مجلس شورى الدولة: وزير الداخلية عرقل إبلاغ مذكرات التحقيق في قضية المرفأ


2023-12-22    |   

مجلس شورى الدولة: وزير الداخلية عرقل إبلاغ مذكرات التحقيق في قضية المرفأ
رسم رائد شرف

في ظلّ الصمت المطبق على ملفّ التحقيق في جريمة تفجير المرفأ، أبطل مجلس شورى الدولة في تاريخ 7/11/2023 القرار الصّادر عن وزير الداخلية والبلديات بسام المولوي في تاريخ 22/9/2021 القاضي بعدم تبليغ الأوراق القضائية الصادرة عن المحقّق العدلي في الجريمة طارق بيطار من قبل الضابطة العدلية التابعة لوزارة الداخلية. وكان المولوي أصدر قراره المذكور بناء على طلب المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي بعد أن طلب بيطار تبليغ دعوة للمسؤولين المدّعى عليهم في القضية (رئيس الوزراء السابق حسان دياب والوزراء السابقون نهاد المشنوق وغازي زعيتر وعلي حسن خليل). وقد صدر القرار عن الهيئة المؤلّفة من رئيس المجلس القاضي فادي إلياس والمستشارين كارل عيراني وهبة أنطون بريدي بناء على الطعن المقدّم من قبل مكتب الادّعاء في نقابة المحامين في بيروت بالوكالة عن أحد المدّعين في قضية التفجير ضدّ الدولة اللبنانية. وكانت “المفكّرة القانونية” قد اعترضتْ بدورها على قرار المولوي الذي اعتبرتْه إحدى الممارسات التعسّفية التي استخدمتها السلطة السياسية لتعطيل التحقيق في ملف تفجير المرفأ من خلال تجريد القضاء العدلي من أذرعِه التنفيذية عبر إخضاعها هي الأخرى للقرار السياسي.

وتكمن أهمّيّة القرار في أنّه يعدّ الاستجابة الأوّلى لمجلس شورى الدولة إلى الطعون الرامية لوقف التعطيلات المستمرّة في قضية التفجير، خلافًا للوجهة التي كان سلكها في المراجعتين المقدّمتين من قبل مجموعة من الضحايا طعنًا في القرار الصادر عن المحامي العام التمييزي (عماد قبلان) برفض إعطاء الإذن بملاحقة المدير العام لأمن الدولة طوني صليبا والمدير العام للأمن العام في حينه عباس إبراهيم. وكانت المستشارة المقرّرة، القاضية فاطمة الصايغ عويدات، خلصتْ في تقريريْها الصّادرين في تاريخ 1/3/2023 إلى وجوب ردّ الطعنين لعدم صلاحية المجلس للنظر بها لاعتبارها من القرارات ذات الصفة القضائية وليس الإدارية، علماً أن رئيس المجلس القاضي فادي إلياس كان قد أحال الطّعنين إلى مجلس القضايا داخل مجلس شورى الدولة.

وقبل إبداء ملاحظاتنا على القرار، نسارع إلى القول إنّه كرّس في معرض دحض جميع الحجج القانونية التي استند إليها وزير الداخلية مبادئ قانونيّة هامّة، قد يكون لها دورٌ استراتيجيّ عند إعادة إحياء ملف التحقيق العدليّ وفي تفعيل دور القضاء الإداريّ في تأمين حسن سير العدالة.

وجوب التوسّع في قبول المصلحة ضمانا لشرعيّة القرارات الإدارية

أكّد المجلس على وجوب توسيع نطاق مصلحة المدّعي في قضاء الإبطال أي الدعاوى التي تهدف إلى إبطال قرار إداري لتجاوز حدّ السلطة وإخلاله بالشرعية، معتبرًا أنّه يعود للقاضي الإداري سلطة تقدير توافر هذه المصلحة في كلّ قضية تعرض عليه. وأكّد أنّ المجلس يميل إلى التوسّع كثيرًا في مفهومه للمصلحة، ليخلص إلى أنّ صفة المدعي كفريقٍ مدّعٍ في جريمة تفجير المرفأ، وتضرّره من عجز المحقق العدلي عن الاستعانة بقوى الأمن الداخلي لإبلاغ السّياسيّين المذكورين، تمنحانه المصلحة في طلب إبطال قرار وزير الداخلية.

وفي إطار ردّه على حجج وزير الداخلية التي ساقها لنفي مصلحة المدّعي في الادعاء والتي تمثّلت في كون القرار المطعون فيه لم يرتّب أيّ ضرر عليه كون عملية التبليغ قد تمت بصورة لاحقة من قبل المباشرين في وزارة العدل، اعتدّ مجلس الشورى بمفهوم الضّرر المستقبلي المحتمل، متوسّعًا في تفسيره لمدلول الضرر. فيكفي بالنسبة للقاضي أن يكون هناك إمكانية لحصول الضرر واحتمال إفادة الطاعن في المستقبل من إبطال القرار المطعون فيه حتى ولو لم يكن من المؤكد أنّ إبطال القرار من شأنه أن يكسب الطاعن نفعًا عاجلًا وأكيدًا. ومن هنا، وجد القرار أنّه وإن كان التبليغ قد تمّ لاحقًا بواسطة مباشرين في وزارة العدل، فإنّ ضررًا قد يلحق بالمدّعي من جرّاء هذا القرار مستقبلًا، على اعتبار أنّ دعوى تفجير المرفأ لا تزال في مرحلة التحقيقات وأنّ تبليغات لاحقة ستصدر عن المحقّق العدلي.

يُسجّل هنا أنّ المقاربة التي عالج فيها مجلس الشورى مسألة المصلحة والصفة والضرر تشكل موقفًا إيجابيًا في سياق المساعي المبذولة من أجل توسيع الاعتراف بالصفة والمصلحة كضمانة أساسية لشرعيّة القرارات الإدارية.

الامتناع عن تنفيذ قرارات المجلس: تعطيلٌ مزدوجٌ للعدالة

لم تكتفِ وزارة الداخلية بعرقلة العدالة من خلال إصدار الوزير قراره برفض إبلاغ السياسيين، بل عطّلتها مرّة ثانية من خلال امتناعها المتمادي عن إنفاذ قرارين إعداديّين صدرا عن مجلس الشورى بتكليفها إبراز كتاب المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي الذي وضعه الوزير كمرجع في قراره المطعون فيه.

وبلغةٍ جازمة، أكّد المجلس أنّه “عندما يصدر القاضي أو الهيئة الحاكمة قرارًا باسم الشعب اللبنانيّ يكلّفان من خلاله الدولة إبراز مستند أو أمرًا معيّنًا، فإنّ هذا القرار ليس مجرّد تمنٍّ على الإدارة أو مراسلة داخلية أو طلب إداري، بل هو قرار ملزم لها وواجب التنفيذ ولا يعود للإدارة ترف واستنساب تنفيذه من عدمه”.

وعلى هذا الأساس، اعتبر المجلس أنّ تصرّف وزارة الداخلية السلبي على هذا النحو واستمرار تجاهلها قرارات المجلس عمدًا وتمنّعها عن إنفاذها إنّما يعيب حسن سير العدالة، ويعدّ تمنّعًا عن تسهيل سير المراجعة كخصم شريف، يحمل في طيّاته قرينة جدّية وأكيدة على صحة إدلاءات المستدعي، ويُفقد دفوعات الدولة ووسائل دفاعها كل ركيزة مادية.

يُضاف هذا الموقف الحاسم للمجلس، إلى جملة من القرارات التي سبق أن اتخذها في السابق ردًّا على تخلّف الإدارة عن تنفيذ قراراته وتجاهلها لها، نذكر منها قراره الصادر بشأن تسليم المعلومات المتعلّقة بسدّ المسيلحة الذي أكّد فيه على أنّ القرار الصادر باسم الشعب اللبناني بوجه الإدارة العامة له قوة الإلزام وواجب التنفيذ من قبلها، وكذلك قراره الصادر بإبطال قرار الأمن العام بمنع باحثين من الدخول إلى لبنان بعد امتناع الأخير عن إبراز المستندات المتعلّقة بقرارات منع الدخول، والذي اعتبر فيه أن التذرّع بـ “ضرورات أمنية” لا يبرّر رفض تنفيذ طلبات القضاة بإبراز الملف الإداري.

سلطة الوزير والضابطة العدلية الاستنسابية ليست مطلقة

اعتبرت وزارة الداخلية في ردّها على المراجعة أنّ الوزير استخدم سلطته الاستنسابية وفقًا للمادة 210 من قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي[1] لجهة صلاحيّة تقريره بتنفيذ التبليغات، وأنّ قيام قوى الأمن الداخلي بالتبليغات هو من قبيل التعاون مع السلطات القضائية ويرمي إلى تسيير وتسهيل عملها وهو ليس بأيّ حال من الأحوال موجبًا ملقىً على عاتقها، وبأنّ القرار المطعون فيه اتخذ بناء على كتاب من مدير عام قوى الأمن الداخلي ذكر فيه أنّه يستشعر في حال تنفيذ التبليغات وقوع ضرر على المديرية وإدخالها في تجاذبات سياسية قد تؤثر على استقلاليتها ومبادئها.

في المقابل، اعتبر المجلس أنّ “الوقائع التي استند عليها القرار المطعون فيه من شأنها أن تشكّل سابقةً خطيرة في تنفيذ الضابطة العدلية للمذكرات والاستنابات والتبليغات الصادرة عن القضاء، إذ إنّ إعطاء الصلاحية للضابطة العدلية بتقدير الوضع السياسي وملاءمته لتقرير تنفيذ الاستنابات والتباليغ الصادرة عن الجهات القضائية المختصّة يخرج بالكامل عن صلاحيّتها المنصوص عنها في القانون ومن شأنه أن يؤدّي إلى عرقلة سير العدالة وشلّ مرفق القضاء العدلي في كلّ مرّة تتذرّع الضابطة العدلية بأنّ تنفيذ الأوامر القضائية من شأنها أن تدخلها في تجاذبات سياسية تؤثّر على حياديّتها”. 

كما أسهب القرار في دحض حجّة وزير الداخلية لجهة استخدامه صلاحيته التقديرية، معتبرًا أنّ هذه السلطة  ليست اعتباطية أو كيدية يمارسها كيفما شاء، بل يجب أن تمارس ضمن حدود مبدأ الشرعية ووفقًا لأسباب واقعية أو قانونية أو مادية تبرّرها. وهي القواعد التي أخلّ وزير الداخلية بها وفق مجلس شورى الدولة.

ورغم أنّ هذه الحيثيات كافية لنزع الشرعية عن قرار وزير الداخلية، إلّا أنّه كان يؤمل لو أنّ المجلس كان أكثر حسمًا في رد سائر الحجج التي أثارتها الدولة في ردودها، من منطلق موقع السلطة القضائية كسلطة دستورية في كلّ ما يتّصل بوظائفها، منعًا لأية محاولة مستقبلية مشابهة لتعطيل سير العدالة والتأثير في الملفات القضائية. كما كان يؤمل أن تحظى الحجّة المثارة من وزارة الداخلية بوجوب تعليق تنفيذ التدابير القضائية إلى حين إنشاء المفارز الأمنية الخاصّة المنصوص عنها في المادة 147 من قانون أصول المحاكمات الجزائية ما تستحقّ من ردّ لناحية التقصير الفادح من السلطة التنفيذية في تنفيذ موجباتها في هذا الخصوص.

خلاصة

بالإضافة إلى المفاعيل المهمّة التي يرتّبها هذا القرار على مستقبل التحقيق العدلي في قضية تفجير المرفأ، على اعتبار أنّه تمكّن من إزاحة إحدى الحجارة في جدار الإفلات من العقاب، فإنّه يؤكّد مرّة أخرى على تهافت الحجج والمبرّرات القانونية التي ما برحت السلطة السياسية وجزء من السلطة القضائية تبتدع في اجتراحها لغاية تعطيل التحقيق ومنع الضحايا وأهاليهم من الوصول إلى العدالة.

وعليه، بات يجب البحث جدّيًا، بالإضافة إلى محاسبة من تسبّبوا في تفجير المدينة وقتل سكانها، في محاسبة من عرقل التحقيق وعطّل سير العدالة، خصوصًا ممّن أساء استعمال سلطته وأخلّ بواجباته الدستورية والوظيفية متعدّيًّا صلاحياته ومتدخّلًا في عمل السلطة القضائية، وإن ألبس ما اقترفه لبوس القانون. وإلّا، بعد أن نجحوا في تأخير العدالة، فسوف ينجحون في قتلها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني