كيف يُطبَّق القانون الشيعي في محاكم الأحوال الشخصية اليوم وما هي شروط تعديله؟ مقابلة مع الباحث جان-ميشيل لاندري

،
2021-07-28    |   

كيف يُطبَّق القانون الشيعي في محاكم الأحوال الشخصية اليوم وما هي شروط تعديله؟ مقابلة مع الباحث جان-ميشيل لاندري

أجرى المقابلة سامر غمرون ومارك غزاله
ترجمها من الفرنسية مارك غزاله

من ضمن جهودنا لفهم حراك النساء لتغيير سن الحضانة في الطائفة الشيعية اليوم في لبنان، كما سائر الحراكات لإصلاح أنظمة الأحوال الشخصية، واستكمالاً للمقالات البحثية التي بدأنا بنشرها تباعاً حول الحراك الشيعي، ننشر هنا مقابلة أجريْناها مع الباحث جان-ميشيل لاندري، من جامعة كارلتون في كندا. ويخصّص لاندري أبحاثه لمسائل القانون والأخلاقيات والدين في الشرق الأوسط وأميركا الشمالية، وكان قدّم أطروحة دكتوراه حول عمل المحاكم الجعفرية وبعض الحوزات الدينية في بيروت. وقد يتساءل القارئ والقارئة لماذا نقصد باحثاً أجنبياً لتناول مسألة لبنانية إسلامية من هذا النوع، مع ما قد ينتجه هذا الوضع من إعادة تدوير قراءات غربية مجتزأة ومثقلة باعتبارات سياسية أو استعمارية (نحن على يقين بوجودها أولاً، وببعد لاندري عنها ثانياً). إلّا أنّنا أردنا عمداً الاستماع هنا إلى صوت من خارج دوائر القانون والفقه الجعفري وعلمائه في لبنان، بالرّغم من مرجعيّة العديد منهم ومعرفتهم الواسعة، لكونهم جزءاً أساسياً من الإشكالية المطروحة وحلّها أوّلاً، ولتلطيف مفاعيل الاحتكار المعرفي الذي يمارسه العديد من رجال الدين في لبنان حول مسائل القانون الديني ومحاكمه ثانياً (علماً أنّنا خصّصنا معظم المقالات الأخرى في السلسلة هذه لأصوات نساء الحراك وأفكارهنّ). ونضيف طبعا سبباً ثالثاً مهمّاً لنا، ألا وهو مقاربة القانون والقضاء عامّة، والقانون الديني ومحاكمه خاصّة، من باب العلوم الاجتماعية والإنسانية، بشكل متجانس مع أهداف “المفكرة القانونية” منذ نشأتها. فنسمع هنا إذاً صوت باحث أمضى سنوات في مساحات المحاكم الجعفرية والحوزات الشيعية، وعاشر ناسها، من دون أن يكون له مصلحة في نتيجة الصراع الدائر اليوم حول إصلاح نظام الأحوال الشخصية في الطائفة، على أن نستكمل لاحقاً ما قد يفوت الباحث الغربي من خصائص وتفاصيل الوضع اللبناني. كما أنّ إلمامه، ليس بالنصوص الأساسية في الإسلام الشيعي فحسب، بل أيضاً بالممارسات القانونية والقضائية الجعفرية، جعل منه محاوراً مفيداً، من شأن الحوار معه أن يعزّز معرفة قرّاء “المفكرة” غير الملمّين بالقوانين الإسلامية ولاسيّما الشيعية ببعض المسائل العامّة التي ترعى القواعد المطبّقة اليوم في المحاكم الجعفرية في مجال الأحوال الشخصية.

____

المفكرة القانونية: كيف تعرّف “القانون الشيعي” المطبّق في المحاكم الجعفرية في لبنان في مجال الأحوال الشخصية، للقرّاء غير الملمّين بالقوانين الدينية؟ ما هي الخصائص التي تميّزه عن القوانين الأخرى التي تحظى بانتباه أكبر دولياً أو حتى عربياً، مثل القوانين المدنية أو حتى الدينية السنّية؟

جان-ميشيل لاندري: بدايةً أريد أن أشير إلى نقطتين. أوّلاً، يجب التمييز بين القانون الشيعي (أو بالأحرى التفسيرات الشيعية للشريعة) من جهة، وقانون الأحوال الشخصية الشيعي المعتمد في لبنان من جهة أخرى. القانون الذي تعمل به المحاكم الجعفرية اللبنانية هو فعلياً قانون هجين، فمصدره ديني لكنّه ينتج ويطبّق داخل أجهزة وهياكل تعود إلى القانون العلماني. وكما يعلم المسلمون جيّداً، لا تعني الشريعة فقط الأحوال الشخصية [قانون العائلة]، بل تشمل مجموعة ممارسات دينية أخرى (كيف يحيي المسلم رمضان مثلاً) والمعاملات (مثل البيع أو الإيجار، إلخ.). تمّ تجزئة مجموعة القواعد هذه والاقتطاع منها خلال الحقبة الاستعمارية، فتمّ تقليصها حتى أصبحت تشمل الأحوال الشخصية فقط. علماً أنّ الفرق كبير بين فلسفة هذا الكمّ القواعدي [أي الشريعة حسب القراءات الشيعية] وفلسفة القانون المدني العلماني [الغربي، كما هو معتمد في لبنان ما بعد الاستعمار].

وإذا أردنا تلخيص هذه النقطة المعقّدة بكلمات قليلة، يمكن القول إنّ ما يُعرف بالقانون الإسلامي لا ينتظم حول مفهوم “العدالة العمياء” [التي تُعتَبَر من ميزات القانون الغربي]. وتصف العدالة الغربية العلمانية نفسها بالـ”عمياء” بمعنى أنّها تُخضِع الجميع إلى القواعد والقوانين عينها، حيث يتمّ تجريد المتقاضين من ذاتيّتهم إلى حد كبير. إلّا أنّ القانون الإسلامي ليس “أعمى”، ولا يزيل ذاتية المتقاضين، بل هو مبني على مبدأ اختلاف كلّ قضية وكلّ حالة عن الأخرى، فتستحق حلّاً مختلفاً خاصّاً بها وبوضعها. وقد تبدو قدرة التكيّف هذه للبعض باباً مفتوحاً على كلّ أنواع التعسّف، إلّا أنّها [من منظار فلسفة القانون الإسلامي] تسمح أيضاً للقاضي باستعمال الوسائل الفقهية كافّة لمعالجة المشكلة المطروحة أمامه في المحكمة.

ثانياً، يجب التمييز بين القانون “الشيعي” و”القانون السنّي”. فيما يتشارك التراثان القانونيان نقاط وخصائص عدّة، إلّا أنّ القانون الشيعي يعتمد على مجموعة نصوص تختلف قليلاً عن تلك التي يستمدّ “القانون السنّي” مصادره منها. فالقاضي (أو الفقيه) الشيعي يعتمد على أحاديث أئمّة الإسلام الشيعي التي لا يأخذها نظيره السنّي بعين الاعتبار. وعندما نغوص في القانونين الشيعي والسنّي كما يُمارَسان في المحاكم الشرعية اللبنانية [أي بما يتعلّق بالأحوال الشخصية]، تبرز نقطة اختلاف أخرى مهمّة جداً: لقد تمّ تقنين (codification) الجزء الأكبر من قواعد الأحوال الشخصية السنّية في لبنان (وهي جزء صغير من القانون الإسلامي كما قلنا)، بينما لا يزال القانون الشيعي غير مدوّن في لبنان، بعكس بلدان أخرى مثل العراق وإيران وأفغانستان. ويجدر التذكير هنا أنّ القانون الإسلامي (الشيعي أو السنّي) بشكله التقليدي غير مقنّن. ويعتبر البعض أنّ التقنين يجمّد ويحدّ من المساحة القانونية المنفتحة نسبياً التي تمثلها الشريعة، أي أنّ التقنين يحدّ من قدرة القاضي على التكيّف مع الحالات المختلفة التي تعرض أمامه، إذ أنّه يعيدنا إلى مسألة “العدالة العمياء” التي تكلّمت عنها. إن القانون المدون غالباً ما يدفع القاضي إلى تطبيق القواعد نفسها على جميع الحالات أمامه، كما في حالة الحضانة مثلاً. لكنّ هاجس توحيد القواعد ليس مركزياً في التطوّر التاريخي للقانون الإسلامي.

سيدة العدالة أو الآلهة تيميس. (المصدر):

س. : هل مقاومة التقنين لدى الطائفة الشيعية خصوصية لبنانية؟

لا أعتقد ذلك. فعدم تقنين قانون الأحوال الشخصية الشيعي في لبنان، يعود إلى حادثة تاريخية محدّدة. فخلال الانتداب الفرنسي، وتحديداً في الثلاثينيّات، طلبت السلطات الاستعمارية من الطائفة الشيعية تقنين قانون الأحوال الشخصية الخاص بها، في إطار إصلاحات أوسع طرحتها سلطات الانتداب، وفي وقت كان القانون السنّي قد قُنّن (جزئياً على الأقلّ) في ظلّ الحكم العثماني. اعترض المسلمون (شيعة وسنّة) على الإصلاحات هذه لأسباب عدّة[1]، ممّا أدّى إلى إجهاضها، كما إلى إجهاض عملية تقنين القانون الشيعي. ولقد تمّ تقنين العديد من قوانين الأحوال الشخصية خلال القرن العشرين، إلّا أنّ شيعة لبنان أفلتوا من هذا المشروع.

المفكرة القانونية: يعتبر بعض اللبنانيين واللبنانيات (من الطائفة الشيعية أو غيرها) أنّ تقنين نصوص واضحة تحدّد حقوق كلّ من الزوج والزوجة والطفل قد يكون حلّاً للحدّ من استنسابية وغموض القواعد المطبّقة والأحكام القضائية في الأحوال الشخصية. بحسب الرأي هذا، لا يكفي رفع سن الحضانة، بل يجب تقنين مجمل قواعد الأحوال الشخصية من أجل التخلّص من الغموض الذي يفسح المجال للتدخلات والمحسوبيات السياسية والفساد، وإلّا لن يكون هناك عدالة في المحاكم الجعفرية. ما رأيك بهذا المطلب، الذي يبرز من حين إلى آخر بالرغم من غياب الإجماع حوله؟

لاندري: قد يحدّ تقنين القواعد الشرعية من ظاهرة عدم وضوح واستقرار الحلول القانونية المعتمدة اليوم، ولكن من المستحسن عدم المبالغة في تقدير فعالية هذه العملية. فالقانون اللبناني مثلاً قُنّنت معظم أجزائه [القانون المدني، الجزائي، إلخ.]، ولكن ذلك لم يمنع أبداً الفساد والظلم والتفاوتات. فالتقنين لا يحقق المساواة بالضرورة، بل يوحّد القواعد، والتوحيد لا يعني المساواة بين المرأة والرجل، وإن من الممكن طبعاً أن يشكّل أداة نحو المزيد من المساواة.

قد يعزّز اعتماد التقنين أيضاً الطابع الهجين للقوانين الدينية الذي سبق وتكلّمت عنه، مع مجموعة المشاكل التي ترافقه. سبق وشرحت كيف أنّ نواحٍ عدّة من قوانين الأحوال الشخصية (كما تمارس في لبنان وفي دول أخرى) مشتقة من القانون العلماني أو مرتبطة به وبفلسفته. ففكرة اعتماد محامين [داخل المحاكم الجعفرية] تثير نقاشاً مثلاً بين الفقهاء الشيعة، فيرى البعض أنّها تأتي من القانون العلماني، وهي ممارسة مكلفة للمتقاضين، وغالباً ما تنتج لا مساواة بينهم (بما أنّ قسماً منهم يستطيع تحمّل تكلفة محامين بارزين، بعكس الآخرين). كما أنّ مسألة وجود محكمة استئناف كهيئة ثانية (بالإضافة إلى المحاكم الابتدائية التي تشكّل الهيئة الأولى) فرضها أيضاً منطق القانون العلماني [مع مفاعيل تحدّ من القدرة على الاجتهاد كما نرى لاحقاً]. نرى إذاً التراث القانوني الإسلامي خاضعاً لبنية قانونية [علمانية] غريبة عنه، والتقنين هو عنصر من هذه البنية.

المفكرة القانونية: ماذا عن المجتهدين الشيعة ودورهم الممكن هنا؟ هل يسمح بابتكار حلول أخرى لمسألة الحضانة؟

لاندري: من الضروري هنا تعريف بعض المصطلحات، مثل الاجتهاد والمرجع والمرجعية. الاجتهاد هو القدرة على استخراج قواعد قانونية من خلال تفسير النصوص الشرعية، وهي قدرة تُكتسب في مدارس الشريعة الإسلامية وحوزاتها. وبالتالي فإنّ المجتهد، أي الشخص القادر على القيام بهذه العملية التفسيرية، يكون قادراً على دراسة قضية معيّنة (أم ترغب في الاحتفاظ بحضانة طفلها على سبيل المثال) انطلاقاً من النصوص الدينية.

المرجع هو مجتهد (صاحب اجتهاد) له تأثير مهم، بمعنى أنّ الأحكام والقواعد القانونية التي استخرجها من الشريعة يعتمدها ويتبعها آخرون. ولا ينحصر هذا الأمر بمجال الأحوال الشخصية والعائلة، بل يمكن أن يتعلّق أيضاً بمسائل عدّة أخرى مثل طريقة أداء الصلاة، أو الحج. فعندما يتبنّى العديد من المجتهدين الشيعة القواعد المستخلصة من أحد المجتهدين، نقول إنّ هذا المجتهد أصبح مرجعاً. إلّا أنّه لا يوجد إجماع دائماً حول من هو مرجع ومن ليس كذلك، إذ أنّ مرجعيّة بعض المجتهدين خاضعة للنقاش والخلاف. لا يوجد مؤسّسات تضفي طابعاً رسمياً للانتقال من موقع المجتهد إلى موقع المرجع.

وهناك مجتهدين عدّة في لبنان، والبعض منهم قضاة في القضاء الجعفري [ليس كلّ القضاة مجتهدون إذاً]. وهؤلاء القضاة المجتهدون لديهم القدرة بالتالي على استخراج القواعد والأحكام بأنفسهم من مجموع النصوص الشرعية، بينما العديد من القضاة الآخرين لم يصلوا إلى درجة المجتهد. بعضهم يمكنه استخراج قواعد فقط في مجالات معيّنة (مثل الطلاق)، إلّا أنّه فيما يخصّ المجالات الأخرى، يلجأون إلى المرجعيّات الكبرى. يمكن إذاً للقضاة أن يجروا التحليل القانوني الخاصّ بهم، أو الإشارة إلى عمل واجتهاد شخص آخر (أي مرجع).

المفكرة القانونية: هل يصحّ إذاً القول إنّه يمكن لبعض القضاة الجعفريين في لبنان أن يصدروا أحكاماً (في الحضانة أو غيرها) تتعارض مع مرجعيّة السيستاني المُتّبعة في المحاكم الجعفرية اللبنانية (التي تحدّد سنّ الحضانة بسبع سنوات للبنت وسنتين للصبي)؟

لاندري: نظرياً نعم: يمكن للقضاة الجعفريين في لبنان أن يبتعدوا عن فقه السيستاني ومرجعيّته عند تحديد سن الحضانة في أحكامهم، أو في أي مسألة أخرى متعلّقة بالأحوال الشخصية في إطار نزاع قضائي أمامهم (مثل الطلاق).

لكن عندما ننتقل إلى الوضع الفعلي على الأرض، يصطدم هذا الجواب النظري بمجموعة عوائق تجعله بعيداً عن الواقع القضائي الجعفري في لبنان اليوم. هناك عناصر عدّة تحدّ بشكل كبير من هامش تحرّك القاضي الابتدائي: طرق تعيين القضاة مثلاً، بالإضافة إلى دور محكمة الاستئناف الشيعية (التي أدخلها القانون العلماني). فيمكن لمحكمة الاستئناف، وبحسب فترات وتوجّهات أعضائها، فسخ القرارات الابتدائية التي تتعارض مع المعايير التي يضعها مرجع معيّن، الأمر الذي يحدّ بشكل كبير من الحرّية الاجتهادية لدى قضاة المحاكم الابتدائية. هكذا يمكن لآلية الاستئناف في بعض الحالات أن تقفل فضاء الفقه الجعفري المشهور بحيويّته. أذكر هنا، حتى لو كنت أكرّر نفسي، أنّ إمكانية الاستئناف هذه لا علاقة لها بالقانون الشيعي التقليدي حيث غالباً ما يكون استئناف قرار المحكمة أمراً مستهجناً، إذ لا يمكن محو كلمة قاضٍ بشطبة قلم. تأتي آلية الاستئناف هذه من القانون العلماني الذي فرضه الاستعمار (الفرنسي تحديداً في حالة لبنان).

المفكرة القانونية: هل هناك عوامل سياسية تلعب دورها، كأن تدفع المحاكم باتّجاه اتّباع مرجعية السيستاني بشكل تلقائي مثلاً؟

لاندري: ليس بالضرورة. يوجد هرمية بين رجال الدين في الطائفة الشيعية حيث يُصنّف المجتهدون ذوو التأثير وحدهم كمراجع، وبعض تلك المراجع لها تأثير أكبر من غيرها. يُعدّ السيستاني أهمّ المراجع وأبرزها اليوم. هذا لا يعني أنّ الجميع ملزم باتّباعه، إلّا أنّه ليس من الغريب أبداً أن تكون مرجعيته معتمدة من قبل أكثرية من القضاة.

المفكرة القانونية: بعد كلّ هذا، كيف تُفسّر إذاً ندرة الاجتهادات في المحاكم الابتدائية الجعفرية؟ هل تكمن المشكلة في تدريب القضاة؟ أم هي نتيجة ممارسات المحاكم التي باتت روتينية؟ أم هل يعود ذلك إلى النظام الأبوي المسيطر في المحاكم، كما تقول بعض التيّارات النسوية؟

لاندري: قد يكون لبعض القضاة مواقف أبوية. لكن أوافقكم أيضاً الرأي عندما تقولون إنّ هناك تأثير العمل الروتيني، لا بل أكثر من ذلك، هناك ظاهرة توحيد المعايير والمقاييس تنبع من هذه الروتينية. علينا الاعتراف بأنّ الاجتهاد [في المفهوم الجعفري] عملية مكلفة ومعقّدة للغاية، حيث أنّها تتطلّب الغوص في بحر من النصوص الشرعية بحثاً عن حلول لمشاكل قانونية، وهو ما يتطلّب وقتاً طويلاً جداً.

إلّا أنّ المحاكم الجعفرية في لبنان تعاني من نقص في الموارد، فيما هي تعالج العديد من القضايا في وقت محدود. في ظلّ الوضع هذا، يصبح النقص في أعداد القضاة عائقاً أمام قيامهم بعملية الاجتهاد. وسأعطي مثالاً ملموساً لتوضيح هذه النقطة. يوجد لدى مؤسّسات السيد محمد حسين فضل الله مكتب لحلّ النزاعات في إطار القانون الجعفري (وهي نزاعات عائلية في الغالب)، حيث يعمل اليوم من يحتلّ مركز “القاضي” (هو ليس قاضياً فعلياً ولكن يلقّب كذلك) غالباً باسم أحد المراجع الإيرانية منذ وفاة السيد فضل الله. يتلقّى هذا “القاضي” أربع زيارات يومياً، أي يعالج أربعة نزاعات مختلفة فقط، بينما غالباً ما يترتّب على القضاة الشيعة في المحاكم، ولا سيّما في محكمة الاستئناف، حلّ عشرات النزاعات يومياَ.

ففي ظلّ جميع هذه العوامل، هل يمكن فعلاً للقضاة أن يجتهدوا، حتى ولو حصلوا على أفضل تدريب وتمتّعوا بالمهارات الفكرية المهمّة؟ بالطبع لا. النقص في الموارد والقضاة يجعل من المحاكم الشرعية آلات تصدر أحكاماً، ويصبح الاتّكال على الاجتهاد مستحيلاً طالما أنّ العوامل المادية التي تتطلّبها هذه العملية كالوقت، غير متوفّرة. انطلاقاً من ذلك، نعم يمكن أن يكون القضاة غير مُدرّبين على الاجتهاد، ولكن في جميع الحالات وحتى لو تلقّوا التدريب اللازم، فلن يكون لديهم الوقت الكافي لتأدية هذه العملية.

المفكرة القانونية: لكن كان من الممكن أن ترسو هذه الروتينية أو توحيد المعايير هذا الذي تتحدّث عنه على حلول أكثر مساواة بين الرجل والمرأة. فلماذا رستْ الممارسات الروتينية للمحاكم الشيعية على نقيض ذلك على حلّ تعدّه العديد من النساء والأمهات مجحفاً بحقهنّ؟

لاندري: لأنّ هذه الممارسات الروتينية غالباً تتمّ على أساس اجتهاد السيستاني. لماذا السيستاني؟ لا أعتقد أنّ القضاة الشيعة اختاروا بشكل اعتباطي اتّباع القاعدة الأكثر إجحافاً في مسألة الحضانة. كما أشرت سابقاً، السيستاني هو المرجع الأكثر تأثيراً اليوم. يجب التذكير بأنّ المجتهدين والمراجع يتّفقون على مسائل عدّة، إلّا أنّهم في مسائل أخرى مثل الحضانة، يتّبعون قواعد وحلول عدّة. وغالباً ما يتبع القضاة الشيعة وبخاصةً في المحكمة العليا السيستاني بشكل رئيسي، كونه المرجع الأساسي اليوم. فليس غريباً أن يقوموا بذلك، ولكن لا يعني ذلك عدم إمكانية اللجوء إلى مراجع أخرى.

الفكرة القانونية: ما هي الطريقة الأكثر منطقية وواقعية وعدالة لتحقيق أي تغيير في قانون الطائفة الشيعية؟ نتحدّث هنا عن معاناة حقيقية يعيشها عدد كبير من النساء يُحرَمن من أطفالهنّ في سنّ مبكرة جداً.

لاندري: كيف نجعل قانوناً غير مقنّن أكثر عدالةً؟ هل يمكننا تحقيق ذلك من دون تقنينه؟ هذا نوعاً ما السؤال الذي تطرحه، وهو سؤال صعب. أعتقد أنّ التغيير يمكن أن يأتي من المرجعية الدينية، فيمكن للسيستاني أن يعيد النظر بموقفه، كما يمكن لمواقف مرجعية أخرى أن تفرض نفسها على الساحة الشيعية في لبنان وخارجه، أو أن تقوم المحاكم الجعفرية في لبنان (الابتدائية والعليا) بتغيير ارتباطها بالمرجعيات. كما يمكن للقضاة أن يتخذوا مواقف ويطبقوا قواعد أكثر تقدميةً في قضايا الحضانة. وأقصد بـ”أكثر تقدمية”، أكثر عدلاً لأمهات لبنان الشيعة. أما بالنسبة لشروط إمكانية سير القضاة الجعفريين بهذا الاتجاه، فلا شك أنّه يجب البحث عنها في تطوّر ميزان القوى على الأرض. ومن المؤكّد أنّ حراك النساء الشيعيات في لبنان اليوم يؤدّي دوراً مهماً جداً في هذا الصدد.

* جان-ميشيل لاندري: أستاذ مساعد في الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في جامعة كارلتن – كندا

“حظي البحث الذي أجراه السيد لاندري بدعم مادي من المجلس البحثي الكندي للعلوم الإنسانية، من ضمن المشروع البحثي : “عند تقاطع تعدد الثقافات والمساواة الجندرية: هجرة الأحوال الشخصية الدينية اللبنانية من منظار النظام العام في كيبيك”، تحت إشراف السيد حارث الدباغ، فرع القانون، جامعة مونتريال، CRSH Savoir، وبمشاركة الباحثين دونيز هللي، جان ميشال لاندري وجابور فاثاللي. والآراء التي تمّ التعبير عنها في هذه المقابلة لا تمثل سوى صاحبها.”

  1. لقراءة المزيد عن الموضوع:

    Méouchy, Nadine. « La réforme des juridictions religieuses en Syrie et au Liban (1921-1939) : raisons de la puissance mandataire et raisons des communautés », Pierre-Jean Luizard éd., Le choc colonial et l’islam. La Découverte, 2006, pp. 359-382.

    Weiss, Max. In the Shadow of Sectarianism: Law, Shi’ism, and the Making of Modern Lebanon. Harvard University Press, 2010.

انشر المقال

متوفر من خلال:

جندر ، محاكم دينية ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، قرارات قضائية ، تشريعات وقوانين ، لبنان ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، حراكات اجتماعية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني