متعلِّقات ومتعلِّقون بدستورنا


2022-01-27    |   

متعلِّقات ومتعلِّقون بدستورنا

يحيي الشعب التونسي اليوم، الخميس 27 جانفي 2022، الذكرى الثامنة لختم وإصدار دستور 27 جانفي 2014، دستور الجمهورية التونسية الثانية، وذلك في ظل حالة الاستثناء التي أُعلِن عنها منذ يوم 25 جويلية الماضي، والتي آلت حتّى الآن إلى إبقاء التوطئة والبابين الأول والثاني منه فقط، وإلى تعليق اختصاصات وإلغاء بعض المؤسسات التي نصَّ عليها. وإذ نأسف لما آلت إليه الأوضاع الدستورية في بلادنا في الظرف الراهن، فإنه يهمّنا التذكير بهذه المناسبة بالحقائق الآتية. 

للتاريخ: الدستور دستورنا جميعا 

1-تمّت صياغة دستور 27 جانفي 2014 من قِبَل المجلس الوطني التأسيسي طيلة حوالي عامين امتدّا من شهر فيفري 2012 إلى 26 جانفي 2014. 

وقد انبثق المجلس الوطني التأسيسي عن الانتخابات التأسيسية التي جرت يوم 23 أكتوبر 2011 والتي مثَّلت بدورها تتويجا لمسار المرحلة الانتقالية الأولى عقب ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011، وما تلاها من شغور في رئاسة الدولة ونوع من الفراغ الأمني وخلافات سياسية بين مختلف الفاعلين واضطرابات اجتماعية وأزمة مجتمعية… تُعتبَر كلها “عادية” في سياق ثوري. 

2-وقد شكّل اعتصام القصبة الذي انتظم بين 21 فيفري 2011 و 3 مارس 2011، خلاصة هذا المسار الثوري، إذ شارك فيه آلاف المواطنين والمواطنات. وقد بلغ الاعتصام ذروته يوم الجمعة 25 فيفري 2011 حيث توافد على ساحة القصبة عشرات آلاف التونسيين والتونسيات من مختلف أنحاء البلاد، من الجهات كما من العاصمة، ومن كل التوجهات والحساسيات والقوى والألوان الإيديولوجية والسياسية والحزبية والنقابية والمدنية، ومن مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية والعمرية… المؤمنة بالثورة والمعتنقة لقيمها الديمقراطية- المواطنية- الاجتماعية من كرامة وحرية ومساواة وعدالة اجتماعية وحق الجميع في المشاركة في إدارة الشأن العام، ولِما من المفروض أن تكون قد جاءت به من حقوق مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية غير قابلة للتجزئة. 

كانت مطالب المعتصمين والمعتصمات واضحة، حيث طالبوا أولا باستقالة الحكومة الممسكة آنذاك بزمام الأمور، حكومة محمّد الغنوشي الثانية باعتبارها من بقايا النظام القديم؛ وثانيا بانتخاب مجلس وطني تأسيسي لصياغة دستور جديد للبلاد؛ وثالثا باعتماد نظام برلماني باعتباره خير واقٍ ضدّ “عودة الاستبداد والانفراد بالسلطة”. كما طالبوا، على المستوى الإجرائي الفوري، بتمكين الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي كانت قد أُحدِثت قبل أيام بمقتضى المرسوم عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 18 فيفري 2011، من الإشراف على مسار الانتقال الديمقراطي إلى حين انتخاب مجلس تأسيسي، وذلك نظرا لما تتمتّع به من تمثيلية عالية للقوى المؤمنة بالثورة، وباعتبارها إطارا جامعا لهذه القوى على اختلاف توجّهاتها، ضرورة أنّ “الثورة كانت شعبية ولم يكن لها قيادة”، وهو المبدأ التأسيسي الذي ساد تلك المرحلة، وشكَّل الذهنية السياسية التونسية، بما فرض “التوافق” على “الجميع” أي على أغلب قوى الثورة، كمبدإ تأسيسي ثان ناتج بالضرورة عن الأول، مضمونه مراعاة التعدّد والاختلاف كأمر واقع وكقيمة ديمقراطية. 

كُلِّل الاعتصام بالنجاح وتمّت الاستجابة لمطالب المشاركات والمشاركين فيه. فكان المسار جامعا، ولم يبقَ خارجه إلا بعض القوى سواء غير المؤمنة بالثورة أو الثورية القصووية أو الإسلاموية. 

3- مثَّل إذن انتخاب مجلس وطنيّ تأسيسي لصياغة دستور جديد للبلاد بدلا عن دستور غرة جوان 1959، استجابة لمطلب شعبي- ثوري جارف.  

4- رغم الخلافات والتوتّرات التي خيّمت على جلسات الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، فقد نجحتْ في “إدارة” المرحلة الانتقالية الأولى، إذ أنها صاغت النصوص القانونية التي اعتبرت من مطالب الثورة مثل المراسيم المتعلّقة بتنظيم الأحزاب والجمعيات وحرية الصحافة والطباعة والنشر وحرية الاتصال السمعي والبصري… وكذلك تلك التي اقتضتها المرحلة والتي تمّ بفضلها تأمين الانتقال السياسي، وخاصة منها المرسوم عدد 27 لسنة 2011 المؤرخ في 18 أفريل 2011 المتعلق بإحداث هيئة عليا مستقلة للانتخابات التي كانت تركيبتها المنتخبة من قِبَل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة متماشية مع التوجه الحداثي؛ وكذلك المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرّخ في 10 ماي 2011 المتعلّق بانتخاب المجلس الوطني الـتأسيسي، الذي تمّ فيه اعتماد مبدإ ثوري، هو مبدأ التناصف العمودي بين النساء والرجال على مستوى القائمات المترشِّحة للانتخابات التأسيسية. هذا المبدأ الثوريّ تمّ تكريسه آنذاك نتيجة نضالات الحركة النسوية التونسية. أمّا نظام الاقتراع الذي تمّ اعتماده في هذا المرسوم، فهو نظام التصويت على القائمات في دورة واحدة مع توزيع المقاعد في مستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا. وقد صرّح حينها الناطق الرسمي باسم الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة لوسائل الإعلام بأنه وقع اعتماد هذا النظام لأن من شأنه ألا يفرز أغلبية بالمجلس التأسيسي وحتى لا يغلب أيّ طرف على أيّ طرف آخر أثناء عملية سنّ الدستور، ولا ينفرد بالتالي بهذه العملية التأسيسية ضرورة أنّ الدستور يجب أن يكون توافقيا ومعبِّرا عن إرادة أغلبية التونسيات والتونسيين؛ مشدِّدا في الآن ذاته على أنّ نظام الاقتراع هذا “ذو استعمال وحيد” أي أنه صالح فقط للانتخابات التأسيسية. 

وفي الواقع، فقد تمّ إقرار نظام الاقتراع هذا نتيجة الضغط الذي مارسه الحداثيون والحداثيات داخل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة وخارجها كي لا ينفرد الإسلاميون بصياغة الدستور الجديد، علما أنّ كل المؤشرات الإحصائية الانتخابية كانت تدلّ على اختلال موازين القوى الميدانية لفائدة المتأخرين في الذكر. 

5- يوم 23 أكتوبر 2011 ورغم ضعف إمكانياتها المادية والبشرية وبعض الصعوبات اللوجستية والأمنية وعزوف المواطنات والمواطنين عن التسجيل في قائمات الناخبين في بداية المسار الانتخابي، نجحتْ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات المنبثقة عن الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، في تنظيم انتخابات تأسيسية حرة وشفافة ونزيهة وديمقراطية وتعددية، وذلك بشهادة الجمعيات التونسية والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية المتخصصة في المجال الانتخابي. 

6- كانت نسبة المشاركة في تلك الانتخابات مقبولة عموما بالنسبة لأول انتخابات ديمقراطية تنتظم في تاريخ البلاد حيث ناهزت الـــ 60%  من المسجّلات والمسجلين على القائمات الانتخابية. 

وقد فازت حركة النهضة بـــ 40% من الأصوات المصرَّح بها وكذلك من مقاعد المجلس الوطني التأسيسي بـــ 89 مقعدا من 217. وحلّت العريضة الشعبية وهي ائتلاف انتخابي ذي توجّه شعبوي محافظ، في المرتبة الثانية من حيث عدد الأصوات المتحصَّل عليها، وفي المرتبة الثالثة على مستوى المقاعد بالمجلس بـــ 26 مقعدا. وهذا ما يعني عموما فوز التيارات الإسلاموية المحافظة بالأغلبية المطلقة من أصوات التونسيات والتونسيين ومن مقاعد المجلس. 

أمّا القائمات الممثِّلة للتيارات الحداثية والديمقراطية والتقدمية، فقد دخلت تلك الانتخابات منقسمة، فتشتّت أصوات ناخباتها وناخبيها، وضاعتْ هباء منثورا. ولم تفز إلا بحوالي خمس(1/5)  مقاعد المجلس إذا استثنينا منها ما تحصّل عليه حزب التكتل من أجل العمل والحريات. 

بالتالي، وجد الحداثيون والحداثيات أنفسهم في المجلس في وضعية صعبة. وقد تعمّق تشتّتهم بالفصل بين المسار التأسيسي والمسار الحكومي بانضمام التكتّل والمؤتمر من أجل الجمهورية إلى حركة النهضة وتشكيل “الترويكا” الحاكمة. 

7- ورغم ذلك كله، فقد استبسلت الكتلة الديمقراطية المتكوّنة من الأحزاب والمستقلّين حداثيين، في الدفاع عن التوجه الحداثي على المستوى التأسيسي. وانضمّ إليها في هذا التوجه عددٌ من نواب التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية اللذين انقسما وتشتتا غداة تكوين الترويكا. 

8- نجحت الكتلة الديمقراطية داخل المجلس والحداثيون والحداثيات خارجه، في فرض مسار تأسيسي تشاركيّ على حركة النهضة. ومثَّلت عبارة “ضرورة التوافق” السلاح الذي استخدمه الحداثيون والحداثيات في المعركة التأسيسية. أمّا على المستوى الاتصالي، فقد استخدمت التيارات الحداثية عدة أسلحة لفرض الخيارات الحداثية على حركة النهضة في نص الدستور؛ ومن بين هذه الأسلحة، الانسحابات المتكررة من المجلس والوقفات الاحتجاجية أمامه والمسيرات الشعبية الحاشدة والاعتصامات… 

9- رغم الخلافات والخصومات والتوترات التي خيّمت على أعمال المجلس الوطني التأسيسي بصفته سلطة تأسيسية، فإنّ المسار التأسيسي الذي امتدّ على عامين من شهر فيفري 2012 إلى 26 جانفي 2014، كان مسارا تشاركيا وتوافقيا، إذ استقبلت مختلف اللجان التأسيسية بالمجلس عديد الخبيرات والخبراء في القانون الدستوري وفي غيره من مجالات التخصص القانوني، وكذلك ممثّلات وممثّلي الجمعيات المدافعة عن حقوق الانسان بمختلف أجيالها وتعبيراتها؛ وأصغت هذه اللجان إليهم في “جلسات استماع” استغرقت مئات الساعات؛ وتناقش أعضاؤها وعضواتها معهم، وتبادلوا وجهات النظر حول المسائل المتصلة بإعداد الدستور. 

كما نظّمت اللجان التأسيسية عدّة لقاءات خارج مقرّ المجلس مع عضوات وأعضاء مخابر البحث في كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية ومع ممثّلات وممثّلي جمعيات ومنظمات المجتمع المدني للتباحث حول الإشكاليات الدستورية والحقوقية المطروحة في تلك المرحلة. 

وفي أعقاب اعتصام الرحيل الذي انتظم بساحة باردو من أواخر شهر جويلية إلى منتصف شهر أوت 2013، غداة اغتيال الشهيد محمّد البراهمي يوم 25 جويلية 2013، نظّم المجلس التأسيسيّ الحوار الوطني مع المواطنات والمواطنين ومع ممثّلات وممثّلي جمعيات ومنظّمات المجتمع المدني في كلّ أنحاء البلاد للاستئناس بآرائهم واقتراحاتهم حول مختلف المسائل المتعلّقة بمضمون الدستور موضوع الإعداد. لقد كان الحوار الوطني بمثابة الاستشارة الشعبية المباشرة التي شارك فيها آلاف التونسيين والتونسيات. وفي نفس الوقت، تشكّلت صلب المجلس “لجنة التوافقات” التي ضمّت نائبات ونواب من مختلف الكتل التأسيسية للحسم في المسائل الخلافية في الدستور الواقع صياغته. وقد توصّلت هذه اللجنة بالفعل لحسم الخلافات بين الشق المحافظ والشق الحداثي. وعموما، كانت “الغلبة” للحداثيات والحداثيين الذين فرضوا عدة تنازلات على الشق المحافظ ذي الغلبة العددية. 

10- تمّت المصادقة على الدستور برمّته من قِبَل المجلس الوطني التأسيسي في جلسته العامة المنعقدة بتاريخ 26 جانفي 2014. وقد حظي بقبول مائتي نائب ونائبة، فيما لم يعترض عليه سوى أربعة نواب، في حين احتفظ ستة عشر نائبا بأصواتهم. وتجدر الإشارة إلى أنّ جلّ النواب المعترضين على الدستور والمحتفظين بأصواتهم، ينتمون للتيار الإسلاموي المتشدد والمحافظ سواء من حركة النهضة أو من تيار المحبة الذي عوّض العريضة الشعبية. 

11- خلافا لما أصبح يشاع منذ حوالي سنتين، فإنّ دستور 27 جانفي 2014 الذي صاغه المجلس الوطني التأسيسي الذي انتُخب استجابة لمطلب شعبي قوي، لم يكن دستور حركة النهضة، بل إنه كان ثمرة عملية تشاركية ساهمت وشاركت فيها جلّ القوى السياسية والمدنية والمعرفية (الخبراء) بالبلاد، فآلت إلى نص توافقي ذي مضمون جيد. 

لقد شابت عدة شوائب تجربة المجلس الوطني التأسيسي على مستوى الحُكم أي على مستوى توزيع السلطات واقتسامها بين مكوِّنات الترويكا والتحالف بينها وتوزيع الصلاحيات بين رئاسة الدولة والحكومة وممارسة السلطة التشريعية وتسيير دواليب الدولة والإدارة اليومية لشؤون البلاد، وتقسيم المجلس بين حُكم ومعارضة، والذي كان لا بدّ منه بالنظر لنتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011… أمّا على المستوى التأسيسي أي على مستوى مسار وضع الدستور، فقد كانت تجربة المجلس ثريّة ومفيدة وذلك رغم ما اعتراها من توتّر وتشنّج… فقد آلت في نهاية المطاف إلى سنّ دستور توافقي اعتُبِر في حينه مقبولا من جميع “الأطراف” المتخاصمة ومن جلّ المواطنات والمواطنين المهتمين بالشأن العام. 

لقد تجاوز المجلس التأسيسي مدّة العام التي التزم بها، في شهر سبتمبر 2011، رؤساء “أبرز” الأحزاب المترشحة للانتخابات وأمناؤها العامّون، واعتُبِروا من قِبَل الرأي العام حينها مخلّين بالتزام أخلاقي وسياسي. ولكن، واقعيا، هل كان من الممكن بالفعل إنجاز دستور في ظرف عام واحد؟ بل إنّ مدة العامين التي استغرقها إعداد الدستور، هل كانت كافية؟ ألم تكن قصيرة نسبيا في ظل وضع سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي متوتّر ودقيق؟ ألم يكن من الأجدى إضافة بضعة أشهر أخرى حتى يقع التثبت أكثر في مضمون الدستور؟

12- ومع ذلك، فقد كان مضمون دستور 27 جانفي 2014 مقبولا. 

دستور ذو مضمون مقبول 

المجلس الدستوري التونسي بعد المصادقة على الدستور الجديد للبلاد (2014) | AFP PHOTO / STR

13- رغم عديد الهنات التي شابت محتوى الدستور، فيمكن اعتباره عموما مقبولا. 

14- أوّلا، تجدر الإشارة في باب محتوى الدستور إلى أنّ عدّة أحكام تضمّنها الأخير كانت نتاج نضال وصمود الحداثيات والحداثيين في المجلس وخارجه أمام المد الإسلاموي المحافظ الذي كان يخيّم على البلاد حينذاك. 

فقد تصدّى الحداثيون والحداثيات لرغبة الإسلاميّين إدراج مفهوم “تعاليم الإسلام” في توطئة الدستور، وتمّ استبدالها بعبارة “مقاصد الإسلام المتسمة بالاعتدال والتسامح”. كما تصدّوا لعبارة “تكامل أدوارهما” أي الرجل والمرأة، وفرضوا الفصل 21 الذي ينص على مبدإ المساواة بين المواطنين والمواطنات. كما فرض التيار الحداثي إدراج الفصل 2 من الدستور الذي ينصّ على مدنية الدولة بعد أن رفضوا التنصيص على الشريعة كمصدر أساسي للقانون، وكذلك الفصل الذي كان ينص على أنّ “الإسلام دين الدولة”. وفرضوا الاعتراف بحرية الضمير كحق من حقوق الإنسان، وفرضوا أيضا الاعتراف بالعنف المسلّط على النساء وضرورة القضاء عليه… 

أمّا في بابي السلطة التشريعية والتنفيذية، فإنّ الحداثيات والحداثيين هم الذين فرضوا قاعدة انتخاب رئيس الجمهورية انتخابا عاما ومباشرا من قِبَل الشعب، واقتلعوا له أكثر ما يمكن من الصلاحيات بعد أن كان الرئيس في المشروع الأول للدستور المعلن عنه في شهر أوت 2012 له فقط دور شرفي وبروتوكولي بما أنه كان مقترحا أن يكون منتخبا من طرف المجلس النيابي أخذا بمقتضيات النظام البرلماني المحبّذ لدى حركة النهضة. 

15- غير أنّ هذا القول السابق لا يمنع من القول إنّ الدستور يتمتّع بمشروعية التوافق. 

16- أهم عامل، إذن، يضفي مشروعية على مضمون هذا الدستور، هو أنه كان نتاج توافق وطني. ولم يكن المقصود بالتوافق التوصل إلى حلول سياسية وسطى بين الأطراف المتنازعة، بل كان التوصل إلى خلاصة فكرية وقانونية للمواقف المتناقضة، وتجاوز لها. والفارق بين العمليتين شاسع، فالأولى سياسية شخصية وحزبية، أمّا الثانية، ففكرية وقانونية تقوم على التأليف بين المتناقضات قصد تجاوزها، بين المواقف لا بين المواقع والتموقعات بغاية الإبقاء عليها والاكتفاء بتأجيل الحسم فيها إلى حين تغيير قد يطرأ على موازين القوى. 

17- هذا الدستور كان خلاصة التناقضات وتجاوز لها، بل أكثر من ذلك: لقد كان يعكس الشخصية التونسية بما تحمله من تناسق في إطار تناقضاتها. 

ولعل مقولة “دستور مدني لشعب مسلم” أفضل مقولة تُعَبِّر عن روح الدستور. ففي باب السلطة التنفيذية مثلا، نجد صورة الرئيس -الأب المترفِّع عن التدخل في تفاصيل الحياة اليومية للدولة- العائلة، والذي لديه، مع ذلك، ما يكفي من الصلاحيات للتدخل عند الاقتضاء. كما نجد صورة رئيس الحكومة -الشاب-النشيط الذي “يتصرّف” في تفاصيل الحياة اليومية. وهذا انعكاس لنوع من الأبوية الطاغية على مختلف أشكال التنظم في تونس من أحزاب وجمعيات وعائلات ومؤسسات اقتصادية… 

18- مضمون الدستور عموما مقبول رغم بعض الهنات التي لم يتردّد عدد من الشخصيات الحداثية في إثارتها والمناداة بضرورة إصلاحها. 

ولكنّ هذا الاعتبار لا يعني أنّ الدستور يعطِّل ويمنع من ممارسة الحكم، وذلك خلافا لما تردّد على عدّة ألسن طوال السنوات الماضية. وللتاريخ، يُعتبَر الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي هو صاحب هذه المقولة وذلك خلال الأشهر الأولى التي أعقبَتْ تَسلُّمه رئاسة الجمهورية. ثمّ اتّكأ عليها الرئيس الحالي ليخرج على أساسها تماما من الشرعية الدستورية. بينما دستور 27 جانفي 2014 لا يمنع إلا من التغوّل. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

عدالة انتقالية ، مؤسسات عامة ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، منظمات دولية ، حرية التعبير ، حرية التجمّع والتنظيم ، الحق في الحياة ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني