مجلس شورى الدولة: التدقيق الجنائي ليس سريًّا


2023-07-18    |   

مجلس شورى الدولة: التدقيق الجنائي ليس سريًّا

أسقط مجلس شورى الدولة في القرار الصادر عن القاضي الإداري كارل عيراني بتاريخ 17/7/2023 صفة السرية عن التدقيق الجنائي الذي تقوم به شركة ألفاريز آند مارسال في حسابات الدولة اللبنانية. القرار أصدره القاضي عيراني وفق الأصول المستعجلة في معرض البتّ بالمراجعة المقدمّة من “المفكّرة القانونية” نيابة عن “الائتلاف من أجل المحاسبة وعدم إفلات الجرائم المالية من العقاب” المؤلّف من “كلنا إرادة” و”جمعية الشفافية الدولية لبنان-لا فساد” و”الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين” ALDIC و”المفكرة القانونية” و”مرصد حقوق المودعين” و”مرصد الوظيفة العامة والحكم الرشيد في جامعة القديس يوسف”. وكان الائتلاف سبق أن تقدّم بكتاب إلى وزارة المالية طالبًا تسليمه المعلومات المتعلّقة بمصير التدقيق الجنائي سنداً لقانون الحق في الوصول إلى المعلومات، في إطار المبادرة التي أطلقها لتحديد المداخل الأساسية لمساءلة المسؤولين عن الانهيار الاقتصادي والمالي ومحاسبتهم.

خلص القرار إلى إلزام وزارة المالية بتسليم “المفكّرة” المعلومات المتوافرة لديها وأي مستند مفيد يتعلق بالواقع الراهن بالنسبة لمراحل تنفيذ عقد التدقيق الجنائي مع شركة “ألفاريز آند مارشال” وكل ما هو مفيد من معلومات وتفاصيل لهذه الغاية، وذلك بصورة فورية ودون إبطاء. وسبق للدولة، ممثلة بهيئة القضايا في وزارة العدل (كولبرت عطية)، أن رفضت طلب تسليم المعلومات والمستندات المطلوبة، متذرّعة بحجج ردّها القرار جميعها لعدم قانونيتها، وهي الحجج التي كانت “المفكرة” نشرت تفنيدًا يدحضها ضمن الوجهة نفسها التي اعتمدها القرار قبل أن تتبلّغه. ومن أبرز هذه الحجج التي أثارتها الدولة أن نشر التقرير يمس بالأمن القومي المالي. 

نعرض في ما يلي أبرز النقاط القانونية التي استند إليها قرار القاضي عيراني:

حجب التقرير هو ما يعرّض “الأمن القومي المالي” للخطر

أكّد القرار أنّ الحظر المنصوص عليه في المادة الخامسة من قانون الحق في الوصول إلى المعلومات يجب أن يُفسّر بصورة ضيقة، وألا يُترك للإدارة تحت ستار التفسير الواسع، الاستنساب في رفض طلبات الحق في الوصول إلى المعلومات، معتبرًا أن تعداد المستندات المحظور نشرها هو حصري ومحدد، وأن من شأن التوسّع في تفسير القانون أن يؤدي إلى تعطيل تطبيقه في كل مرة ترتئي الإدارة عدم تسليم المعلومات المطالب بها.

بناءً على ذلك، رأى القرار بأن مفهوم “الأمن القومي المالي” الذي استندت إليه الدولة في تبريرها رفض تسليم المعلومات والمستندات هي عبارة جديدة أضافتها الدولة إلى القانون الذي خلا تماما من أي ذكر لها. ثم ذهب القرار إلى ما هو أبعد من ذلك. فبمقاربة تنمّ عن تمسك بالمبادئ القانونية العامة وغايات التشريع ومقتضيات العدالة، اعتبر القرار أنه على العكس من ذلك تماما أنّ رفض تسليم المعلومات المتعلّقة بالمراحل التي وصل إليها التحقيق الجنائي والنتائج التي توصّل إليها هو الذي من شأنه أن يعرّض الأمن القومي المالي للخطر، لما يمثلّه هذا التدقيق من أهمية لجميع اللبنانيين في ظل الوضع الاقتصادي والأزمة المالية التي أصابت البلاد برمتها وأدّت إلى الانهيار المالي.

التدقيق الجنائي ليس تحقيقًا قضائيًا ولا مستندًا تحضيريًّا

ضمن نفس المقاربة التي عرضتها “المفكرة” في مذكرة سابقة  تعليقا على جواب الدولة على مراجعتها، أكّد القرار على أنّ نصّ الفقرة 1 من البند ب من المادة 5 من قانون الحق في الوصول إلى المعلومات التي تحظر نشر وقائع التحقيقات القضائية لا ينطبق على وقائع التدقيق الجنائي، وذلك لأن المادة المذكورة تتعلق بواقع تحقيقات قضائية قبل تلاوتها في جلسة علنية، ولا علاقة لطلب المستدعية به. واعتبر القرار أن طلب “المفكّرة” يقصر على الحصول على معلومات إدارية غير مرتبطة على الإطلاق بأي تحقيقات قضائية أو دعاوى عالقة لدى المحاكم، مؤكّدًا على وضوح النصّ الذي لا يحتاج لأي تفسير أو تأويل، خلافًا للالتباس الذي خلقته الدولة لتبرير تنصّلها من إنفاذ واجباتها.

كما دحض القرار ما تذرّعت به الدولة في جوابها حول اعتبار تقرير التدقيق الجنائي ذي طابع تحضيري غير منجز، مؤكّدًا أن طلب المستدعية لا يتعلق بمعاملة إدارية غير منجزة أو مستند تحضيري، بل ينص على تزويدها بالمعلومات العائدة لمراحل تنفيذ عقد التدقيق الجنائي والإفادة من مصيره، وهذا الأمر يخرج عن مفهوم الفقرة 4 من البند ب المادة 5.

الكشف عن تقرير التدقيق الجنائي حقٌّ للمجتمع وواجب على الدولة، فهل تنفذ وزارة المالية؟  

سلّط القرار الضوء على واجبات الدولة اللبنانية المتمثلة بإعلام المواطنين عن المراحل التي وصل إليها تقرير التدقيق الجنائي من تلقاء نفسها، خصوصًا بعد انتهاء كل المهل الملحوظة بالعقد، أو أقله إعلامهم بالعوائق التي تحول دون إنجازه، وهذا حق لهم، خصوصًا أنه “من المفترض أن يؤدي هذا التدقيق إلى كشف الأسباب الواقعية والقانونية والمستترة التي أدت إلى الانهيار المالي للاقتصاد اللبناني”. وهذا التفسير، يتناسب مع الأسباب الموجبة لقانون الحق في الوصول إلى المعلومات والغاية المتوخاة منه كما سياقه العام، ويؤكّد أنّ أحكامه هي قواعد إلزامية جاءت لتكريس حقوق أساسية للمواطنين لا يمكن تقويضها أو الـمساس بها تحت أي ظرف.

وإذ يُسجل للقضاء الإداري في قراره هذا، بأنه خلق مرجعًا قانونيًا يُسقط معظم الحجج التي تتذرّع بها الجهة التي تتستّر على تقرير التدقيق الجنائي وسائر المستندات المتعلّقة به، وبالتالي أفرغ من جعبتها سلاحًا لطالما أشهرته بوجه المطالبين بالكشف عنه. ولكن يبقى للمعركة فصولٌ أخرى تتعلّق بالتزام وزارة المالية بتنفيذ هذا القرار وتكريس المبادئ التي أقرّها وحمايتها أيضًا.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم إدارية ، قرارات قضائية ، الحق في الوصول إلى المعلومات ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني