ماذا تعلمنا مناقشة شروط الانتداب للقضاة العسكريين؟ أو ملاحظات على بواكير عمل مجلس النواب في تونس


2023-08-08    |   

ماذا تعلمنا مناقشة شروط الانتداب للقضاة العسكريين؟ أو ملاحظات على بواكير عمل مجلس النواب في تونس

أقرّ مجلس النواب المنبثق عن دستور قيس سعيّد في تاريخ 28-07-2023 مشروع القانون بتنقيح المرسوم المنظم للقضاء العسكري. ورغم أن التنقيح اقتصر على شروط المشاركة في مناظرات انتداب الملحقين القضائيين العسكريين، فإنّه رشح عن دلالاتٍ هامّة حول تصوّر النوّاب لعملهم التشريعيّ وحول أداء المجلس ككل وفق ما نوضحه في هذا المقال.

وقبل المضيّ في استعراض هذه الدلالات، يهمنا توضيح أن الدورة النيابية الأولى لهذا المجلس انطلقت بتاريخ 13-03-2023 وأن مدتها قاربت أربعة أشهر ونصف صُرف الجزء الأكبر منها في صياغة النظام الداخلي وأن مجمل مشاريع القوانين التي أقرها المجلس بلغت 9 (7 منها اتصلت بالموافقة على اتفاقيات دولية غالبها قروض)، الأمر الذي يجعل التقييم الكمي أو النوعي لنشاط المجلس أمرا سابقا لأوانه. هذا مع العلم أن رئيس مجلس نواب الشعب التونسي إبراهيم بودربالة كان أشاد في نهاية الدورة في تاريخ 31-07-2023 بجدّية النواب وعزيمتهم الصادقة على بذل قصارى الجهد من أجل الاستجابة لمطالب الشعب من خلال ممارسة دورهم التشريعي والرقابي.  

ومن أهم الدلالات التي تكشفها وقائع مناقشة مشروع تنقيح مرسوم القضاء العسكري والمصادقة عليه، الآتية:

مشروع قانون بدأ وانتهى بإغفال الأبعاد الحقوقية للمحاكمات العسكرية

بمناسبة الاستعراض الدوري لسجلها في حقوق الإنسان أمام مجلس حقوق الإنسان شهر 11 من سنة 2022، وفيما صدر عن المنظمات الدولية من تقارير بشأن وضع حقوق الإنسان بتونس، كانت مقاضاة المدنيين أمام المحاكم العسكرية وخصوصا منهم معارضي النظام من أهم المؤاخذات التي وجهت للدولة التونسية. وكان بالتالي يعتقد أن يكون النظر في المرسوم المنظم للقضاء العسكري مناسبة لطرح الموضوع على طاولة نقاش السلطة السياسية .

خلافا للمتوقع اختارت السلطة التنفيذية أن يقتصر تدخلها كما ورد بمذكرة شرح أسبابه على تدخلات محدودة هدفها ملاءمة ما هو مطلوب من مؤهلات علمية في القضاة العسكريين مع غيرهم من القضاة، ومنها اشتراط الحصول على الماجستير كمؤهل علمي[1] وتحقيق انسجام بقية الشروط المتعلقة بالسن والسوابق العدلية مع قانون الوظيفة العمومية. وعلى ذات السبيل سار نواب الشعب بفعل امتناع مجمل المتدخلين منهم (وعددهم 29 إضافة إلى رئيسهم) عن إثارة أيّ مطلب في هذا الشأن وانتهى إلى المصادقة على مشروع القانون بأغلبية 122 صوتا ومعارضة نائب وحيد واحتفاظ 7 بأصواتهم[2].

سرعة الإنجاز القياسية

أول ما نلحظه في هذا الصدد هو سرعة إقرار مشروع القانون ضمن مدّة سبعة أيام. ففيما أودعت رئاسة الجمهورية مشروع القانون لدى مجلس النواب في تاريخ 21-07-2023، صادقت لجنة التشريع العام عليه في تاريخ 26-7-2023 محيلة إياه إلى الجلسة العامة التي صادقت عليه بعد مداولات 3 ساعات و20 دقيقة في تاريخ 28-07-2023. وتتأكد هذه الدلالة من المعدّل العام للمدة التي استغرقتها إجراءات المصادقة على مشاريع القوانين الأخرى والذي بلغ 08 أيام تحتسب بداية من تاريخ إيداع نصها بمكتب ضبط المجلس النيابي، وتنتهي بمصادقة الجلسة العامة عليها، وهو معدل لا مثيل له في تاريخ المؤسسة التشريعية التونسية.

وفيما تجد سرعة الإنجاز هذه ما يفسرها بأن سرعة العمل النيابي ترتبط بغياب ضغط العمل، فإنها تعكس أيضا بدرجة كبيرة انخراط النواب في إنجاح النظام السياسي الذي هم جزء منه من خلال تظهير فعاليته. وهذا ما نستشفه من تدخّل أحد النواب في جلسة نقاش مشروع القانون، حيث أشار صراحة لتنازله وزملائه على مقترحات تعديل[3] لتحقيق سرعة نظر المشروع وتعبيره عن أسفه لعدم توفر الوقت الكافي لنقاش مسائل مهمة وردت به بناء على ملاحظات طلبة كليات الحقوق التي توصل بها.

ورصدنا في هذا الإطار 09 تدخلات لنواب في ذات الجلسة وردت فيها فعليا مؤاخذات جدية على المشروع تمثلث أساسا في:

  • غياب السند العلمي لاستثناء الحائزين على الماجستير المهني من حق المشاركة في المناظرة،
  • عدم تضمن المشروع لأحكام انتقالية تضمن الحقوق المكتسبة لطلبة الحقوق،
  • –          شرط حسن السيرة والسلوك لا يخضع لأي معيار موضوعي.

ولم نجد لها اثرا في تقرير لجنة التشريع العام كما لم تكن أي منها موضوع طلب تعديل بما يدل على أن النواب تنازلوا فعليا عن صلاحياتهم ليحققوا للسلطة التنفيذية ما تطلب من سرعة في الإنجاز[4]، وهو ما يؤشر على اختلال في تصورهم لوظيفتهم يتأكّد من خطابهم في محضرها.

تجفيف النقاش التشريعي: أو حين انقلب النقاش إلى حفلة تطبيل للجيش

لم يتخلّف أي من النواب الذين تدخلوا في الجلسة العامة عن توجيه التحية للمؤسسة العسكرية التي وصفتْ “بالجيش العظيم .. والمؤسسة التي نحترم .. والتاج فوق رأس الشعب التونسي”[5]. وقد ذهب أبعد من ذلك عددٌ هامّ منهم ممّن ناشدوا المؤسسة توسيع مجال عملها بدعوتها “لإنتاج القمح لاستكمال التحرّر الوطني ولجهر السدود والبحيرات الجبلية من الأتربة بعد أن عجزت وزارة الفلاحة عن ذلك” و”لإيجاد استرتيجية تكافح صفحات التشويه”[6] ولتوّلي إنجاز الصفقات العمومية في الطرقات لتقلّ حوادث المرور التي سببها الغشّ في الأشغال[7] وللتكفّل بالتكوين المهني لكون التكوين المهني المدني منظومة فاشلة[8] ولإلغاء التعيينات الفردية وإعادة الرافل للحدّ من الجريمة ولفرض تجنيد إجباري مدة عامين لغرس الروح الوطنية. كما حثّ عدد من النواب جيشهم على أن ينحو منحى جيوش دول أخرى أشير لها أكثر من مرة من دون تحديدها لها، لجهة انخراطها في النشاط الاقتصادي في بلدانها. وقد أبدى عدد من النواب في خطابهم سعادتهم بروح الانضباط التي سادت جلستهم والتي قال أحدهم أنه بفضلها كان أزيز الذباب يسمع. كما أبدى النوّاب حماسةً دفعت بعضهم إلى صياغة جمل مدح مطوّلة في الجيش وفضائله، وقد وصلت هذه الحماسة لدى إحداهن حدّ الإفصاح عن تمنّيها أن تكون ك “هتلر”[9] في سياق حديثها عن الاحتجاجات الشعبية ضد قطع المياه والتي تغيق حركة السير.

وفي خضمّ الحماسة تلك، غيّب حبّ الجيش عن نواب الشعب كلّ سؤال عن حقّ مواطنيهم في القاضي الطبيعي ومعايير المحاكمة العادلة وأي تساؤل عما يتردد عن محاكمات سياسية أمام المحاكم العسكرية. فقد أكّد أغلبهم أنه سيصوّت للمشروع حبا واحتراما معلنا أنّ “القضاء العسكري” فوق الشبهات وحملات التشكيك وأن إصلاح شروط الانتداب فيه سيجعل “القضاة العسكريين مثل القضاة المدنيين”[10]. وكان لافتا في هذا الإطار خطاب بودربالة رئيس المجلس في نهاية النقاش العام والذي تحدث فيه عن ذكرياته كمحامٍ في المحاكم العسكرية منذ أكثر من ربع قرن والتي عاين فيها حسن المعاملة قبل أن ينتهي للحديث عن الحاجة للتفكير في مراجعة اختصاص المحاكم العسكرية بالتعويض في الدعاوى المدنية على خلفية أنه يشغلها عن دورها الأساسي خصوصا وأنها تتعهد في هذه الفترة بعدد هام من القضايا تهمّ الأمن القومي. وقد بدا رئيس المجلس من خلال ذلك متمسكا بالاختصاص الموسّع للمحكمة العسكرية وضمنا اختصاصها في محاكمة المدنيين. وفيما ينسجم هذا الموقف مع امتناع الدولة التونسية عن قبول التوصيات التي صدرت لها خلال المراجعة الدورية لسجلّها بمجلس حقوق الإنسان في هذا الشأن، فإنه يعدّ في الآن نفسه تراجعا خطيرا عن تعهدات مرحلة الانتقال الديموقراطي[11]

.


[1]  الأمر الحكومي عدد 28 لسنة 2020 المؤرخ في 10-01-2020 والمتعلق بالمعهد الأعلى للقضاء والذي اشترط الماجستير في انتداب الملحقين القضائيين، قرار رئيس الحكومة المؤرخ في 18-05-2017 المتعلق بشروط انتداب الخارجي لمستشارين مساعدين بالمحكمة الإدارية، المرسوم عدد 90 لسنة 2011 المتعلق بتنقيح المرسوم عدد 6 لسنة 1970 المتعلق بالنظام الأساسي لقضاة محكمة المحاسبات.

[2]  معطيات وردت بالصفحة الرسمية للمجلس وتم التأكد من دقتها من خلال متابعة تسجيل الجلسة .

[3] تدخل النائب صابر المصمودي عن كتلة الاحرار

[4]  في جلسة للجنة المالية والموازنة بتاريخ 18-07-2023 نبه رئيسها لذات الظاهرة في خطاب توجه به لزملائه وورد فيه  انه يدعوهم ” “لضرورة عدم إكساء الصبغة الاستعجالية للنظر في مشاريع القوانين المتعلقة بالموافقة على القروض والتعهدات المالية للدولة وإعطاء الحيز الزمني الضروري لمجلس نواب الشعب للتعمق في دراسة هذه المشاريع”- المصدر الصفحة الرسمية لمجلس نواب الشعب –

[5]  النائب عبد الستار الزائري

[6] النائب سيرين مرابط

[7] النائب شكري البحري

[8]  النائب فخر الدين فضلون

[9]  النائبة ريم بالصغير ذكرت انها في طريقها اضطرت للتوقف بسبب قطع مواطنين يحتجون على قطع الماء عنهم الطريق وانها حينها تمنت ان تكون هتلر

[10]  النائب مسعود قريرة قال ” ابارك التوجه نحو التكوين الاكاديمي للقضاة العسكريين وهو توجه عالمي داخل الجيوش  القاضي المدني كيما القاضي العسكري عنده شهايدوا وراسو مرفوع “

[11]  بمناسبة المراجعة الدورية لسنة 2022 كانت التوصية التي تكررت اكثر من غيرها فيما تعلق بالقضاء الغاء محاكمة المدنيين امام المحاكم العسكرةي وكان رد الحكومة التونسية على ذلك ” إن إجراء تعديلات على منظومة القضاء العسكري سيكون له انعكاسات على المؤسسة العسكرية فيما يتعلق بالمحافظة على أسرار الدفاع الوطني أثناء المحاكمة والحال أن مراحل مراجعة المنظومة الجزائية والقضائية بتونس لم تستكمل بعد خاصة وأنّ مصالح وزارة العدل قد انطلقت منذ فترة في مراجعة منظومة القضاء العدلي وتنقيح أحكام المجلة الجزائية ومجلة الإجراءات الجزائية ولا تزال الأشغال متواصلة في هذا المجال.

كما أن التنقيحات المشار إليها أعلاه تستوجب بدورها دراسة معمقة ومشاورات بين مختلف السلط والوزارات والهياكل المتدخلة حول الخيارات البديلة الممكن اعتمادها مستقبلا كالنظر في إمكانية إحداث دوائر متخصصة لدى المحاكم العدلية للنظر في القضايا العسكرية المرتكبة من قبل المدنيين وتكون تركيبتها على شاكلة تركيبة دائرة الاتهام العسكرية والدائرة التعقيبية العسكرية للحفاظ على التخصص في المجال من جهة والمحافظة على أسرار الدفاع الوطني من جهة أخرى فضلا عن عدم إلمام قضاة المحاكم العدلية بالمسائل العسكرية ومتطلباتها وعدم التخصص فيها بالشكل الّذي يضمن إصدار أحكام عادلة في حق المؤسسة العسكرية وهو ما يتطلب برامج تكوينية فضلا عن التفكير في وضع آليات لمتابعة مآل القضايا المنشورة أمام المحاكم العدلية المتعلقة بالجرائم المرتكبة ضدّ مصالح الجيش الوطني او ضدّ العسكريين أثناء مباشرتهم للخدمة أو بمناسبتها وما ستقتضيه الأبحاث والاستنطاقات من خوض في مسائل تتعلق بمعطيات أو بأسرار عسكرية قد تمس من سلامة وأمن هذه المؤسسة وبالبلاد ككلّ.

لذا، فإن قبول التوصية يستوجب من الدولة التونسية إحالة اختصاص المحاكم العسكرية بمحاكمة المدنيين إلى المحاكم العدلية والحال أن الأمر يتطلب دراسة لمختلف جوانب التنقيحات والخيارات البديلة الممكن اعتمادها في هذا الإطار –كيفما تم ذكره أعلاه- سيما من حيث الهيكلة القضائية الّتي تتطلب بدورها حيزا زمنيا هاما حتى تكون النصوص الجزائية العسكرية في تناغم وانسجام مع بقية القوانين الجزائية الوطنية وأن لا تتعارض مع الإصلاحات المزمع إدخالها على المنظومة القضائية العدلية في إطار مراجعة السياسة الجزائية للدولة التونسية. هذا إلى جانب إقرار توزيع مدروس لاختصاص مختلف الأجهزة القضائية على المستوى الوطني بما يخدم مرفق العدالة وإرساء قضاء ناجع وناجز “

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم عسكرية ، البرلمان ، قرارات قضائية ، مرسوم ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني