ليلة القبض على قوس قزح: “هيدي آخرة التحريض”


2023-08-25    |   

ليلة القبض على قوس قزح: “هيدي آخرة التحريض”
رسم رائد شرف

هاجم أفراد ينتمون إلى من يسمّون أنفسهم “جنود الرب” ملهى ليليًا في مار مخايل بحجّة مكافحتهم لـ “الترويج للمثلية” أثناء استضافة الملهى عرض “دراغ” (drag أو ما يعرف بفن الجرّ). استهدفوا أشخاصًا عزّلًا في مكان لطالما كان مساحة آمنة لهم، حاصروهم داخله لأكثر من ساعة، بثوا الرعب في نفوسهم، جعلوهم يختبئون كأنّهم ارتكبوا خطأ وجاء الوصيّ عليهم يحاسبهم، اعتدوا على أشخاص كانوا في الخارج على مرأى القوى الأمنية التي لم توقف أحدًا منهم ورحلوا، متوعّدين بالمزيد. استهدف “جنود الرب” الناس حرفيًا في أمنهم من دون أن يوقفهم أحد.  

كان متوقّعًا لحملة التحريض الشعواء على الأقلّيات الجنسية أن تولّد أعمال عنف ضدّها وضد داعميها. ومَن أفضل من هيئة الأمر بالمعروف المسيحية المسمّاة “جنود الرب” للقيام بهذه المهمة. فهذه العصابة (التي لا يخفي أعضاؤها اتصالهم بالمصرفي أنطون صحناوي وإن سارع هذا الأخير إلى نفي ذلك تهرّبًا من أي مسؤولية عن أفعال أول من أمس) تحمل لواء محاربة المثلية ولها غزوات سابقة على “قوس قزح” سواء حين خرّبت لوحة زهور بألوان القوس بمناسبة شهر الفخر في حزيران العام الماضي، أو أيضًا حين حاولت في تشرين الأول الماضي تخريب معرض “جريحات” التشكيلي لدعم مريضات سرطان الثدي بحجّة أنّ بعض المجسّمات تحمل ألوان قوس قزح. والأهم أنّ الشعارات التي ترفعها العصابة تحت لواء الدين تتقاطع مع شعارات حملة التحريض والكراهية التي أطلقها قرار وزير الداخلية بمنع تجمّعات الأقليات الجنسية في حزيران العام الماضي (والذي أوقف تنفيذه مجلس شورى الدولة في تشرين الأول من العام نفسه من دون أن يلتزم وزير الداخلية بقرار وقف التنفيذ) وأججها أمين عام حزب الله حسن نصر الله في خطابه في تموز الماضي.  

وبالتالي لا يمكن فصل حادثة الأمس عن حملة التحريض المستمرّة بكلّ ما تضمّنته من أدوات متنوّعة بعضها قديم كالخطابات، والتغريدات واقتراحات القوانين والمقابلات والتصريحات وحملات الجيوش الإلكترونية إلخ، وبعضها جديد لا سيّما الدعوات التي تحفّز المبادرة الفردية لمكافحة المثلية لا سيّما دعوة نصر الله “كلّ مكلّف” أن يكافح المثلية التي طلب من الجمهور تسميتها “الشذوذ الجنسي”.  

نتيجة كل ذلك، اندفع “جنود الرب” صوب ملهى “أم” في مار مخايل ليل الأربعاء كونهم مخوّلون باسم “الرب” نفسه الدفاع عن المجتمع ضدّ هذه “الظاهرة” التي تتهدّده.  

تفاصيل “الغزوة”

وفي تفاصيل الليلة المشؤومة، وبحسب شهادات شاركها أشخاص كانوا هناك مع “المفكرة القانونية”، فقد هاجم أشخاص ينتمون إلى عصابة “جنود الرب” ملهى “أم باروم” (مدام أم سابقًا) في مار مخايل أثناء عرض “دراغ” وحاولوا اقتحامه لولا أنّ العاملين أغلقوا الباب من الداخل. وقد صوّر هؤلاء مقطع فيديو لجزء من هجومهم وهتافاتهم على المحل سُمع فيه أحدهم يقول: “هيدا محلّ إبليس عم يروّج للمثليين، بأرض الرب ممنوع الترويج للمثليين” وتابع مهدّدًا: “بعدنا عم نحكيكن وهيدي البداية، حذرناكم مية مرة”. أما الهتاف الذي تكرّر أثناء الهجوم فكان “حيّ هو رب الجنود، آمين”، وهو الشعار الرئيسي للعصابة تذكّر عبره في كلّ مرة أنّ الفعل الذي تقوم به هو باسم الربّ.

البداية كانت حين لاحظ العاملون في الملهى أنّ شخصًا في الخارج يصوّر الملهى بعد أن رأى الفنانَيْن المشاركين يرتديان أزياء العرض وهي أزياء نسائية كما يقتضيه هذا النوع من الفنّ. فطلبوا منه التوقف عن التصوير فرفض واتصل بأشخاص طلب منهم القدوم إلى المكان حالًا. بعد مرور بعض الوقت، لاحظ روّاد الملهى والعاملون بدء تجمّع أشخاص بلباس أسود, وعلى الفور، تمّ إنهاء العرض حفاظًا على سلامة الحاضرين والفنانين. وما هي إلّا لحظات حتى وصلت “التعزيزات” وحصل الهجوم على الملهى في محاولة اقتحامه. إلا أن العاملين كانوا أسرع منهم وأغلقوا البوابة من الداخل. ويؤكّد من كانوا في الحادثة أنّ إغلاق البوابة “حال دون وقوع مجزرة” كون المهاجمين كانوا “مسعورين” على حد وصف كلّ من رأوهم.

وبعد منعهم من الدخول، تعرّض المهاجمون بالضرب لعدد من الأشخاص الذين كانوا خارج الملهى، وقد أحصي 4 جرحى أصيبوا بكدمات ورضوض نُقل أحدهم إلى المستشفى. كما قاموا بتصوير الأشخاص الذين اعتدوا عليهم. كل ذلك حصل بحضور القوى الأمنية (درك وأمن دولة) كما تؤكد جميع الشهادات، إذ إنّ هؤلاء حضروا بعد أن اتّصل بهم أحد رواد الملهى ووصلوا بالتزامن مع المهاجمين. وكان دورهم “متفرّجين” إذ لم يحاولوا منع أيّ اعتداء على الناس ولم يوقفوا أيًّا من المعتدين رغم أنّ الاعتداء حصل أمامهم، كما لم يؤمّنوا خروج الناس من الملهى، بحسب ما أكدت شهادات الحاضرين. وبقي أعضاء العصابة ما يفوق الساعة يحاصرون المكان يهددون و”يتمرجلون” ويتوعّدون بالمزيد.

وأكّدت الشهادات أنّه بعد مغادرة المهاجمين، دخل الدرك إلى الملهى وبدأوا التحقيق مع المتواجدين فيه لما يفوق الساعتين. وقد حاولوا في أسئلتهم أن يعرفوا سبب هجوم عناصر “جنود الرب” على الملهى. “بدل توقيف المهاجمين والذين اعتدوا بالضرب علينا، دخلوا يبحثون عن سبب استفزازنا لجنود الرب وعلى أدلة على ارتكابنا ما يستدعي الهجوم علينا”، يقول أحد الشهود.  

وبعد الحادثة  فُتح محضر بالحادث في مخفر النهر بإشارة من النيابة العامة، بحسب مصادر أمنية، من دون أن يتم توقيف أيّ من المعتدين حتى اللحظة.  

وأمس الخميس، أصدر ملهى “أم” بينًا مقتضبًا قال فيه “ردًا على الحادثة المؤسفة في الليلة الماضية في أم باروم، نقف موحّدين وملتزمين بإتاحة مساحة آمنة ترحّب بكلّ الناس”. وصدرت مواقف منددة عن بعض النوّاب منهم مارك ضو وإبراهيم منيمنة وميشال الدويهي وفراس حمدان وجورج عقيص الذي كتب على فيسبوك “الله ما عندو جنود، عندو محبة وسلام”. 

الرعب في الداخل 

في الداخل، عاش روّاد الملهى لحظات صعبة جدًا. “رعب” كانت الكلمة التي تكرّرت على ألسنتهم وألسنتهنّ. “الذعر على الوجوه لن أنساه في حياتي” يقول أحد من كانوا في الملهى ليلة الهجوم، ويضيف “اختبأ الناس في الزوايا وفي الحمامات. ولو بقيت البوّابة مفتوحة لوقعت مجزرة”.

يقول آخر إنّ “أصوات المهاجمين كانت مخيفة، صراخهم غريب، كانوا كالمسعورين كأنّهم تناولوا مخدّرًا ما قبل المجيء” فيردّ عليه صديقه “الدين أقوى المخدرات”. 

وقد شبّهت إحدى الشهادات المهاجمين بالعناصر الذين كانوا يهاجمون المتظاهرين خلال الانتفاضة ويأتون من جهة خندق الغميق، تذكّرت كيف كانوا يهجمون مسعورين ويضربون كل من يظهر أمامهم. “العناصر من الجهتين يلبسون الأسود، أصواتهم متشابهة، حركة أجسادهم أيضًا، يركضون كأنّهم لا يرون أمامهم، التعصّب يعميهم، ويبدون غاضبين جدًا ومستفَزّين”.       

وتؤيّدها شاهدة أخرى حين تقول: “خطاب نصرالله أجّج الحملة، حين يرى الراديكاليون من طائفة معيّنة الراديكاليين من طائفة أخرى يحرّضون ضد المثليين، فسيرغبون في المزايدة هم أيضًا”. 

الرعب الأصعب عاشه الفنانان المشاركان في عرض “الجرّ” ومساعدوهما في غرفة تقع خارج الملهى، بحسب جاد (اسم مستعار) الذي كان واحدًا من المساعدين أثناء وقوع الحادث. “كان بيننا وبينهم ستار قماشي حرفيًا، ولكنهم لم يعرفوا بوجودنا. لو عرفوا لا أدري ما الذي كان سيحصل. فالدراغ كانا لا يزالان في ملابس العرض. صمتنا جميعًا وجلسنا على الأرض كي لا يشعروا بوجودنا، كانت لحظات رعب حقيقية. شعرت أنّي في فيلم وأنّ كل ما يحصل ليس حقيقيًا. وحين رنّ هاتف صديقي زحف على الأرض لإطفائه”.

أحد فناني الدراغ الملقّب “إيمّا غريشن” تحدث لـ “المفكرة” عن تلك اللحظات “وضعنا حرامات فوقنا كي لا يرونا في حال دخلوا علينا، كنا نرتعد من الخوف. كنا نسمع دعسات أقدامهم بالقرب منّا وكانت الستارة فقط تفصلنا عنهم. كنّا مدركين أنّهم لو رأونا ونحن بملابس الدراغ وبالمساحيق على وجوهنا لكانت الأمور تصاعدت أكثر”. 

ويؤكّد أنّه قبل العرض “كان هناك تردد وخوف في ظلّ حملة الكراهية السائدة ولكن كون العرض ينظّم في مكان آمن وفي شارع نعتبره آمنًا أيضًا، ولأنّه في تاريخ الدراغ لم يحصل سابقًا اعتداءات، لم نتراجع”.

ويضيف “تحاول اليوم الطبقة الحاكمة والوزراء الفاسدون إلغاء فئة الميم عين من خلال حملة ممنهجة ولكننا موجودون منذ زمن طويل وعلى مرّ العصور ولم نظهر اليوم لذلك لا يمكنهم إلغاؤنا. ولن نخاف لأن الخوف يعني أنّهم انتصروا. وسنواصل التعبير لأن هذا حقنا ولن يأخذوه منا”.

فنانا الـ Drag بُعيد الهجوم

وفي الخارج

خارج الملهى وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وفي الأحاديث التي أجريت مع عدد من أفراد الأقلية الجنسية، كان مستوى القلق عاليًا والبعض عبّر عن الخوف على هذه الأقلية إذا استمرّ التحريض وحملة الكراهية.  

“أنا أشعر بالخوف اليوم، أشعر أنّ عليّ الآن أن أخفض صوتي، أن ألبس ثيابًا ليست ثيابي، أن أغيّر في طريقة تعبيري عن ذاتي. أصبحت اليوم واعية أكثر لفكرة أنّ أي شخص من حولي قد يكون لديه موقف عدائي تجاهنا، لم تكن الفكرة حاضرة في ذهني بهذا الشكل قبل اليوم”، تقول جورجينا (اسم مستعار). 

وتؤيّدها علا قائلة إنّ الحملة الأخيرة تشعرها بالخوف الشديد بأنّ الناس في البلد لم تعد تتقبّل الاختلاف وما حصل أمس عزز تلك المشاعر لديها، “فأفراد الأقلية الجنسية لديهم بعض المساحات في هذا البلد حيث يشعرون بالأمان، حيث يمكنهم التعبير من دون خوف. وبالتالي فإنّ استهداف أحد تلك الأماكن سيكون لديه وقع كبير عليهم. وهو يعيدهم كثيرًا إلى الوراء بعد أن قطعوا شوطًا لا بأس فيه ليتخطّوا خوفهم في التعبير عن أنفسهم”.

وأثار معظم من تحدّثت إليهم “المفكرة” في إطار إعداد هذا التقرير ضرورة وجود خطاب أو سردية مضادة كنوع من التطمين لهذه الأقلية الجنسية خصوصًا في ظلّ غياب أي محاسبة عن مرتكبي التحريض أو مرتكبي اعتداء مار مخايل. فانتقد جاد غياب هذا الخطاب حتى الآن رغم أنّ الحملة مستعرة منذ أشهر، وسأل “وين المقابل؟ مين في بضهرنا؟”، مشيرًا إلى أنّ حملة الكراهية كبيرة وخطيرة ولا يجب السكوت عنها ولم يعد مقبولًا تجاهلها.

جورجينا تعتب أيضًا لغياب السردية المضادّة لسردية الكراهية والتحريض المهيمنة حاليًا، معتبرة أنّ هذا الأمر يعزز وحدة هذه الأقلية وإحساس أفرادها أنّهم متروكون تمامًا في المواجهة. وتؤيّدها علا في أنّ عدم وجود خطاب متماسك وموحّد ضدّ خطاب الكراهية غير مقبول: “لا يبدو أنّها حملة عابرة، من الواضح أنّها حملة ممنهجة والتجاهل ليس أداة نافعة على ما يبدو لذلك لا بدّ من وجود خطاب مضاد يُشعر أفراد هذه الأقلية أنّ لديهم ضهر”.

“جنود الرب” ظاهرة غير قانونية

و”جنود الرب” مجموعة ظهرت عام 2020 وهدفها “محاربة الانحراف عن الإيمان المسيحي ومكافحة المثلية والزواج المدني” كما تشير في معظم منشورات صفحاتها على مواقع التواصل. يرتدي عناصر المجموعة قمصانًا سوداء تحمل شعارًا هو عبارة عن درع ذي جوانح بيضاء وعليه صليب أحمر فوق كتاب إنجيل مفتوح. ويُعتقد أنّهم مموّلون ومدعومون من المصرفي أنطوان الصحناوي رغم نفىه ذلك، علمًا أنّه كان لهم تجمّع كبير أمام مصرف SGBL وتظهر صورته في بعض منشوراتهم.  

ويعتبر “جنود الرب” ظاهرة غير قانونية، تنطبق عليها مواد من قانون العقوبات بينها المادة 317 التي تعاقب “كل عمل وكل كتابة وكل خطاب يقصد منها أو ينتج عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحضّ على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة” والمادة 318 التي تعاقب “كل شخص ينتمي إلى جمعية أُنشئت للغاية المشار إليها في المادة السابقة”، والمادة 335 التي تعاقب على “تأليف جمعية أو إجراء اتفاق خطي أو شفهي بقصد ارتكاب الجنايات على الناس أو الأموال أو النيل من سلطة الدولة أو هيبتها” والمادة 336 التي تعاقب على تأليف عصابة مسلحة بقصد التعدّي على الأشخاص، فضلا عن المادة 329 التي تعاقب حرمان اللبنانيين من حقوقهم المدنية من خلال الضغط والترهيب أو أي عمل من أعمال الإكراه.

نشرت صفحة “جنود الرب” هذه الصورة أمس بعد ساعات من الهجوم

ورغم كل ذلك لم تتحرّك وزارة الداخلية لوضع حدّ لهذه العصابة، كذلك لم يصدر أي بيان أو موقف من الوزارة على حادثة الأربعاء. ولكن كيف سيحصل ذلك ووزير الداخلية الحالي كان من أوائل من أطلق المعركة ضدّ المثليين بقراراته التي تمنع تجمّعاتهم؟  

يشار إلى أنّ الملهى تأسس عام 2011 باسم “مدام أُم” في شارع الحمرا وكان الاسم مستمدًّا من لفظ بعض الفرنسيين لاسم السيدة أم كلثوم إذ ظنّوا أنّ “أم” هو اسمها الأول فنادوها “مدام أم”. ثم انتقل الملهى إلى شارع باستور في الجميزة وكان مطلًّا على المرفأ فتعرّض لدمار كبير في تفجير 4 آب، دمار كبير إلى درجة حالت دون ترميمه. انتقل الملهى بعد ذلك إلى مار مخايل تحت اسم جديد هو “أم”، ويقول أصحابه إنّ “مدام” قتلت في الانفجار بينما نجت “أم”، على أمل أن تنجو مجددًا من حملة الكراهية التي تجتاح بلادنا.   

لقراءة المقال باللّغة الانكليزيّة، إضغطوا هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، أجهزة أمنية ، حرية التعبير ، فئات مهمشة ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني