مرفأ صيدا يساهم بـ0.03% فقط في الاقتصاد.. فكيف يسدّ رمق البلاد بعد انفجار مرفأ بيروت؟


2020-08-13    |   

مرفأ صيدا يساهم بـ0.03% فقط في الاقتصاد.. فكيف يسدّ رمق البلاد بعد انفجار مرفأ بيروت؟

بعد أيام على انفجار مرفأ بيروت وتعطّل جزء كبير من عمليّاته، وتحديداً الأحد التاسع من الجاري استقبل مرفأ صيدا أوّل باخرتي قمح مُحمّلتين بـ11500 طن. وأتت هذه الخطوة بعد زيارة وزير الصناعة عماد حب الله والأشغال العامة والنقل ميشال نجار مرفأ صيدا في الثامن من الشهر نفسه. رئيس بلدية صيدا محمد السعودي رحّب بهذه الخطوة بشكل كبير واصفاً إياها في حديثٍ لـ”المفكرة القانونية” “بالمسؤولية الوطنية لمواجهة الكارثة التي أصابت بيروت خصوصاً ولبنان عموماً”. فهل يستطيع هذا المرفأ أن يساهم فعلاً في سد الثغرة التجارية التي تركها انفجار مرفأ بيروت؟ وما هي التبعات التي ستترتب على مدينة صيدا جرّاء هذا القرار؟

كيف نشأ مرفأ صيدا

يقع مرفأ صيدا الجديد جنوب المدينة في المنطقة المعروفة تاريخياً باسم “خليج اسكندر” وضمن الواجهة البحرية لمدينة صيدا القديمة. وهو ثاني مرفأ في صيدا بعد المرفأ التاريخي المقابل للقلعة البحرية والأصغر حجماً، وهو مرفأ للصيّادين ومرفأ سياحي في آن معاً، يقصده السّواح في فصل الصيف للذهاب إلى جزيرة صيدا “الزيرة” بشكل أساسي.

ولد مشروع مرفأ صيدا الجديد للمرة الأولى في العام 1977\1987 على يد رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري الذي خطط لإنشاء “مرفأ بحجم وسطي وبوظيفة عادية غير متخصصة” في جنوب المدينة بعدما تبيّن أنّ إنشاءه على مدخل المدينة الشمالي له عواقب تراثية وبيئية وسياحية[1].

وعلى أثر الدّمار الذي أصاب مدينة صيدا جرّاء الاجتياحات الإسرائيلية، باشرت شركة “أوجيه لبنان” شق الطرقات في المدينة وإنشاء البوليفار البحري عام [2]1995، الذي حوّل مدينة صيدا إلى ممرّ يربط الجنوب ببيروت وفصل المدينة القديمة، للمرة الأولى، عن البحر الذي لطالما جاورته. البوليفار البحري بدوره مهّد لإعادة التخطيط للمرفأ الجديد عام 1995 بصفته شرياناً حيوياً للمرفأ.

المرفأ منذ العام 2011

على الرغم من تصنيف “الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية” التي صدرت عام 2009 شواطئ صيدا الشمالية والجنوبية والواجهة البحرية لمدينة صيدا القديمة كمناطق ساحلية مطلوب حمايتها، بدأ إنشاء المرفاً في العام 2011 بموجب مرسوم 5790 أصدرته حكومة تصريف الأعمال في 6 نيسان 2011[3]. تديره “مصلحة استثمار مرفأ صيدا” التابعة لوزارة الأشغال العامة والنقل و”هو مؤلّف من حوض واحد. يستوعب المرفأ بشكله الحالي البواخر متوسطة الحجم فقط إذ لا يتجاوز عمقه 10 أمتار ورصيفه  الذي أنجز خلال المرحلتين بطول 275 متر وارتفاع 1000 متر. وتشكل تجارة الخردة 54% من حركة مرفأ صيدا، “الأمر الذي يتطلب إعادة التفكير والتخطيط لاستيراد المواد الغذائية كالقمح”، وفق المهندس المعمارس والناشط محمد دندشلي.

حتى اليوم، لم يكتمل إنشاء المرفأ إذ ما زال بحاجة إلى استكمال أعمال الردم وإنشاء الأرصفة وإقامة الهنغارات التي تستخدم لتخزين المواد المستوردة. ويعود تأخّر إنجاز المرفأ إلى “المحاصصة الطائفية” وتأخّر التمويل. ويشرح دندشلي أنه “باعتبار المشروع حصّة مدينة صيدا السنّية من المرافق العامة، لم يتلقَّ منذ بدايته تمويلاً كافياً من الحكومات اللبنانية المتعاقبة التي تضطر إلى توزيع حصص متساوية بين الطوائف بغض النظرعن الدراسات. وكان المشروع، شأنه شأن مشاريع كثيرة أخرى، بانتظار أموال سيدر لإنعاشه، فهو ما زال بحاجة إلى حوالي 40 مليون دولار لاستكمال العمل فيه”.

تقنياً، إنّ شكل المرفأ وعناصره تجعل منه “منصّة لإعادة الشحن والتوزيع” أو ما هو معروف تقنياً بالـTransshipment  فقط. في حين أن إدارة المرفأ والحكومة اللبنانية تتجهان إلى استخدام هذا المرفأ لغايات تجارية تفوق قدراته. فمن ناحية، لا يتماشى هذا المرفأ مع أبرز الاتجاهات العالمية في مجال التجارة البحرية وهي تجارة الحاويات (containers) بسبب عدم إنشاء محطة لاستقبالها. ونظراً لوظيفته كمرفأ لإعادة الشحن والتوزيع، فلا توجد فيه هنغارات للتخزين. أما “القدرة الإستيعابية للمرفأ بالشكل الذي أنشئ عليه فلا تتجاوز 300 ألف طن سنوياً، بينما بلغت حركة مرفأ بيروت في عام 2017 وحده 6 ملايين طن” وفق مصدر مطّلع على عمل المرفأ.

ولكن طالما أنّ المرفأ تجاري، لم لا تتوافر فيه العناصر الأساسية لجعله مرفأ تجارياً مربحاً للدولة اللبنانية؟

مرفأ سياحي أو تجاري؟

إذا كانت وظيفة المرفأ الهجينة تشي بشيء فهو الفوضى التي رافقت مختلف مراحل التخطيط له وإنشائه. فالمشروع “لا يستند إلى مخطط توجيهي أو جدوى اقتصادية ودراسة أثر بيئي” وفق دندشلي المطّلع على مختلف مراحل إنشاء المرفأ منذ العام 1995. ويضيف: “على الرّغم من أن بلدية صيدا، وهي السلطة المحلية، غير مسؤولة عن إدارة المرفأ ولا تعود لخزينتها أيّة أرباح ماليّة جرّاء المشروع، فهي تتمتّع بحق التخطيط للمشروع كجزء يتناغم مع هوية المدينة وخصوصيتها ومخططها التوجيهي”. ويبدو هذا “التراخي” مستغرباً في حين يقع المرفأ مقابل المدينة القديمة ذات الخصوصية التراثية والتاريخية والسكنية. فالأبنية القديمة الموجودة فيها، وهي أبنية سكنية، مبنية من حجر صخري قد يتصدّع بسبب الارتجاجات الناتجة عن مرور الشاحنات بالقرب منها.

اجتماعياً، لم تكن السلطة المحلية واضحة أو صادقة في حديثها عن المرفأ خلال فترة إنشائه. فخلال السنوات الأولى للمشروع، روّجت بلدية صيدا والنائب بهية الحريري للمرفأ على أنه مرفأ سياحي. فأطلقوا عليه اسم “اسكندر باي”، على غرار مشروع “زيتونة باي” الذي نفذته شركة “سوليدير” على خليج السان جورج في بيروت واستخدموه كمادة للدعايات الانتخابية والشعارات الفضفاضة.

ويقول طارق البساط (53 عاماً)، وهو مهندس كهرباء وربّ أسرة يسكن مقابل المرفأ أنّه: “منذ سنةٍ تقريباً، طرح من بعض القيّمين على المدينة مع بعض المهندسين خلال اجتماع في بلدية صيدا احتمال استثمارالمرفأ لغايات تجارية، الأمر الذي فاجأنا لأن هذا القرار لم يرتبط بأي مخطط توجيهي يبرز حاجات المدينة وتوجهها المستقبلي. كما شعرنا بأنّ القرار سقط علينا من دون أن يسألنا أحد عن رأينا كسكان محيطين بهذا المكان”.

ماذا عن الفوائد الوطنية والمحلية؟

يؤكّد المصدر نفسه أنّ مرفأ صيدا يبقى رمزياً خصوصاً إذا ما قورن بمرفأ بيروت. فهو لا يساهم بأكثر من نسبة 0.03% من الاقتصاد الوطني. من جهته، يعتبر رئيس بلدية صيدا محمد السعودي أنه “لا مكان للحديث عن أي فوائد قد تعود أو لا تعود على مدينة صيدا في ظل الكارثة التي تعيشها بيروت والوطن”. أما بالنسبة لفرص العمل، لا يؤمّن المرفأ الذي ما زال يفتقد إلى البنى التحتية من شبكة ماء وكهرباء فرص عمل لأكثر من 60 شخصاً، هم مياومون، يعملون من دون ضمان أو تأمين صحي. أما بلدية صيدا، فـ”لا تخطط للمطالبة بأي عائدات لخزينتها جراء تشغيل المرفأ” وفق السعودي. من هنا، يمكن اختصار الآثار المباشرة للمرفأ على مدينة صيدا وساكنيها بـ”التلوّث” فقط.

جيران المرفأ

في حين يحظى قليلون منّا بفرصة السكن مقابل البحر والتمتّع بمشاهد الغروب، فإنّ طارق لا يبدو مستمتعاً في مكان سكنه. فالجلوس على شرفته لم يعد فرصةً للراحة بل مسبباً للتوتر. وعلى عكس غالبية سكان المدينة، بإمكان طارق أن ينظر إلى البحر خلف الحائط الاسمنتي للمرفأ الذي يسدّ أفق البحر، لكنه في الوقت عينه يعاني من الضجيج الذي تسبّبه الشاحنات والسيارات طول ساعات النهار. ناهيك عن تلوث الهواء جراء حركة النقل والرائحة الكريهة التي تسببها مياه الصرف الصحي التي تصب في المرفأ من خلال مجرى نهر البرغوث، أحد الأنهار الداخلية في مدينة صيدا، وكذلك من إحدى شبكات الصّرف الصحي.


[1] “مشاريع صيدا العمرانية: ما لها وما عليها، الجزء الأول”. ص 155.

[2] كتيّب “مشي ت دليك”، ص 29، الذي أصدرته مجموعة “ديكتافون”:

https://dictaphonegroup.com/wp-content/uploads/sites/90/2018/12/Mashi-ta-Daleek-final.pdf

[3] المرجع نفسه، ص 27.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مؤسسات عامة ، لبنان ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني