التي من شأنها حفظ الحقوق ومنع الضرر بمعزل عن أي مخاصمة. والأهمّ، أكّدت محكمة الاستئناف عدم صلاحية النيابة العامة كخصم في الدعوى العامّة باتخاذ تدابير بحق الخصوم هي من اختصاص قضاء الحكم وبخاصّة كون هذا التدبير مقيّدا لحريّة التصرف وبأن الجرم موضوع الشكوى الجزائية هو جنحة الاحتيال ولا يستوجب اتخاذ تدابير مستعجلة بإقفال المحلات لانتفاء العجلة القصوى وانتفاء الضرر الحالّ الذي لا يمكن رفعه إلّا باتخاذ التدبير المذكور, 

بالمقابل، انبنتْ المخالفة على عدم صلاحية قضاء العجلة للطعن أمامه في القرارات والتدابير التي تتّخذها النيابة العامّة الاستئنافية بمعرض التحقيقات التي تجريها، وعلى أن الأختام بالشمع الأحمر الموضوعة لا يصحّ وصفها بالتعدي الواضح على الحقوق أو الأوضاع المشرعة. 

وقبل التعليق على هذا القرار، يجدر التذكير بأن المفكرة كانت نشرت تعليقا على قرار مشابه صدر عن محكمة استئناف جبل لبنان في تاريخ 22/1/2024 في النزاع المتصل بشركات آل المرّ. ويلحظ أن محكمة الاستئناف تدخلت في تلك القضية أيضا من أجل إبطال القرارات الصادرة عن المحامي العام التمييزي غسان خوري والتي وصلت إلى حدّ تعيين حارس قضائي بناء على طلب الجهة الشاكية على الشركات المنازع على كيفية إدارتها. وقد سجلت محكمة الاستئناف آنذاك كما في هذه القضية أن النيابة العامّة التمييزية “ليست قاضيا يتخذ قرارات تفصل المنازعات أو حتى تمسّ بأساسها وتؤثّر على مجرياته وعلى مراكز الخصوم فيها وحقوقهم ومصالحهم، أيّ أنه لا يمكن لها أن تكون خصماً وحكماً في آن وصولاً إلى إصدارها القرار بفرض الحراسة القضائيّة على الشركات المساهمة موضوع المنازعة”، وأنه “وانطلاقا من ماهية وطبيعة وظيفة النيابة العامّة، بمختلف قضائها، وبصفتها خصماً للمدعى عليه، لا يسعها وبأبعد مدى، تمهيداً لتحريك الدعوى العامّة أو حتى حفظها، إلّا توسّل التحرّيات والاجراءات الأوليّة المحضّ تحقيقيّّة، دون أن تتعداه إلى اتخاذ القرارات التي تخرج بطبيعتها عن الإطار التحقيقي والتي يختص بإصدارها قضاء الحكم بعد استجلاء الوقائع والحقائق وإنجاز المحاكمات الوجاهية أصولاً لا سيما تلك التي يختص بها القضاء المدني”. وأن فرض تدابير احتياطية مؤقتة حفظاً للحقوق ومنعاً للضرر، هو أمر يدخل في صلاحية قاضي الأمور المستعجلة والقضاء المدني عموما وليس النيابة العامة. وقد رحّبت المفكرة آنذاك بقرار استئناف جبل لبنان مُحذّرة من مساعي النيابة العامة وبخاصة التمييزية في تمديد صلاحياتها في اتجاه الهيمنة ليس فقط على القضاء الجزائي وإنما على المجال القضائي برمته.

وعليه، تكمن أهميّة القرار الذي اتخذته محكمة استئناف النبطية (بعد محكمة استئناف جبل لبنان ) ليس فقط في الكشف عن توجّه متزايد وجدّ مقلق لدى النيابات العامة في تمديد أذرعها على حساب قضاء الحكم ولكن أيضا في تعزيز التوجّه الذي أرسته محكمة استئناف جبل لبنان في مواجهة هذا التمدد. وهذا ما سنحاول التوسّع في الإضاءة عليه وعلى أبعاده.  

شاهد آخر على تمدّد أذرع النيابة العامّة:

تمدّد وظيفي يرافقه تمدّد جغرافي  

يشكّل قرار استئناف النبطية دليلا جديدا على توجّه النيابة العامّة إلى توسيع صلاحياتها لتشمل وضع أختام على مؤسسات تجارية على خلفية نزاعات مالية ومن منطلق حماية حقوق الجهة الشاكية (وليس الحقّ العامّ). بمعنى أن النيابة العامة بدت في هذه القضية وكأنها تستولي على صلاحية عدد من المحاكم، مثل دائرة التنفيذ أو القضاء المستعجل، تماما كما فعلت النيابة العامة التمييزية في قضية آل المرّ حين لجأت إلى تعيين حارس قضائي على الشركات المنازع على كيفية إدارتها. ولهذا الاستيلاء مفاعيل خطيرة جدا تتجاوز مسألة توزيع الصلاحيات بين الهيئات القضائية المختلفة. فعدا عن أنه يؤدي إلى استبدال أصول التقاضي والاعتراض التي تخضع لها الجهات القضائيّة المُستولى على صلاحياتها باختزال النيابة العامة صفتيْ “الخصْم” و”الحكم”، فإنه يؤدي أيضا إلى توسيع هامش تدخّل القوى النافذة وسلطتها في المجال القضائي كنتيجة طبيعية لتوسّع سلطة النيابة العامة الخاضعة لتأثيراتِها. ومؤدّى رواج هذه الممارسة قضم مزيد من الضمانات القضائية مقابل فتح المجال أمام مزيد من التعسف والاستنساب والتدخّل وصرف النفوذ في العمل القضائي، مع ما يستتبع ذلك من مزيد من الإخلال بمبدأ المساواة بين المتقاضين. 

ومن المهمّ بمكان أن نشير هنا إلى واقعة ذات دلالة هامّة وإن أغفل قرار استئناف النبطية عن لحظها، وهي أن النيابة العامة في الجنوب تجاوزت ليس فقط صلاحيتها كنيابة عامة بل أيضا صلاحيّتها الجغرافية (المكانية) التي يترتّب عليها انحصار صلاحياتها في هذه المحافظة. ويتحصّل ذلك من كون المؤسّسة التي ختمتْ محلاتها بالشمع الأحمر واقعة في النبطية وليس في الجنوب. ومن شأن هذا التمدّد أن يضاعف من المُخاوف المشار إليها أعلاه، بحيث يفتح المجال للقوى النافذة في اللجوء إلى أيّ نيابة عامة خاضعة لتأثيراتها خدمةً لمصالحها أو مصالح أتباعها، بمعزل عن حدود اختصاصها الجغرافي.       

إرساء توجّه في مقاومة تمدّد النيابة العامة 

فضلا عما تقدّم، فإن من شأن القرار الصادر عن استئناف النبطية أن يعزز التوجه الذي أرستْه استئناف جبل لبنان، لجهة التصدي لهذا التمدد. ويلحظ أن كلا المحكمتين عمدتا ليس فقط إلى التأكيد على حدود النيابة العامة (التي هي خصم في الدعوى العامة ولا يجوز لها  التدخّل في عمل القضاء ووظيفته جزائيًّا كان أم مدنيّاً)، إنما أيضا إلى التأكيد على دور القضاء المدني (وبخاصة قضاء الأمور المستعجلة) في ضمان التدخل السريع لحماية الحقوق ومنع الضرر مع ما يستتبع ذلك من تصدٍّ لتجاوزات النيابة العامة. 

ويؤمل تاليا أن يؤدي التوجه الذي عكسه هذان القراران إلى وضع حدّ لتمدد النيابات العامة، وإلى تشجيع مزيد من الهيئات القضائية للتصدّي لممارسات النيابة العامّة لما قد تشكّله من خطورة على حقوق المتقاضين والمساواة فيما بينهم.

للاطّلاع على قرار المحكمة

انشر المقال



متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم مدنية ، قرارات قضائية ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني