محنة المحاماة: المحامون غاضبون والهيئة تطلب ودّ السلطة


2024-05-22    |   

محنة المحاماة: المحامون غاضبون والهيئة تطلب ودّ السلطة

أيام محنة تشهدها المحاماة التونسية يسجّل تاريخ المهنة مشاهدها فيما لازالت مآلاتها بصدد التشكّل. تصعيدٌ من السلطة السياسية عبر أدواتها القضائية والأمنية عنوانه اقتحام “دار المحامي”، ذات المكانة الرمزية، في مناسبتيْن متتاليتيْن لإيقاف المحامييْن سنية الدهماني ومهدي زقروبة، في سابقة لم يحصل مثلها حتّى زمن نظام بن علي. والسابقة الأخرى هي معاينة آثار تعذيب على جسد زقروبة، عضو المكتب التنفيذي بجمعية المحامين الشبان، وذلك في أول حالة تعذيب لمحامٍ منذ الثورة على الأقلّ. 

سوابق تؤشر ليس فقط إلى انفلات في سلوك الاستباحة الممنهجة للمحاماة وضماناتها، ولكن أيضًا إلى تسارع تدهور الوضع الحقوقي برمّته في تونس، على نحو يكشف شراسة السلطوية الناشئة. بالمقابل، لم يكن تفاعل المحاماة الرسميّة، وأساسا هيئة المحامين وعميدهم حاتم المزيو، في مستوى الهجمة التي استهدفتها، على الرغم من سلسلة التحركات الاحتجاجيّة المنظّمة والتي بلغت أوجها الخميس 16 ماي بيوم غضب ووقفة احتجاجية ضمّت مئات المحامين والنشطاء، معظمهم من الشباب. هذه “المحنة” الأخيرة، وقبلها تطوّر مواقف المحاماة الرسميّة منذ 25 جويلية 2021، سيسجّلها التاريخ والذاكرة، التي حفظت جيّدا تعامل عمداء سابقين مع أزمات في حقب منقضية، بين إطراء وازدراء. 

عن واقعة “يوم الدار” والمهدي المعذّب: عودة للمحنة

من الخطأ اعتبار مسار الاستهداف الممنهج من السلطة للمحاماة مستجدًا. فقد تعلّقت أوّل محاكمة سياسية بعيْد انقلاب 25 جويلية 2021 بـ”قضية المطار” التي ابتدأت وقائعها باستماتة المحامي مهدي زقروبة للدفاع عن حقّ منوّبته في السّفر في ظلّ فرض الإجراء غير الدستوري بمنع السفر المعروف بـ “S17”. وآخر حلقات الاستهداف قبيل “المحنة” هي التضييقات على لسان الدفاع في القضايا السياسية وبالخصوص قضية “التآمر” على نحو دفع الفرع الجهوي للمحامين بتونس للإضراب (2 ماي 2024). وبينهما عشرات الملاحقات القضائية ضدّ محامين على خلفية ممارستهم لأعمالهم أو لحريّاتهم العامّة. 

أجواء محتقنة حفّزها أيضًا إعلان العميد السابق شوقي الطبيب دخوله في إضراب جوع والاعتصام بدار المحامي يوم 30 أفريل 2024 احتجاجًا على “الاعتداءات ضد المحامين” و”فتح الملفات القضائية الكيدية ضدّه”. تحوّلت دار المحامي بذلك، طيلة الأسابيع الأخيرة، إلى مزارٍ للمحامين والحقوقيين والإعلاميين بوجه عامّ. سنيّة الدهماني، التي رفضت قاضية التحقيق المتعهدة بالتتبّع الثاني المثار في حقها تأخير موعد استنطاقها ببضعة أيام، اختارت بدورها في 10 ماي 2024 التشاور مع زملائها بـ”الدار”، خصوصًا بعد وضوح الصبغة الكيدية لملاحقتها على خلفية تعليق إعلامي ساخر.

مساء اليوم الموالي، تمّ اقتحام “الدار” من طرف أعوان أمن ملثّمين بهدف إيقاف سنية الدهماني، ليتشكّل بذلك أول مشاهد المحنة. وهو اقتحام تمّ من دون احترام موجبات مرسوم المحاماة الذي يقتضي في فصله 46 عدم جواز تفتيش مكتب المحامي إلا في حالة التلبّس وبعد إعلام رئيس الفرع الجهوي المختص، مع لزوم مباشرة أعمال التفتيش بحضور قاضي التحقيق ورئيس الفرع، وهي الأحكام التي تسري على مكاتب الهيئة الوطنية للمحامين وفروعها بنصّ الفصل. لكن الصورة لا تقتصر على هذا المستوى الإجرائي، بل تتعلّق في العمق بتخطّي عميد المحامين بعدم سابقية إعلامه، ولو على سبيل التنبيه، وذلك لرفع الحرج على الأقل. حرجٌ عبّر عنه الكاتب العامّ للهيئة، حسان التوكابري، حين صرّح لإحدى الإذاعات: “في الأفلام المصرية على الأقلّ يتم التنبيه قبل الاقتحام بمقولة المكان محاصر”.

لم يتجاوز المحامون بعدُ الصدمة بعد مشهد “يوم الدار”، حتى تكرّر ثانيًا وبشكل أعنف وأشدّ، عبر اقتحام أعوان أمن مجددًا الدار لإيقاف المحامي مهدي زقروبة في غير حالة تلبّس، على خلفيّة احتجاجات المحامين صباح اليوم ذاته داخل قصر العدالة تزامنا مع مثول سنية الدهماني أمام قاضية التحقيق التي أصدرت في حقّها بطاقة إيداع بعد “تعذّر سماعها”. كانت الصورة واضحة، وهي استباحة “الدار” التي تمثّل المقرّ الإداري للهيئة الذي يضمّ أرشيفها وملفات المحامين. وامتناع قوات الأمن على اقتحامها زمن نظام بن علي لم يكن باعتبارها مكانًا محصنًا، بقدر ما كان يعكس خشية من استثارة تصعيد غير مرغوب فيه من جسم المحامين، خصوصًا وأن الاقتحام لا يستهدف محامين متهمين في قضايا حق عام، بل محامين حقوقيين ملاحقين في قضايا سياسيّة.

ثم بلغ مشهد المحنة أوجّه بعد أن تبيّن تعرّض زقروبة لاعتداءات جسيمة من ضرب وركل أدّى لأضرار بدنية عاينها قاضي التحقيق، على نحو يجعلها تكيّف كجريمة تعذيب. هي حالة من الاستباحة واستدعاء للتصعيد من جهة السلطة بدرجة أولى. وزقروبة هو أكثر أعضاء المكتب التنفيذي نيلًا للأصوات في انتخابات جمعية المحامين الشبان العام المنقضي، على نحو يجعله تعبيرة بدرجة ما للشريحة الشبابية في جسم المحاماة.

هياكل المحاماة تتفاعل.. ولكن

كان الفرع الجهوي للمحامين بتونس قد عقد ندوة صحفية في دار المحامي سويعات قليلة بعد اقتحامها في المرّة الأولى، أعلن خلالها إضرابًا عامًا في محاكم تونس العاصمة “بداية من يوم الإثنين 13 ماي 2024”. كانت الصياغة تحيل ضمنيًا لإضراب مفتوح، أي غير محدّد المدة، لكنّ تفاعل الهيئة الوطنية من الغد وقراراتها “نسخت” ضمنيا قرار فرع تونس. فقد أصدرت الهيئة بعد مجلسها المنعقد بشكل طارئ الأحد 12 ماي بيانا يعلن سلسلة من التحركات الاحتجاجية طيلة الأسبوع، أبرزها إضراب وطني عامّ الاثنين بجميع المحاكم، مع مقاطعة باحث البداية لمدة ثلاثة أيام، وتنظيم ندوة صحفية وصولا إلى إعلان “يوم غضب” الخميس. بيان الهيئة اكتفى، في المقابل، بإدانة “الاعتداء السافر” على دار المحامي من دون تحميل المسؤولية لا للسلطة السياسية ولا لأدواتها القضائية أو الأمنية. إدانة للفعل من دون تحديد لصاحبه.

جاء التصعيد مجدّدا من السلطة، ليلة عقد الندوة الصحفية للهيئة السابق برمجتها، حيث تكرّرت “واقعة الدار” للمرة الثانية، ليعلن العميد مزيو دعوته مجلس العمداء، وهي هيئة استشارية تتكوّن من العمداء السابقين للمهنة، للانعقاد أمام المستجدّ الخطير. عبّر العميد في الندوة الصحفية عن احتجاجه ولكن كلمة السرّ كانت “دعوة رئيس الجمهورية للتدخّل”. في اليوم المُوالي، دعا مجلس العمداء بدوره “رئيس الجمهورية بوصفه ضامنًا للدستور إلى اتخاذ جميع الإجراءات القانونيّة الضروريّة لاحترام دور المحاماة وفتح حوار مع هياكل المهنة”. ظهر بيان مجلس العمداء سندًا للخط داخل الهيئة الذي يعبّر عنه العميد الدافع لمواصلة خيار “اليد الممدودة لسيادة رئيس الجمهورية”. في المقابل، كان منسوب الاحتقان يتزايد في صفوف المحامين المرابطين بدار المحامي، والذين كانوا يدفعون الهياكل لتحمّل مسؤوليتها التاريخية لصدّ الاعتداء على المحاماة وإيقاف نزيف استباحتها. 

“يا عميد القواعد تناديك”: يوم غضب أم امتصاص للغضب؟

كان المشهد في شارع باب بنات يوم الخميس 16 ماي 2024 بليغًا: العميد مع جمع من المحامين في مدرج قصر العدالة يلقي كلمة ببوق قديم بالكاد يُسمع، وعشرات المحامين خارج قصر العدالة يهتفون “يا عميد القواعد تناديك” لدعوة العميد للالتحاق بالشارع أمام “الدار” مع بقية القواعد وإلى جانب الشبيبة المدنية التي تداعت تضامنًا مع المحامين والصحفيين الذين منعتهم قوات الأمن من الولوج لقصر العدالة. عكس هذا الفرز حقيقة المشهد: العميد يتوجّه لمنظوريه “لوحدهم” داخل الأسوار، مقابل حراك احتجاجي التحم فيه المحامون مع الحقوقيّين من مختلف المشارب في “الشارع”. وبالنهاية، لم تغطّ وسائل الإعلام خطاب العميد لأنّ صوته لم يكن مسموعًا، فيما طغت هتافات المحامين الغاضبين في الشارع وصورهم في التغطية الإعلامية، باستثناء الإعلام الرسمي الذي نجحت السلطة إلى حدّ كبير في إخضاعه.

كانت الصورة واضحة: الهيئة اختارت تأطير الاحتقان المتصاعد في صفوف القواعد. لم تكن الغاية من “يوم الغضب” توجيه رسالة غضب صارمة ضد السلطة بقدر ما كانت الغاية امتصاص غضب المحامين. وإن لم يظهر الحرص الحقيقي من الهياكل على ضمان تعبئة للمحامين خصوصا من الجهات، مثّل عدد المحامين المشاركين، وبخاصة لجهة تنوّع انتماءاتهم السياسية والعمرية، تعبيرة عن حجم السخط الداخلي، الذي أجّجه بلا شكّ انتشار خبر تعذيب زقروبة الأربعاء ورفض عرضه على الخبرة الطبية “لأسباب أمنية”

رسالة الغضب الحقيقية تجاه السلطة لم توجّهها الهيئة ولا العميد، بل فرضتها القواعد التي قادت مسيرة لعشرات الأمتار إلى مبنى وزارة العدل المجاور ورفع شعار “ارحل” (!Dégage) للوزيرة جفّال. وهي مسيرة تبرّأ العميد منها في تصريح إذاعي لاحق، في سياق سعيه لتأكيد يده الممدودة دائمًا للسلطة. والعنوان الدائم داخل الهياكل لخيار اليد الممدودة هو عدم التوظيف السياسي للمحاماة لفائدة أي طرف، وهو شعار دائمًا ما تمّ تصديره تاريخيًا لتبرير الانحناء للسلطة أو الموالاة لها. شعارٌ يتعارض مع حقيقة أن مجلس الهيئة نفسه تبنّى في بيان في شهر جانفي 2024 “إنجاح مسار 25 جويلية في إصلاح أوضاع البلاد وتصحيح مسار الثورة” على نحو يؤكد اصطفافًا علنيًا إلى جانب السلطة، فيما يبدو وقتها، مغازلة مجانية لم تجد ردًا من جانب سلطة لا تصافح الأيادي الممدودة، ولو طال مدّها.

كانت الحاجة لتوجيه رسالة غضب جديّة وحاسمة، حتّى إذا أصرّت الهيئة على خيار عدم المواجهة المفتوحة مع السلطة. ذلك أن تبيان القدرة على تعبئة أصحاب الرداء الأسود كان ضروريّا حتى لا تأتي اليد الممدودة للسلطة من موقع ضعف. وهو الضعف الذي تبيّن وضوحًا بتوجّه الكاتب العام للهيئة الأستاذ حسان التوكابري، في حوار إذاعي، بعبارة “على يديك نحجّ”، في حديثه مع أحد المعلقين الصحفيين المقرّبين للسلطة بخصوص طلب الحوار معها. هذا التصريح، الذي حصل قبل يوم واحد من “يوم الغضب”، عزّز شبهة غياب الإرادة الجديّة لدى المحاماة الرسميّة ليكون التحرّك تعبيرًا فعليّا عن غضب المحامين. فلم يظهر التصريح للعموم كدعوة لطلب الحوار مع السلطة بقدر ما كان تذللّا لها.

الجلسة العامة الخارقة للعادة: هل تفتك القواعد المبادرة؟

كانت مجابهة “المحنة” غير المسبوقة للسان الدفاع تستلزم إعمال الآليات الاستثنائية لإنتاج القرار المعبّر عن موقف المحاماة، وذلك عبر دعوة الجلسة العامة الخارقة للعادة. تحدّث العميد مزيو بنفسه على هذه الفرضية في الندوة الصحفية ولكن لم تظهر بعد ذلك الإرادة لدعوتها. والجلسة العامة الخارقة للعادة تُعقد بدعوة من العميد أو بقرار من مجلس الهيئة أو بطلب كتابي صادر عن ثلث المحامين المباشرين.

تظهر أسس الدعوة للجلسة العامة الخارقة للعادة من زاويتين على الأقل: أولًا مجابهة وضع استثنائي من الاعتداء الممنهج على المحاماة والإمعان في خرق ضماناتها خصوصا في سياق قطيعة السلطة واستدعائها للمواجهة رغم سياسة “اليد الممدودة” تجاهها، وثانيًا تحميل المحامين برمّتهم مسؤولية اتخاذ القرارات اللازمة على نحو يرفع “الحرج” على الهياكل المنتخبة من جهة ويضمن مشروعية حقيقية لهذه القرارات بغضّ النظر عن طبيعتها. فالجلسة العامة الخارقة للعادة قد لا تؤدي لإعلان قرارات خارقة للعادة، أي تتجاوز سقف توازنات المجلس الحالي، خصوصا بالنظر إلى قدرة الأغلبية داخله على تأمين هندسة متوائمة مع خياراتها ضمن الإعداد المضموني لأعمال الجلسة.

في الأثناء، يمثّل عنصر الإعداد اللوجيستي نقطة مؤثرة في اتخاذ قرار الدعوة لانعقادها. إذ تستلزم الجلسات العامة نصابًا أدنى وهو حضور ثلث المحامين المباشرين والذين لهم حقّ التصويت. إلاّ أنه خلافًا للجلسة العامة أو الانتخابية التي يمكن عقدها في نفس اليوم مهما كان عدد الحاضرين في صورة تخلّف النصاب القانوني، فإنّ الجلسة العامة الخارقة للعادة تؤجل إلى تاريخ لاحق لا يقلّ عن 15 يومًا من الموعد الأول ولا يتجاوز الشهر (طبق الفصل 56 من مرسوم المهنة والفصل 44 من نظامها الداخلي). إجراء يستلزم تأمين تحشيدا فعليا لثلث المحامين بتونس أي ما لا يقلّ عن 3100 محام، وهو أعلى، على سبيل المثال، من عدد المحامين المصوّتين في الدورة الثانية في آخر جلسة عامة انتخابية رغم حدّة التنافس بين المرشحين المزيو وبالثابت وقتها (2564 محام). بذلك تكون التعبئة ضرورية لضمان عقد الجلسة في تاريخها الأصلي من دون الحاجة لتأجيلها لموعد لاحق.

تحدّي التعبئة يبقى قابلا للتجاوز، في صورة عزم هياكل المهنة على تأمين عقدها، ولكن أيضًا مع تصاعد قناعة المحامين بخطورة الوضع القائم، وبأنّ غياب النصاب القانوني في الجلسة سيُفهم من السلطة كعلامة ضعف في جسد المحاماة. والعكس صحيح، حيث أنّ مجرّد عقد الجلسة سيكون، بغض النظر عن مخرجاتها، رسالة قويّة تجاه السلطة حول حيوية المحاماة وقدرتها على التعبئة. وهي الرسالة التي لا تبدو الهيئة ساعية أو على الأقل حريصة على توجيهها بهذا الزخم، خوفًا من أن تُفهم كتصعيد ضد السلطة. يبقى أنّ تردّد العميد ومجلس الهيئة في الدعوة للجلسة العامة الخارقة للعادة، دفع إلى تصاعد الدعوات لانعقادها. فليس مستبعدا أن تأتي المبادرة من القواعد لإطلاق حملة جمع إمضاءات ثلث المحامين المباشرين للدعوة لعقد الجلسة، أو على الأقل لتحفيز العميد أو مجلس الهيئة للمبادرة بأنفسهما بانعقادها ضمانًا لـ”وحدة المحاماة”.

تعذيب زقروبة: قضية حقوقية ومهنية في آن

لم ينتظر المحامون تبنّي هياكل المهنة لقضية مهدي زقروبة ليُبادروا بتقديم شكاية جزائية في التعذيب على معنى الفصل 101 مكرّر من المجلة الجزائية. فقد تكفّل أعضاء من هيئة الدفاع بإعداد الشكاية وتأمين إمضاء أكثر من 1600 محام عليها، أُلحق بهم عميد الهيئة ورئيس الفرع الجهوي للمحامين بالعاصمة، لتكون بذلك شكاية وليدة القواعد تم تحفيز الهياكل على تبنيها. ويؤشر عدد المحامين الممضين على الشكاية، الذين تم تأمينهم في وقت قياسي وبجهود فردية غير مؤسساتية، على المخاض الجاري داخل جسم المحاماة.

ويمثّل واجب النظر في الشكاية وعرض زقروبة، الذي لا زالت آثار التعذيب بادية على بدنه، على الفحص الطبي، التحدي الرئيسي لضمان المساءلة والإنصاف. فالسلطة، التي أحكمت سيطرتها على جهاز النيابة العمومية والقضاء عموما، ستحول دون تحقّق المسار الإجرائي الطبيعي للشكاية بغاية حماية أدواتها القضائية والأمنية المتورطة في “الجريمة”. الأمر الذي يجعل هيئة المحامين أمام اختبار فرض علوية القانون في قضية حقوقية ومهنية في آن، تظهر محلّ توافق بين عموم المحامين بغض النظر عن الاختلاف في تعاطيهم مع المحنة. بذلك، يجد العميد نفسه أمام ضغط متصاعد من القواعد لتحمّل المسؤولية لحماية حقّ أحد المنظورين في قضية “تعذيب” بما تحمله في العمق من استباحة لكل المحامين، فضلا عمّا تعكسه هذه الجريمة من حمولة ثقيلة في ذاكرة انتهاكات حقوق الإنسان في تاريخ البلاد.

المؤتمر الوطني للحريات: هل اليد ممدودة للمنظمات كما هي للسلطة؟

تحدثّ العميد مزيو بعد “واقعة الدار” في المرة الأولى أنّ مجلس الهيئة المنعقد بصفة طارئة أقرّ، من جملة قراراته، الدعوة لعقد “مؤتمر وطني للحريات” مع المنظمات الوطنية. ولكن كان لافتًا غياب التنصيص على هذه الدعوة في البلاغ المكتوب للمجلس لاحقًا. لم تكن الصورة واضحة إن كان الأمر يتعلّق بمبادرة من العميد أم بقرار من مجلس الهيئة، ولا إذا ما حصل تراجع عن القرار أم مجرّد سهو في التدوين. ولكن سرعان ما تمّ تلقّف هذه الدعوة، على نحو تأكيد نقابة الصحفيين التونسيّين في اجتماع مكتبها التنفيذي الموسّع “الانفتاح على كلّ المبادرات الإيجابية والتشاركية على غرار دعوة عمادة المحامين إلى المؤتمر الوطني للحقوق والحريات”. الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بدورها دعت إلى إنشاء جبهة حقوقية واسعة ومؤتمر وطني للحريات.

في المقابل، دعا عضو الهيئة الأستاذ عمر السعداوي، الذي فوّضه العميد لتقديم كلمة باسم الهيئة في ذكرى تأسيس الرابطة، إلى “تشبيك العلاقات مع المجتمع المدني لتوحيد الجهود وتنسيق العمل وذلك كقوة ضغط على السلطة من دون أن يكون هدفها تغيير نظام الحكم”. حرِصَ السّعداوي على تقديم هذا الموقف كموقف رسميّ للهيئة، وهو ما يمثل نكوصًا على الدعوة السابقة لمؤتمر وطني للحريات، باعتبار “التشبيك” مجرّد دعوة مفتوحة عامة لا تتضمن آليات واضحة لترجمته. نكوص يتبيّن، في جانب متصل، بعدم تقديم الهيئة لشكاية جزائية ضدّ كل من أمر ونفّذ اقتحام “الدار” رغم قرار مجلسها بذلك.

وفي خضمّ ذلك، لم يتردّد العميد، ساعات بعد الوقفة الاحتجاجية في “يوم الغضب”، في توصيف بلاغ رئاسة الجمهورية بأنه تضمّن “إجابة ممتازة وردّا إيجابيّا وطيبًا من رئيس الجمهورية بخصوص عدم وجود خلاف مع المحاماة”. وقد تضمّن البلاغ المذكور إقرارًا رئاسيًا بأن التتبعات ضد سنية الدهماني ومهدي زقروبة تعلقت بـ”تحقير للوطن بل ترذيله” وبـ”الاعتداء بالعنف على ضابط أمن”، كما تضمن دفاعًا على سلامة الإجراءات القانونية لاقتحام “دار المحامي” باعتبارها “لا تخضع لنظام لا إقليمية”. وهو بلاغ رئاسي جدّد العهد مع واقع الإدانة الرئاسية قبل “نطق المحاكم” بما يزيد في نسف ضمانات استقلالية وحيادية القرارات القضائية، وقدّم غطاء سياسيّا واضحا للانتهاكات الحاصلة. 

بذلك اختارت هيئة المحامين، في شخص العميد الذي جدّد الدعوة لرئيس الجمهورية “ليستمع إلينا”، مواصلة استجداء حوار مع سلطة طالما أثبتت أنها غير معنية بالجلوس على الطاولة مع أي طرف لحلّ أي أزمة. في المقابل، تظهر يدُ الهيئة منقبضة، أو على الأقل غير متحمّسة بالقدر الكافي، للمضي في مربع “الدور الوطني” الذي صنع مجد تاريخ المهنة، وذلك عبر التصدّي الحاسم والجدّي للانتهاكات الممنهجة للحريات العامة والنزوع السلطوي المتصاعد. مربّع لا يقتضي مجرّد دعوة للتشبيك مع المجتمع المدني، بقدر ما يستلزم رصّ الصفوف داخليًا ثم مع المنظمات الوطنية تحديدًا بعد أن أوغلت السلطة في جسد المحاماة بشكل غير مسبوق.

في الأثناء، تبقى إرهاصات المحنة مستمرّة داخل المحاماة التي تصاعد الوعي بين قواعدها بأنّ الانتهاكات الأخيرة قد تكون مجرّد محطّة ضمن مسار متواصل يستهدف، في العمق، لجمَ حقّ الدفاع ونسف الضمانات القانونية للمحامين. ليتصاعد، في هذا المخاض، نداء تحميل المسؤولية لهياكل المهنة ليس سعيًا لتوريطها في مواجهة سياسيّة مع السلطة، بل لضمان القدرة على صدّ ناجع لنزيف الاستباحة الممنهجة للمحاماة. فخطاب الخشية من التوظيف السياسي لمهنة المحاماة قد يؤدي، واقعًا، إلى توظيف السلطة لموقف المحاماة الرسمية لتحييد القطاع في مسار فرض السلطوية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني