ما بعد إيقاف القاضي العكرمي عن العمل: قراءات متباينة لقرار أثار الجدل


2021-07-25    |   

ما بعد إيقاف القاضي العكرمي عن العمل:  قراءات متباينة لقرار أثار الجدل

بتاريخ 13-07-2021، قرر مجلس القضاء العدلي إيقاف وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس القاضي بشير العكرمي عن العمل وإحالة ملفه التأديبيّ على النيابة العمومية لتتبّعه من أجل ما نُسب له من إخلالات[1]. لم يبين المجلس ما هي الوقائع التي نُسبت للقاضي المعني والتي من شأنها أن تشكل جرائم بمفهوم القانون الجزائي في جانبه. كما لم يذكر ملخص أعماله ولم ينشر نصّ قراره وتعليله له.

بدا هنا أنّ المجلس الذي اضطرّ لإعلام العموم بنتيجة مداولته اختار أن يستند لما يسمّى بواجب تحفظ وسرية مفاوضة لينتهي لحجب ما زاد على ذلك من تفاصيل. وكانت ما اصطلح على تسميته محليا هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي[2] قد سبقت القرار إلى نشر مقتطفات من تقرير التفقدية سند المؤاخذة، كما تداول رواد شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام تصريحات للناطقين باسمها عمّا ينسب للعكرمي. كما كان جانب آخر من المتابعين بادر إلى نشر أجوبته عما نسب له وانبرى متحدثا عن زيف الاتهام. وقد جعل هذا الأمر المعلومة متاحةً لمن يرغب فيها لكن من دون مصدرها ودون ما يفترض في ذلك من دقة وموضوعية.

ما نسب للعكرمي: الحقيقة تأخذ لون قائلها

نشرت هيئة الدفاع[3] مقتطفات من تقرير التفقد ومقاطع فيديو قصيرة تشرح مضمونها. وأدى تداول الإعلام لعملها هذا لأن بات مضمونه في نظر المتابعين له حقائق ثابتة أكدت أن العكرمي كان طيلة فترة عمله كوكيل لجمهورية العاصمة يغطي على الإرهابيين ويحميهم بعدما كان قبل ذلك خلال فترة عمله على ملف الشهيد شكري بلعيد كقاضي تحقيق قد طمس الحقائق لغاية حماية الضالعين في الجريمة من السياسيين. كما تولّت ذات الهيئة فترة نظر المجلس في الملفّ الترويج لأخبار مفادها أن أعضاءه يتعرّضون لضغوط وتهديدات ومنهم رئيسة المجلس القاضية مليكة المزاري من قبل قضاة محسوبين على حركة النهضة. وما أن أُعلِن المقرر التأديبي حتى بادر المتحدثون باسم الهيئة إلى الاحتفاء بنصرهم وبرئيسة المجلس على شجاعتها، وليؤكدوا أنهم لن يتراجعوا في متابعة ملف المؤاخذة والذي كشف تورّط النهضة في الإرهاب كما قالوا منذ البداية.

في الجهة المقابلة، لم تمنعْ هيمنة خطاب الإدانة العكرمي وقد تأيّد بقرار المجلس المثبت له من بروز خطاب مضادّ منطلقه الوسط القضائي ووجد صداه في أوساط إعلامية. في هذا الإطار وفي تدوينة على صفحات التواصل الاجتماعي، كشف القاضي حمادي الرحماني[4] أن أعضاء مجلس القضاء انقسموا إلى نصفين فيما تعلق بالموقف من العكرمي: فسبعة منهم كانوا مع التصريح بانتفاء كل سبب للمؤاخذة فيما سبعة آخرون قالوا عكس ذلك وكانت لهم الغلبة لكون رئيسة المجلس كانت في صفّهم[5]. وأوضح الرحماني استنادا لهذا المعطى أن الإدانة كانت نتيجة لموقف سياسي بدليل حدة الاختلاف فيها. في إثر هذا، نشرتْ مواقع إعلامية[6] وشخصيات عامة جانبا من ردود العكرمي عن تقرير التفقد وتمسكت بكونها ردت الاتهام بالكامل وبكون المجلس خضع للحسابات السياسية لجانب من أعضائه فرضت قراره. وقد عزّز هؤلاء رأيَهم هذا بأن ذات المجلس وبعدما استمع لمرافعة العكرمي وتلقى مؤيداته في جلسة أولى، اضطر ليسائل التفقدية العامّة عن مؤيدات تقريرها وعن إجراءات مباشرتها لعملها. وقد اكتفت التفقدية تنفيذا لهذا الحكم التحضيري، بأن قدّمت صوراً من مؤيدات سبق وأضافها العكرمي من دون تعليل أو جواب عما ظهر من تعارض لبعض معطيات تقريرها مع الوقائع الثابتة[7].

زمن القضاء الصامت ولى: مجلس القضاء خسر معركة الشفافية .

أسند مجلس القضاء العدلي قرار إيقاف العكرمي عن العمل للفصل 63 من القانون المنظم له والذي ينصّ في فقرته الأخيرة على أنّه “إذا كانت الأفعال المنسُوبة للقاضي تشكّل جنحة مخلّة بالشرف أو جناية، فعلى المجلس القضائي أن يتّخذ قرارا معللا بإيقافه عن العمل في انتظار البتّ فيما ينسب إليه ويُحال الملف فورا إلى النيابة العمومية لاتخاذ ما تراه صالحا من إجراءات”. ولكن، وخلافاً لمنطوق هذا السند، لم يصدر قرار معلّل في الموضوع في تاريخه واكتفى بإصدار بيان مقتضب في الموضوع. وقبل ذلك وبعده، لم يتكلّم النّاطقون باسمه كما لم يصدر عنه أي موقف رسمي يبين صحة ما يتم تداوله بخصوص تعرض أعضاء من داخله لضغوطات وحول ما يقال عن تأثير الانتماءات الحزبية لأعضائه من غير القضاة على ما اتخذوا من مواقف خصوصا منهم أولئك الذين رجّح التصويت موقفهم.

وهنا دعم صمت المجلس ما يسود من شكوك حول موضوعية نظره في هذه القضية وغيرها من ملفات تأديب القضاة التي يكون فيها حضور للاعتبار السياسي. وأكد هذا الصمت أنه بات يعاني أزمة مردها عدم احترامه لحق الرأي العام في المعلومة. ويؤمل بالتالي أن يستخلص الدرس من هذه التجربة التي علمتنا أن زمن القضاء الصامت قد ولّى وأن الرقابة على عمل مجلس القضاء وفرض الالتزام بالشفافية عليه يظلان شرطاً ضرورياً لمنع تحوّله، هو الذي أناط به الدستور السهر على ضمان استقلال القضاء، إلى ساحة صراع للمتدخلين فيه.

 

  1. ورد في بيان صدر عن مجلس القضاء العدلي بتاريخ 13-07-2021 ” قرر مجلس القضاء العدلي المنتصب للتأديب بتاريخ اليوم الموافق ل 13 جويلية 2021 إيقاف القاضي السيد البشير العكرمي عن العمل في انتظار البت فيما ينسب إليه ويحال الملف فورا إلى النيابة العمومية لاتخاذ ما تراه صالحا من إجراءات عملا بأحكام الفصل 63 فقرة ثانية من قانون المجلس الأعلى للقضاء ”
  2. محامي القائمين بالحق الشخصي في قضية الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي .
  3. للاطلاع على صفحة هيئة الدفاع وبالتالي متابعة ما نشرت من تقارير وأشرطة فيديو ينقر هنا
  4. من ابرز قضاة الرأي التونسيين عرض بنضاله من اجل استقلالية القضاء قبل الثورة و بعدها .
  5. ورد في التدوينة التي تداولها رواد صفحات التواصل الاجتماعي ” التصويت على قرار إيقاف العكرمي عن العمل وإحالة ملفه على النيابة العمومية كان متساويا بين الموافقين والرافضين: 7 ضد 7 وكان صوت رئيسة المجلس مرجحا..وهذه بعض دلالاته وخفاياه:

    أولها: أن تورط العكرمي لم يكن أمرا بديهيا لمن اطلع على الملف لتكافؤ التصويت وصعوبة تمريره…ولم يكن محل اتفاق واسع ولا حتى أغلبية عددية: سبعة ضد سبعة!

    ثانيا: ستة (6) من بين الأعضاء السبعة الذين صوتوا ضد العكرمي هم من المجموعة الثابتة للطيب راشد بالمجلس وكانوا دائما في صفه ورفضوا دائما التصويت على إزاحته من خطته كرئيس أول لمحكمة التعقيب وإيقافه عن العمل رغم رفع الحصانة عنه وتجميد عضويته بالمجلس وتوجيه التهم الجنائية عليه…هؤلاء هم أنفسهم من قرروا اليوم إيقاف العكرمي عن العمل وإحالة ملفه على النيابة العمومية بعد أن قرروا فجأة مكافحة الإرهاب!

    ثالثا: لا أحد من الذين صوتوا ضد العكرمي تُعرف له غيرة على العدالة ولا تاريخ مدافع عن استقلال القضاء والقضايا العادلة…بل بعضهم له سوابق في الولاء للسلطة والانتفاع من فتاتها.

    رابعا: صوّت مع القرار 4 قضاة و 1 محامية وحيدة معروفة باستماتتها في الدفاع عن الطيب راشد و 1 أستاذة جامعية تجمعية سابقة و 1 عدل تنفيذ ذو توجه قومي غير مخفي، والقضاة الأربعة منتخبون في انتخابات المجلس سنة 2016 التي خسر التيار الاستقلالي أغلب مقاعدها.

  6. كان أول من بادر بنشر تلك الافادات الإعلامي زياد الهاني فيما كانت صحيفة الشروق التونسية أول وسيلة إعلام تولت ذلك
  7. في بيان صدر عن مجلس القضاء العدلي بتاريخ 02-07-2020 ورد أنه ” بجلسة يوم 24 جوان 2021 حضر السيد البشير العكرمي وقدّم جوابه ومؤيداته و دفوعاته على تقرير التفقدية العامة بوزارة العدل، وبناء على ذلك تمّ حجز الملف للتداول في شأنه بجلسة يوم 01 جويلية 2021 وبها تمّ إرجاء البت في الملف التأديبي وتأخيره لجلسة يوم 12 جويلية 2021 لمراسلة السيد المتفقد العام ومطالبته بالمعطيات والمؤيدات التي أسّس عليها تقريره على ضوء الردود و الدفوعات المقدّمة من القاضي المعني.”
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، أحزاب سياسية ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني