لا حياة لمن تنادي؟ بعض المشاهد من اعتصام الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة

،
2021-06-30    |   

لا حياة لمن تنادي؟ بعض المشاهد من اعتصام الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة
النساء يرفعن اليافطات أمام المجلس الشيعي الأعلى (21/3/2021)

مشاهدات مارك غزاله

كتب التقرير مارك غزاله وسامر غمرون

بالتوازي مع نشر المقالات حول مختلف جوانب حراك النساء لرفع سنّ الحضانة في الطائفة الشيعية، تنشر المفكرة القانونية أدناه مشاهدة لاعتصام النساء أمام المجلس الشيعي الأعلى في مناسبة عيد الأم، في 21 آذار 2021. ونحاول في هذا النص إظهار ملامح حية من عمل المجموعات على الأرض، بغض النظر عن التحليلات والحجج، محاولين تبيان الوجه العملي للحراكات داخل الطوائف من أجل تعديل قوانين الأحوال الشخصية وإصلاح محاكمها، وما يظهره من عوامل لا تسمح المقابلات الميدانية ووسائل البحث الأخرى برؤيتها، ما يفتح الباب أمام فهم أفضل للحراك.

وصلتُ حوالي الساعة 11:49 ظهراً إلى نقطة الاعتصام الذي دعت إليه “الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية”، في يوم عيد الأمهات 21/3/2021: المجلس الشيعي الأعلى على طريق المطار. هو استكمال إذاً لظاهرة الاعتصام أمام مقرّات السلطات الدينية التي استهلّتها شبكة حقوق العائلة في حزيران 2011 حين تظاهرت أيضا أمام دار الفتوى مطالبة بإقرار تعديل سن الحضانة في قانون الطائفة السنية لصالح الأمهات. ها هي إذا بوادر جغرافيا جديدة للاعتصامات والتحركات في مجال الأحوال الشخصية في لبنان (أمام المؤسسات الدينية، وليس ساحة الشهداء مثلا)، التي ترى النور تدريجيا مع تطور الاستراتيجيات الحراكية داخل الطوائف التي تكلمنا عنها في المقال الأول .

الاعتصام سبقته دعوة حدّدت مطلبه الأساسي: تطبيق ما سُمّي ب “مبادرة الأمهات” التي أطلقتها رئيسة “الحملة” زينة إبراهيم على صفحتها في 7/3/2021. وتشكّل المبادرة حسب الحملة “حلّا مبدئيا” لا يتطلب تعديل قوانين وفتاوى (لتغيير سن الحضانة في الطائفة)، بل يقتضي اعتماد “عرف جديد”[1] في المحاكم الابتدائية الجعفرية تُعطى عبره حضانة الصبيّ للأمّ حتى عمر السبع سنوات، توافقاً مع أحكام صادرة سابقاً عن المحكمة العليا، وبشكل يتوافق مع مرجعية السيستاني بحسب إبراهيم. كما دعت “الحملة” في مبادرتها التي سبقت الاعتصام إلى أن يصبح حق الرؤية (للأم) بعد سن الحضانة أربعة أيام في الأسبوع، حيث تُؤَمَّن عمليا حضانة مشتركة بين الأهل، بالإضافة إلى بعض المطالب الأخرى[2].

حضور النساء… وغياب المجلس

كان الطقس حارّاً، ولم تترك الشمس أية بقعة ظلّ للمعتصمين المتوقع وصولهم. خلفية المشهد: بوابة المجلس الشيعي الموصدة، بحجمها الضخم ولونها الذهبي المتوهج تحت أشعة الشمس. وكأن البوابة الفاقعة المقفلة لا تكفي لإظهار صعوبة التغيير أو تحديث الاجتهاد، وهو الاجتهاد الذي كانت اشتهرت الطائفة الشيعية بحيويته، إلا أنه خذل الأمهات حتى اليوم إذ يبدو كسولا مترهلا شكله شكل المؤسسات التي تحتويه. فبوجه من تقفل البوابة؟ وممن يحرس عناصر الأمن الداخلي المبنى؟

كنت من أول الوافدين حيث لم أجد سوى رئيسة الحملة زينة إبراهيم تنصب لافتة قرب بوابة المجلس، وإلى جانبها شابّا وصبيّة يبدوان وكأنهما ينتظران (ماذا ينتظران؟ وكأنهما ينتظران أن يتجسّد الغضب الكبير الذي يشعران به بمئات وآلاف المحتجين يتدفّقون من كامل لبنان مناصرة لقضيتهم المحقة، وإن هما يعرفان أن الآلاف لن تأتي هذه المرة، لأسباب عديدة، منها الجائحة والأزمة، واضمحلال نيران الثورات على أشكالها، فكيف تزدهر ثورات الأحوال الشخصية في زمن تراجعت فيه ثورات الجوع ؟).

نقطة الاعتصام أمام المجلس الشيعي الأعلى قبل وصول المتظاهرات

“حنشيلها بس نخلص” قالت إبراهيم لعناصر الأمن مشيرةً إلى اللافتة، وكأنها تطمئنهم أن التغيير – والنساء اللواتي يحملن مشروعه – لن يهددهم أكثر من زمن الاعتصام القصير، فيمكنهم من بعد ذلك العودة إلى رتابة مهمتهم القديمة-الجديدة، أي حماية اللاتغيير على أشكاله. تتباطأ سيارة أجرة لتقف وتقترب منها زينة سائلةً السائق: “هول مئة وردة؟” (هل هو العدد المتوقع للمشاركات والمشاركين؟)، قبل أن تستلم صناديق الورود وتدفع له. “هيدي منها مظاهرة أصلاً، هل مرّة ما أصرّينا ينزلوا، أولاً كورونا، تاني شيء مش نازلين غضب اليوم” قالت زينة متوجهة إلى الشخصين الواقفين، وكأنها تبرّر أمامهما غياب الحشود المُنتَظَرة من قبلهم. تتباطأ سيارة أخرى رباعية الدفع، ضخمة سوداء وتقودها امرأة مرتدية نظارات شمس وتنده لزينة. إنها عبير خشاب، صاحبة إحدى أشهر قضايا الحضانة التي هزّت الرأي العام، أتت لتعطي كيس لرئيسة الحملة – وتبيّن لاحقاً أنه يحتوي على أقلام والعدّة لتحضير اليافطات – قبل أن تذهب لركن السيارة والانضمام إلى الاعتصام.

الرجال غائبون …على الضفتين؟

بدأت نساء تراوحت أعمارهن بين العشرينات والثلاثينات تتوافد إلى نقطة الاعتصام. بعضهن وصلن سيراً على الأقدام والبعض الآخر خرجن من سيارة أجرة أو “سرفيس”. الرجال شبه غائبين (باستثناء ثلاثة رجال وقفوا لاحقا في الخلف على الأطراف، وبعكس ما اعتدنا رؤيته في التظاهرات النسوية التقليدية، حيث يتكاثر الرجال “الحلفاء” سنة بعد سنة إلى جانب النساء، فيما يبدون نادرين في الحراك داخل الطوائف، نعم، نساء الحراك في الطائفة يتركن لوحدهن). والأعمار الأخرى نادرة أيضا، ما يوحي، هنا كذلك، أن المشاركات أكثرهن من عالم الأمهات اللواتي عانين حديثا أو يعانين من وضع المحاكم الجعفرية في مواضيع الحضانة وغيرها، في غياب أو ندرة التحالفات مع فئات اجتماعية وعمرية أخرى.

انهالت التعبيرات الوديّة بين المشاركات من “مريومة” (نسبة إلى مريم) إلى “اشتقتلك”، دلالة على أنهن على معرفة ببعضهن من قبل الاعتصام، على الأرجح من خلال النضال المشترك. بالفعل، وبحسب إحدى المشاركات التي تحدثت معها، تعرّفت الناشطات بعضهن على بعض عبر مشاركتهن في اعتصامات سابقة للحملة: “كلنا هون مجموعة المجلس مننزل كل مرة”. “مجموعة المجلس”، عبارة تلخّص خصائص العديد من قوى الحراك داخل الطوائف: لا دولة ولا برلمان ولا اتفاقيات دولية، بل توجّه مباشر إلي المؤسسات الطائفية والدينية (المجلس) لوضعه أمام مسؤولياته والرأي العام، بعد أن انهارت لديهن أوهام الإصلاحات المدنية التي يبشّر الثوريون بها منذ نشأة دولة لبنان حتى اليوم، دون نتائج تذكر، على الأقل فيما يخص النساء المتزوجات حسب قوانين الطوائف.

أصبحت الساعة 12:09. تصل ناشطة وتتوجّه مباشرةً إلى الدركي سائلةً “ما في حدا جوّا؟”، ونكاد نسمع صدى صوتها داخل أروقة المجلس الفارغة – أو المتظاهرة بالفراغ، الذي فضل أعضاؤه مرة أخرى تجاهل النساء، وكأنهم لا يعرفون ماذا يقولون لهن، كيف يتعاملن مع حججهن المأخوذة من الفقه والاجتهاد والمراجع والتجارب العراقية والإيرانية، فيما يسهل عليهم التعامل كالعادة مع الخطابات العلمانية، فيتم التصدي لها تلقائيا عبر الخطابات الخشبية نفسها (المؤامرة، ضد الدين والإسلام والعائلة والهوية والسلام و…و…و…). تلاحظ الناشطة عينها أن الفاصل المعدني الذي يحمي المجلس (ممّن؟) تمّ دهنه من جديد، بعد الاعتصام الأخير الذي ترك الفاصل ملطخاً بالدهان الأحمر: تجاهل المتظاهرات، ومن ثم طمس آثار مرورهن للاستمرار وكأن شيئاً لم يكن، برتابة التمييز واللامساواة المتجذرة إلى حد التطبيع الكامل. صرخت “مبروك البوية! دهنوه أبيض!” متوجهةً إلى المعتصمات حولها، بدعوة غير مباشرة إلى “تدنيس” الحاجز الحديدي مجددا بآثار النساء، فيضطرّ رجال المجلس، وكلهم رجال، إلى محوها من جديد. أليست هذه قصة نساء هذا المجتمع لا بل كل المجتمعات حتى اليوم، حفر الآثار على كافة الصعد ليأتي الرجال ويمحونها مرة بعد مرة من الذاكرة، سنة بعد سنة وقرن بعد قرن، بخطاب قيميّ لم يعد يعني شيئا لأحد، أو بصمت التجاهل الذي يزداد حرجا اليوم؟

شو القصة؟ حضانة؟ أيْوااا!

بلغ عدد المشاركات إثنتي عشرة، فيما يستمرّ وصول متظاهرات جديدات. يأخذ زينة إلى جنب الاعتصام صحفيون وصحفيات لإجراء مقابلات إعلامية. بدأت الناشطات بعملية تحضير اللافتات وأصبح بعضهن كالممثلة أنجو ريحان يتناوبن على الركوع على الأرض وكتابة شعارات كـ”لا تضار والدة بولدها” و”ويل لأمة تظلم قديساتها” على الكرتون. وبدا أن النساء ذات الخبرة الأكبر في اعتصامات الحملة هن المسؤولات عن العملية هذه، كونهن على معرفة بالشعارات التي ترفع عادةً. أثار المشهد فضول بعض سائقي الأجرة الذين توقفوا لبضعة ثواني للتأمل، باحثين في الآن عينه على ركّاب محتملين.

متظاهرات يحضّرن اليافطات

عند الساعة 12:15 بدأنا نسمع موسيقى مصدرها شاحنة مركونة على بُعد أمتار من الاعتصام. امرأة مارّة على الطريق مع ولديْن تقف لوهلة أمام المشهد وتسأل “شو القصة؟” وبعدما أجابتها زينة بـ”حضانة”، أكملت طريقها قائلةً “أيواااا”. هل هي “أيوا” الدعم والحماس، أم “أيوا” الاستهزاء اللا مكترث؟ في هذه “الأيوا” نتلمّح ضبابية أجزاء كبيرة من المجتمع اللبناني، من مجموعاته المتدينة إلى مجموعاته العلمانية، تجاه حراك النساء لتغيير قوانين الطوائف. صحيح ذلك: المحافظون داخل الطائفة يرفضون حراك النساء فيها، بقدر ما يرفضه بعض العلمانيين والعلمانيات الذين يتهمونهن بالخيانة. وفي حين كانت زينة تعمد على توزيع منشورات على بعض السيارات المارّة، وقفت الحاضرات على شكل خطّ منحنٍ ممتدّ على طول الفاصل المعدني.

أدارت المعتصمات ظهورهن للمجلس ووجّهن لافتاتهن نحو الطريق. هل هن يتوجهن فعلا للمجلس إذا، أم أنهن اقتنعن أن لا حياة لمن تنادي فيه بين جدرانه الفارغة، فتركنه خلف ظهورهن للتوجه نحو الطريق العام، وهي المجتمع والرأي العام الذي يشكون المجلس أمامه؟ شملت الشعارات المكتوبة “أمي ثم أمي” و”عايدوا أمهاتكم بحقهنّ عليكم وأعيدوا للأمهات حقهنّ منكم…”، و”شرع أحشائي أصدق من شرع الحاكم”، و”اسمع اسمع يا قاضي مين قلك الله راضي”. من رأي عام الشارع إلى رأي عام الصحافة: كان الصحفيون يتناوبون على الوقوف في الساحة الفارغة التي تفصل بين المعتصمات والطريق لتصوير الحدث وللتكلم مع المعتصمات.

“لنصير متل باقي الطوايف؟”

حافظتْ الوافدات الجدد على الشكل القوسي، حيث عمدن على تمديد الخطّ. لم يفرط الشكل هذا إلّا في بعض اللحظات الاستثنائية عندما ضبّت بعض النساء على بعضهن من أجل الدردشة. في حديثي مع إحداهن، تبيّن أنها سبق وشاركت في تحرك للحملة الوطنية. سألتها عن رأيها بمبادرة الأمهات التي تطرحها الحملة قبل الاعتصام. ردّت : “إيه قصدك قانون مدني؟”، وهو أبعد ما يكون عن مطالب “الحملة” بالذات. بعدما عرضتُ لها المبادرة وأهدافها، سألَت “إيه يعني لنصير متل باقي الطوايف؟”. هل هي ضبابية خطاب ومطالب الحملة التي تجعل بعض المشاركات في اعتصاماتها غير عالمات بكل مضمونها؟ أم أن موضوع الحضانة يحمل بعدا عاطفيا وحيويا يجعل من العوامل القانونية والإيديولوجية تفاصيل لا تعيرها بعض النساء أية أهمية؟ إلا أن اللغط حول مضمون المبادرة لم يؤثر على حماسها ودعمها للقضية، حيث أنهت الحديث قائلةً “كل شيء وما عم يسمعونا لح نضلّ ننزل هيدي القضية ما بتموت”.

تغيّر المشهد مجدداً حوالي الساعة 12:23، حيث توزّعت الحاضرات، وقد بات عددهن ثلاثة وعشرين، على شكل شبه دائري، تاركين فسحة في الوسط لزهراء التي كانت تواجه (وهي فعلا مواجهة) حينها قضية حضانة في المحكمة الجعفرية، كي تلقي كلمتها أمام كاميرا إحدى القنوات التلفزيونية. وبدتْ ملامح القلق على وجهها قبل أن تبدأ، فأتت زينة وأعطتها قبلة على الجبين لتشجيعها. وفي هذه اللحظة، مرّت دراجة نارية عليها شابان، صرخ أحدهما: “كل واحد عنده امرأة يطلقها ويريحنا بقى”، الأمر الذي أزعج بعض المعتصمات، ودفع بإحداهن إلى القول لزميلتها “شفتي! شفتي ليه!”. أكد الحدث حجة ما، في حديثهما ربما، حول الذكورية السائدة في المجتمع… بدأت زهراء كلمتها مسائلة القضاة “وين ضميركم؟”، كي تركّز بعدها على كل من حقوق الطفل والأمّ. وبعد أن أنهت كلمتها والدموع تنهمر من عينيها، اقتربت عبير خشاب وربّتت على كتفها كبادرة دعم، قبل أن تتولى إحدى الناشطات الميكروفون لتلقي كلمتها. وعندما حان دور زينة لتلقي كلمتها قاطعها مرتين فريق التصوير، إمّا لتغيير الإطار أو بحسب تقديري لانتظار بدء البث المباشر. كلمة الرئيسة هي قلب الحدث.

حراك المعارك الصغيرة ؟

وبعد إلقاء كلمتها، وكّلت ابراهيم ناشطتيْن بتوزيع المنشورات على الموجودين في محيط المجلس، وهو الشيء الوحيد الجامد في هذه المساحة المليئة بالحياة والآمال والأوجاع والغضب: لا تزال بوابته موصدة، ولم يخرج أحد للتفاعل مع الاعتصام. وعندما سألتُ إحدى الناشطات التي ألقت كلمة عن رأيها بالمبادرة المطروحة من قبل الحملة، كان جوابها أن كل انتصار في “المعارك الصغيرة” ضرورة للوصول إلى “الانتصار الكبير”. هنا أيضا، خطاب سبق وسمعناه في حراك الطائفة السنية بين ال 2006 وال2012: ففي حين هوجم الحراك داخل الطائفة لتغيير قوانين الأحوال الشخصية فيها، على أساس أنه خان القضية الكبرى (الدولة المدنية وقانونها المدني الإلزامي للأحوال الشخصية) من أجل ما سمي بتسويات “صغيرة” مع المرجعيات الدينية، كان جواب النساء السنّيات في الحراك حينذاك، كما جواب بعض النساء الشيعيات اليوم، هو نفسه: طال انتظار الانتصار الكبير النهائي، سنة بعد سنة، وعقد بعد عقد، فالشعارات العلمانية الرنانة “الكبيرة” لا ترجع الولد إلى أمه، ولم تضع حدّا حتى اليوم للإجحاف الكبير الذي يطال النساء في قوانين العائلة في لبنان، بينما يسكر الناشطون العلمانيون بنظريات لم تخترق يوما جدار المحاكم الشرعية والروحية السميك. وكأن نساء الحراكات داخل الطوائف يقلن بعبارات أخرى: ما هي الحياة إن لم تكن هذه الأشياء الصغيرة التي تتوالى، والانتصارات “الصغيرة” فيها هي التي تغير مجرى ومعنى الحياة فعليا، فيما نحن نحلم بالأشياء الكبيرة، وقد يسعى بعضنا إليها؟

حوالي الساعة 12:47، وتزامناً مع وصول ثلاث نساء مع أولادهن إلى الاعتصام، بدأت سلسلة ’نشاطات‘، مثل توزيع الورود البيضاء على المتظاهرات، بمساعدة الأطفال الفخورين بلعب دور ما إلى جانب زهراء التي كانت قد بدأت بالتوزيع. وما لبث جوّ التحرك العام أن تغيّر، فابتعد عن الهدوء الذي طبعه منذ بدايته. أعلنت زينة على الميكروفون: “بما أنو ما أجوا جماعة المجلس يعطونا مطالبنا ويوافقولنا على مبادرة الأمهات اللي طرحناها، بدنا كل وحدة منكم تترك رسالة لقضاة المجلس الشيعي الأعلى والمحاكم الجعفرية على البوية الجديدة لنباركلهم فيها، يفضل يكون بالأحمر”.

متظاهرات يكتبن على الفاصل المعدني

وهكذا، توجّه أخيرا الاعتصام إلى المجلس، بعد أن سبق وأدار ظهره له لكي يتوجه للرأي العام. وتدفّقت المتظاهرات نحو الفاصل المعدني، حيث تناوبْن على كتابة رسائل للقضاة. بينما كان أحد عناصر قوى الأمن الداخلي يشاهد بصمت، راح الآخر ينادي زميله صارخأً “عم يكتبوا على الحيط”، ليردّ الأول “خليهم يكتبوا”. ففرشاة الدهان الأبيض جاهزة لتحاول محو ما كتبته المعتصمات، وإن كان من الأصعب محو آثار هذا الحراك والحراكات المشابهة والمتعاقبة في وعي الرأي العام اللبناني عامة، والشيعي خاصة.

تسلقت إحدى الناشطات الفاصل وصرخت للنساء ليعطينها أسماء أمهات انظلمن في المحاكم الجعفرية. صرخت إحدى النساء “نادين جوني”، ليُكتب اسم الناشطة التي كانت من الأبرز في نضال النساء الشيعة في مجال الحضانة وغيرها قبل وفاتها عام 2019، كأول إسم على اللائحة (التي ستسرع فرشاة المجلس بمحوها). وبموازاة الحدث هذا، كانت زينة تطلب من المتظاهرات أن يضعن بصماتهن باللون الأحمر على لوحة بيضاء. عبّرت لي إحدى الأمهات التي أتت متأخرة برفقة ولديها أنها تدعم تحركات الحملة دائماً “لأنهم أكتر شيء فعّالين”، وتنسب لجهودهن تحسّناً ملحوظاً في تعامل المحاكم الجعفرية مع قضايا الحضانة في السنوات الأخيرة.

بعد زحمة الكتابة على الفاصل المعدني الذي بات مغطى بكلماتهن، بدأ عدد المعتمصات ينخفض. وعندما لم يبق سوى خمس ناشطات وهن زينة ابراهيم، عبير خشاب، وفيرا وزهراء اللتين لديهما قضية اليوم أمام المحكمة الجعفرية، والممثلة أنجو، قالت الأخيرة “مناخد الصورة السنوية؟”، وبالفعل، أخذنها سوياً. فانتهى الاعتصام وراحت زينة توزّع ما تبقى من الورود على المارّين، وأعطت وردة لعنصر الأمن الداخلي الأول ووردتين للثاني قائلة: “أنت بتستاهل اثنين”، لتظهر ابتسامة عريضة على وجه هذا الأخير. هل هو فعلا يحرس المجلس منها؟

وفيما كنت أقترب من الناشطة الوحيدة التي بقيت حتى آخر الاعتصام لأطرح عليها بعض الأسئلة، عبّرت عن حذرها عندما رأت شعار منظمة إنسانية دولية على دفتري (التي لا أنتسب إليها بأي شكل، إلا أنني سبق وحصلت فقط على دفتر يحمل شعارها)، قالت لي “خبّيه خبّيه! هلأ بشوفوه بتأذي حالك وبتأذينا”. دليل آخر على الحذر الكبير الدائم الذي تعمل عبره نساء الحراك في الطائفة الشيعية، والذي سيشكل موضوع أحد مقالاتنا اللاحقة.

ذهبتْ المتظاهرات، وفرغت الساحة تحت الشمس القوية، ولم تبقَ سوى الكلمات على اللوحة والفاصل الحديدي، بانتظار فرشاة المجلس. وبقي عنصرا الأمنطبعا، يحرسان الباب الموصد، وهل يعرفان فعلا ماذا يحرسان؟ وبقي المجلس الفارغ الصامت طبعا على جموده، أقله إلى حين.

كلمات المتظاهرات على الفاصل المعدني
  1. زينة إبراهيم في فيديو نشر على صفحة الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة نُشر في 7/3/2021.

  2. من منشور صفحة الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية على فيسبوك في 11/3/2021. تشمل المطالب الأخرى: عدم ربط إصدار قرارات الرؤية والنفقة بالطلاق والنشوز، إيجاد حلّ فوري لنفقة الأطفال في ظلّ الأوضاع الاقتصادية الراهنة، عدم إسقاط حق الرؤية والمبيت للمرأة المتزوجة من رجل آخر، أن تكون الحضانة للطرف الذي يسكن في لبنان وليس خارجه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، جندر ، محاكم دينية ، تشريعات وقوانين ، حقوق الطفل ، لبنان ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، حراكات اجتماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني