محاولة لمنع صحافية أجنبية من دخول لبنان: الأمن العام يستمرّ بتجاوز صلاحياته


2022-04-22    |   

محاولة لمنع صحافية أجنبية من دخول لبنان: الأمن العام يستمرّ بتجاوز صلاحياته

للمرة الثانية تمكّنت الصحافية الأميركية ندى حمصي من مواجهة الإجراءات غير القانونية التي يتّخذها الأمن العام اللبناني بحقّها. فبعد احتجازها تعسّفياً لدى الأمن العام طيلة 23 يوماً في تشرين الثاني الماضي، تمّ توقيفها في مطار بيروت في 10 نيسان 2022 بعد عودتها من زيارة عائلية في أميركا، واقتيدت إلى مكتب الترحيل، ليتبيّن سريعاً أنّ الأمن العام كان قد أصدر بحقّها ٣ قرارات إدارية بمنعها من الدخول إلى الأراضي اللبنانية عقب مغادرتها. وهذا التصرّف غالباً ما يلجأ إليه الأمن العام بتجاوز لصلاحياته ومن دون تبليغ الأجنبي مسبقاً بصدور القرار بحقّه ويؤدّي إلى حرمان هذا الأخير من حقّه في الطّعن في القرار قبل مغادرة لبنان، ما يعدّ مخالفة واضحة للقانون وانتهاكاً للاتّفاقيات الدولية، علماً أن مجلس شورى الدولة كان قد سبق له أن أدان هذه الممارسات. ورغم تراجع الأمن العام عن قرار  منع حمصي من الدخول، إلّا أنّ خلفيّة هذا القرار لم تُعرف حتى تاريخ نشر هذه المقالة، ما يترك علامات استفهام كثيرة حول قرارات الأمن العام الاعتباطيّة التي تفتقر إلى سند قانونيّ، ويترك ندى وسواها في مهبّ “اعتبارات” السّلطات الأمنية.

تجمّع نقابة الصحافة البديلة كان سارع إلى إعلان تضامنه مع ندى عبر سلسلة تغريدات في 11 نيسان عبر إدانته لقرار منع دخولها وطالب فيها الأمن العام اللبناني بالتراجع فورًا عن قرار ترحيلها غير القانوني، والسماح لها بدخول الأراضي اللبنانية وباستئناف قرار الترحيل، واحترام حقها بالإقامة في لبنان، كونها متزوجة من فلسطيني لأم لبنانية.

الملفت أنّ توقيف ندى السابق قبل 5 أشهر كان قد استمرّ بشكل مخالف للقانون من قبل الأمن العام، بحسب محاميتها ديالا شحادة، حيث صدر قرار مدير عام الأمن العام بترحيلها، وتقدّمت شحادة حينها بطلب لدى النيابة العامة التمييزية يقضي بإلزام الأمن العام ترك ندى لعدم قانونية الاحتجاز وطالبت بإعادة النظر بقرار الترحيل الشّفهيّ وغير القانونيّ. وتمّ حينها “وقف تنفيذ قرار الترحيل الصادر بحقّها لحين البتّ بالطلب، حيث صدر القرار بإخلاء سبيلها وتسليمها مستنداتها ومتابعة الإجراءات الإدارية اللازمة”، وفق ما ورد في بيان الأمن العام، غير أنّ رئيس شعبة الإجراء والتحقيق بسام فرح كان قد أكّد لشحادة التراجع عن قرار الترحيل.

الأمن العام يحتجز ندى رغم التزامها بتعليماته

“كل ما فعلته هو أنني قد التزمت بالإجراءات التي طلب مني الأمن العام القيام بها بعد احتجازي تعسّفياً في المرة الماضية، كي أتجنّب مواجهة أيّ مشاكل في المستقبل، على حدّ قولهم، والنتيجة كانت أن يتمّ توقيفي مجدّداً”، تقول ندى حمصي في حديث لـ “المفكرة القانونية”.وتتابع “التزمت بتعليماتهم، فسرّعت أوّلاً إجراءات زواجي من شريكي الفلسطيني طاهر، وهو من أمّ لبنانية ويملك هوية قيد الدرس، وتوقّفت عن العمل كصحافية حرّة وأنا في صدد توقيع عقد عمل ثابت في بيروت للاستحصال على إجازة عمل”. وتشدّد على أنّها قد سافرت إلى أميركا عملاً بنصيحة الأمن العام الذين أكّدوا لها أنّه “لا يوجد قرار منع دخول بحقّها، ويستحسن لها أن تسافر وتعود إلى لبنان بعد تجديد الفيزا”. سافرت ندى لحضور حفل خطوبة أخيها في أميركا مطمئنّة البال بعض الشّيء، بخاصّة وأنّ زوجها طاهر كان قد طلب لها النشرة القضائية قبل السفر والتي لم تظهر وجود أيّ منع، ولكنّ الواقع أنّ هذه النشرة لا تتضمّن البلاغات غير القضائية الصادرة عن الأمن العام والجيش، كما أن قرار منع الدخول غالباً ما ينفّذ لدى مغادرة الأجنبي لبنان وليس قبل ذلك.

بعد شهر ونصف، عادت ندى إلى لبنان، ليتمّ توقيفها في مطار بيروت ليل الأحد 10 نيسان 2022، حيث اقتيدت إلى مكتب الترحيل بعدما تبيّن وجود ٣ قرارات منع دخول بحقّها صادرة عن الأمن العام. “تعاملوا معي باحترام والأهمّ أنّني تمكّنت من التواصل مع زوجي وعائلتي ومحاميتي عبر هاتفي الذي بقي بحوزتي طيلة الوقت”، تقول ندى. وتشير إلى الخوف الكبير الذي تملّكها بأنّها قد لا تتمكّن من رؤية زوجها مجدّداً، فامتلاكه لهوية قيد الدرس يجعل من احتمال حصوله على فيزا والسّفر إلى أيّ بلد آخر أمراً بالغ الصعوبة، وبالتّالي باتت حياتها كلّها مرتبطة بوجودها في لبنان. وتتابع: “حاولوا ترحيلي عبر أوّل طائرة متّجهة إلى أميركا، لكنّني رفضت ذلك، وطلبت منهم إمهالي بعض الوقت كي أتمكّن من التواصل مع محاميتي بحثاً عن حلّ. مارسوا عليّ ضغطاً يفوق قدرتي على استيعاب الموقف الذي أمرّ به، مردّدين عبارة: مش على كيفك بدك تاخدي الطيارة. كما حاولوا الإيقاع بيني وبين محاميتي منتظرين منّي الرّضوخ لقرار الترحيل. ولكنّني لم أفعل”.

جُلّ ما كانت تسعى إليه ندى هو تأخير موعد ترحيلها بغية البحث عن حلّ قانوني للدخول إلى لبنان ، بخاصّة وأنها قد أوضحت للأمن العام أنّها لا تملك ثمن بطاقة العودة إلى أميركا، وأضافت “من حقي عدم الصعود إلى الطائرة، فأنا أعلم جيداً أنّ مسألة عودتي إلى لبنان ستصبح أكثر تعقيداً في حال قرّرت متابعة قضيّتي من الخارج. ورغم ذلك، فإنّ الضّغط الذي مورس عليّ في غرفة الانتظار دفعني إلى البدء بفقدان الأمل، بخاصّة وأنّ محاميتي أشارت إلى أنّ عودتي إلى أميركا ستصعّب من القدرة على إلغاء المنع”. فتعدّ قرارات منع الدخول من أكثر القرارات التي يصعب إلغاؤها سنداً للقانون. ومع حلول بعد ظهر يوم الاثنين، وبعدما كانت ندى تنتظر حلول موعد الطائرة التي سترحّل على متنها مساء 11 نيسان 2022، علمت بواسطة عناصر الأمن عن التراجع عن قرارات منع دخولها وأنّه بات باستطاعتها العودة إلى منزلها في لبنان، لتخرج من مطار بيروت من دون أجوبة واضحة عن السّبب القانونيّ لما حصل معها.

أين القضاء من تجاوز الأمن العام لصلاحياته؟

تشرح وكيلة ندى المحامية ديالا شحادة أنّ بلاغ منع الدخول قد صدر بعد سفر ندى إلى أميركا، وهذا الأمر يحصل بهدف حرمان الشخص من حقّه في الطعن بالقرار وهو في لبنان.  وتؤكّد أنّه “يجب أن يكون للشخص المعني حقّ الطعن في قرار ترحيله، ليس التنفيذ ومن ثمّ الاعتراض”، فحقّ التقاضي والمساواة أمام القانون مكفول في الدستور، كما أنّ العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية يعطي الحقّ لأيّ شخص في أن يطعن بأيّ قرار قضائي يتعلّق فيه وفي أيّ بلد كان، ولبنان موقّع على هذا العهد وملتزم به في الدستور، ما يعني أنّه يسمو على القوانين المحلية. 

وعن هذا الأمر، تشرح المحامية غيدة فرنجية، مسؤولة قسم التقاضي في “المفكّرة” أن القانون يعتبر الترحيل والمنع من الدخول من العقوبات التي تنحصر صلاحية فرضها على المحاكم (المواد 71 و88 و89 من قانون العقوبات) بعد أن تتثبت من ارتكاب الأجنبي لجرم جزائي ومنحه حقّ الدفاع في محاكمة علنية. ولم يمنح الأمن العام صلاحية ترحيل الأجنبي من دون قرار قضائي إلّا في حال كان هذا الأخير يشكّل خطراً على الأمن والسلامة العامّين (المادة 17 من قانون الأجانب) ووفقاً لشروط معيّنة من ضمنها احترام حقوق الدفاع والحقّ في الطعن، إلّا أنّه لم يمنحه صلاحية إصدار منع بالدخول من دون قرار قضائي.  

ما حصل مع ندى حمصي يحصل يومياً مع العديد من الأجانب الآخرين الذين لا يعلم بهم أحد، وهو يعود بنا إلى عام 2018، حين أصدر مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم قراراً بمنع مجموعة من الباحثين من دخول لبنان على خلفية مشاركتهم في مؤتمر تناول الأوضاع الصحية والنفسية للمثليين في الدول العربية انعقد في أيلول 2018. وبرّر الأمن العام المنع بمفاهيم فضفاضة ومنفصلة عن الواقع مثل “اعتبارات أمن الدولة” والمحافظة على “الأمن العائلي والاجتماعي” و”تفادي سقوط المجتمع سقوطاً مريعاً وسدّ ومجابهة كلّ آفة مستوردة”. وإذ طعن ثلاثة من هؤلاء الباحثين بالتعاون مع “المؤسسة العربية للحريات والمساواة” و”المفكرة القانونية” بالقرارات المذكورة، استجاب مجلس شورى الدولة في قرارات ثلاثة صدرتْ في فترة آذار وحزيران 2021 لهذه الطعون مُبطلاً تدابير الأمن العام بحقّهم لتجاوز حدّ السلطة، لأنّ صلاحيته بإخراج الأجنبي من لبنان في حال كان في وجوده ضرر على الأمن والسلامة العامّين لا تخوّله منع دخوله 

تكمن أهميّة هذه القرارات في تصدّيها لتعسّف الأمن العام وتجاوزه لصلاحيّاته القانونية المتعلّقة بضبط حركة دخول الأجانب إلى لبنان والخروج منه، لا سيّما الناشطين والمعارضين والباحثين منهم، من دون تمكينهم من ممارسة حقّ الدفاع. وبالاستناد إليها يتبيّن بحسب شحادة أنّ “الأمن العام اللبناني قد أخطأ في قرار ترحيل ندى، وما فعله مخالف للقانون بحسب القرار الصادر سابقاً عن شورى الدولة”.

“المشكلة اليوم أنّ القضاء متخاذل في التصدّي للصلاحيات المفرطة للأمن العام وشهدنا ذلك من خلال عدم التزام الأمن العام بقرار مجلس شورى الدولة”، تقول شحادة، لافتة إلى أنّها لدى توقيف ندى في تشرين الثاني الماضي، كانت قد قدّمت كتاباً إلى النيابة العامة التمييزية بوجود موقوفة من دون سند قانوني لدى الأمن العام، وعندها أُحيل الكتاب إلى المديرية العامة للأمن العام من دون أن يتّخذ القضاء موقفاً سريعاً، مع العلم أنّه وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية فإنّ القضاء هو من يشرف على كل إجراءات الضابطة العدلية. وتشدّد ديالا على أنّه ليس كل القضاء يمارس السلطة المنتظرة منه في ما يتعلّق بعمل الأجهزة الأمنية عندما تجنح نحو تجاوز صلاحياتها، وفي غياب هذا الدّور القضائيّ، وحده الإعلام قادرٌ على سدّ الفراغ، على حدّ قولها، لكونه سلطة رابعة غير دستورية.

من يحمي ندى حمصي وسواها من قرارات الأمن العام التعسّفية؟

قصّة ندى تتّسم بالغرابة منذ بدايتها، من مطالبتها بإزالة علم فلسطين الذي رفعته على شرفة منزلها في فترة سابقة من العام الفائت تزامناً مع الحرب على غزة، حيث أتى حينها عناصر من مخابرات الجيش وطلبوا منها إزالة العلم لأن هذا الأمر له بعد طائفي وقد يثير النعرات في المنطقة، مع العلم أنّها لم ترفع العلم مجدداً منذ ذلك الحين. مروراً بمداهمة منزلها واحتجازها تعسّفياً لدى الأمن العام منذ 5 أشهر، وصولاً إلى توقيفها في مطار بيروت رغم حرصها الشّديد على الالتزام بتعليمات الأمن العام. وبالعودة إلى كلّ ما تعرّضت له، علّقت الصحافية الأميركية قائلة “أنا لست جاسوسة ولا عميلة والقوى الأمنية تعرف ذلك. من حقّي إذاً أن أعلم ما سبب مداهمة منزلي في المرة الماضية، وماهو سبب توقيفي مؤخّراً ومنعي من دخول لبنان، ولماذا نصحني عناصر الأمن العام بالقيام بإجراءات قانونية من دون أن يلتزموا هم بها، كيف لي أن أتأكّد من عدم تكرار ما حصل؟”.

المحامية شحادة سلّطت الضّوء من جهتها على أهمية الضغط الإعلامي الذي كان له دور أساسيّ في عودة ندى إلى منزلها، إضافة إلى صلابة السيدة وإصرارها على البقاء إلى جانب زوجها في لبنان متمسّكة بحقّها في الدّفاع عن نفسها ورفضها الامتثال لقرار لم يتنسنَّ لها الطّعن به. وفي الوقت الذي تؤكّد فيه المحامية على عدم وجود سبب قانوني لقرار الترحيل الصادر بحقّ صحافية، تشير إلى أنّه بات من السّهل أن يتعرّض أي شخص لصدور مثل هذا القرار بحقّه، والمطلوب من الأمن العام أن تصبح هذه القرارات مستندة أكثر إلى القانون، معلّقة “هذا الإجراء تعسّفي وغير قانوني وقرار مجلس شورى الدولة دليلنا على ذلك”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، أجهزة أمنية ، محاكم إدارية ، قرارات إدارية ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، احتجاز وتعذيب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني