قيس سعيّد قارئا للتّاريخ: من السرديّة الوطنيّة إلى التمثّلات الشخصيّة


2022-07-20    |   

قيس سعيّد قارئا للتّاريخ: من السرديّة الوطنيّة إلى التمثّلات الشخصيّة

منذ أن أصدر رئيس الجمهورية قيس سعيّد مشروع الدستور بالرّائد الرسمي بتاريخ 30 جوان 2022، والّذي سيعرض على الاستفتاء يوم 25 جويلية 2022 تعالت بعض الأصوات المدافعة عن هذا المشروع معتبرة ايّاه فرصة للمرور لجمهوريّة جديدة تقطع مع العشريّة السّابقة وتفتح لتونس المجال من أجل تحقيق الأهداف الّتي قامت عليها الثورة وإرساء “نظام ديمقراطيّ حقيقيّ”. فيما انبرى آخرون سواء من الفاعلين السياسيّين أو المختصّين في القانون الدستوري نقدا وانتقادا لهذا النصّ محلّلين أبوابه وفصوله، متوقّفين عند صياغته ومضامينه ومعانيه.

يجمع أغلب المهتمّين بالنصوص الدستوريّة في ظلّ الأنظمة الديمقراطيّة على أنّ هذه الأخيرة تكمن مقاصدها في ضمان حقوق المواطنين وحريّاتهم السياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة والثقافيّة من خلال إرساء تنظيم للسّلط العموميّة يقوم على مبادئ كبرى أهمّها المشروعيّة الشعبيّة والفصل بين السّلط. إلاّ أنّ جزءا لا يتجزّء من هذه النصوص يكمن فيما يسمّى بالتوطئة أو الديباجة والّتي لا تقلّ أهميّة عن بقيّة الأبواب والفصول، لاحتوائها لمبادئ فلسفيّة وفكريّة جوهريّة من شأنها أن تؤسّس الى الهويّة الّتي ترنو السّلطة التأسيسيّة أن تنسبها للنظام السياسي الّتي هي بصدد ارسائه. من جهة أخرى، تنطوي الديباجة ولو بصفة مقتضبة ودون إطناب على تذكير بهويّة الشعب أو الأمّة عبر استحضار المحطّات الكبرى لماضيه المشترك، محاولة تركيب سرديّة تاريخيّة تؤسّس لأسطورة أو سرديّة وطنيّة جامعة Un roman national تتغاضى بصفة عامّة عن ذكر الأحداث والشخصيّات الّتي يمكن أن تكون محلّ خلاف أو انقسام بين المواطنين.

لم يحد الدستوران الحديثان اللّذان عرفتهما تونس -أي دستور 1959 ودستور 2014-عن هذه القاعدة. ورغم اختلاف السياق التاريخي اللّذين صدرا فيهما، واختلاف الغايات الّتي من أجلها كُتبا، فانّ توطئتي 1959 و2014 لم تعرفا اختلافات جوهريّة على مستوى المرجعيّات الفلسفيّة والفكريّة ولا على مستوى الإشارات التاريخيّة. فظلّت الإشارة الى القيم الإنسانية/حقوق الانسان والى الديمقراطيّة وسيادة الشّعب والنظام الجمهوري قائمة الذّات. كما تضمّنت اعترافا بالنضالات الّتي خاضها الشعب التونسي في مواجهة قوى الظلم والطغيان والاستبداد، سواء ضدّ المستعمر الفرنسي أو ضد نظام زين العابدين بن علي الّذي قامت ضدّه ثورة 14 جانفي 2011. الاّ أنّ الإشارات التاريخيّة المضمّنة بمشروع دستور الجمهوريّة التونسيّة الجديد جاءت مختلفة في صياغتها وفي تمثّلها لماضي البلاد. وهي إشارات تعكس قراءة “شخصيّة” للتاريخ لا تجانب الحقيقة التاريخيّة فقط بل تمثّل أيضا قطيعة مع السرديّة الوطنيّة الّتي كانت الى حدّ ما محلّ توافق بين أغلب الفاعلين السياسيين.

لن نتعرّض في مستهلّ هذه المقالة الى مقارنة بين التوطئات الثلاث ولا إلى المبادئ الّتي انبنت عليها توطئة مشروع الدستور. فقد تناولها المختصّون في القانون الدستوري بالبحث والتحليل. تكمن الاشكاليّة الّتي سنتعرّض لها في محاولة تفكيك القراءة الّتي تقدّمها توطئة هذا الدستور لتاريخ تونس وماضيها من خلال التوقّف عند نقطتين تبدوان على قدر من الأهميّة وهما التاريخ الدستوري للبلاد وتمثّله للمراحل التاريخيّة الّتي مرّت بها، محاولين في كلّ مرّة التثبّت في ما إذا كانت هذه القراءة تدخل في خانة التاريخ أم في خانة الذاكرة.

قراءة انتقائيّة للتاريخ الدستوري

انّ القارئ لتوطئة الدستور لا يمكن أن لا يثير انتباهه الاهتمام الكبير الّذي توليه لمسألة النصوص الدستورية السابقة الّتي عرفتها البلاد. من ذلك الإشارة الى دستور قرطاج ثمّ الى عهد الأمان فدستور 1861 “فضلا عن النّصوص الدستورية التي عرفتها تونس إثر الاستقلال” قبل العودة الى التعريج على دستور الزمام الأحمر أو الميزان الّذي يعتبره كاتب النصّ (الّذي أوكل لنفسه السّلطة التأسيسيّة بالمناسبة) “من بين أهمّ النصوص الدستوريّة”. انّ أوّل الملاحظات الّتي تتبادر الى ذهن القارئ تتعلّق بماهية هذا النص (الزمام الأحمر) الّذي أولته التوطئة مرتبة النصوص الدستوريّة. في الواقع، يتعلّق بمجرّد وثيقة تذكر المصادر أنّها صدرت في عهد عثمان داي (1599-1610) تنظّم عمليّة جمع الجباية من قبل جند الترك ولا نعلم الشيء الكثير عن تفاصيلها ولا عن ديمومتها. فباستثناء اشارتين مقتضبتين للزمام الأحمر لدى ابن أبي الضياف والوزير السرّاج، لا نجد له أثرا في بقيّة المصادر (على غرار ابن أبي دينار) ولا في الوثائق والنصوص الأرشيفيّة الّتي قام بجمعها المؤرّخون مثل الأستاذ توفيق البشروش[1].

ينبغي هنا التساؤل عن الغاية الّتي دفعت بالمؤسّس الى استعراض تاريخ تونس الدستوري والهدف الّذي يكمن وراء الإشارة إليها بالإضافة الى دواعي الإشارة الى بعض النصوص والتغافل عن البعض الآخر.

عادة ما يفخر التونسيّون بأنّ للبلاد تاريخا دستوريّا ضاربا في القدم، معلّلين كلامهم بالمقطع المقتطف من كتاب السياسة لأرسطو والّذي اعتبر فيه أنّ دستور قرطاج هو أفضل الدساتير في العالم القديم نظرا لجمعه بين ايجابيّات النظام الديمقراطي والنظام الأرستقراطي. دون العودة الى المؤسّسات المميّزة لهذا النظام ولا إلى الانتقادات الّتي وجّهت له من طرف القدامى أنفسهم[2]، وحتّى وان سلّمنا بأنّ قرطاج كانت رائدة في عصرها لاختيارها نظاما جمهوريّا لا ملكيّا (وهو ما يتوافق الى حدّ ما مع السرديّة الوطنيّة التونسيّة الّتي تريد التأكيد على التقاليد الجمهورية للدولة التونسيّة)، حريّ بنا أن نتساءل في مرحلة أولى: هل كان لقرطاج “دستور” بالمعنى الحديث للكلمة بما هو مجموعة قواعد مكتوبة تضمن حقوق المواطنين والمواطنات وتنظّم السلط العموميّة؟ أم أنّها أعراف جرى العمل بها في سياق تاريخيّ محدّد؟

في مرحلة ثانية، تشير توطئة الدستور إلى نصّين قانونيّين/دستوريّين حديثين، جعلت السرديّة الوطنيّة منهما رمزا لحركة اصلاحيّة حملت رايتها نخبة مثقّفة متونسة، أرادت أن تُخرج المملكة من براثن الأزمة والتبعيّة والتخلّف وأن تدخل بها غمار الحداثة في سابقة تاريخيّة مقارنة ببقيّة الفضاء الإسلامي والعربي آنذاك، وهو ما يؤكّد سرديّة الاستثناء التونسي. لطالما سوّقت دولة الاستقلال ومن بعدها دولة بن علي لهذه الرواية الّتي مفادها أنّ الاصلاح كان على مرّ تاريخ البلاد أحد مكوّنات الهويّة لتونسيّة ومنهجها السياسي. وهو ما تناولته بالتفصيل الباحثة Béatrice-Hibou في محاولتها تفكيك الأسس الايدولوجيّة للدولة التونسيّة تحت حكم بورقيبة وبن علي.[3] يبدو للوهلة الأولى أنّ محرّر الدستور يعتبر هذا الأخير مواصلة لهذه المسيرة التاريخيّة منذ القرن التاسع عشر، وهذا أمر ايجابيّ. الاّ أنّ هذا الانطباع لا يجب أن يخفي حقيقة أخرى وهي تجاهل بقيّة الدساتير الّتي عرفتها تونس والإشارة إليها بصفة عرضيّة. وهنا يجب التوقّف عند وجاهة استعراض الدساتير القديمة الّتي عرفتها البلاد وهذه الانتقائيّة الّتي ميّزت تعامل كاتب التوطئة معها.

ليست الإشارة الى الدساتير والنصوص التشريعيّة القديمة والمؤسّسة أمرا دارجا في توطئات الدساتير الديمقراطيّة. في ذات السياق، تبدو توطئة دستور الجمهوريّة الخامسة الفرنسيّة-والّتي يبدو أنّ توطئة مشروع الدستور قد اُستلهمت منها-استثناء في هذا السياق بتأكيدها على تمسّك الشعب الفرنسي “بحقوق الإنسان ومبادئ السيادة الوطنية مثلما حدّدها إعلان 1789”[4]. نلاحظ اذن أنّ الإشارة لم تشمل كافّة النصوص الدستوريّة أو ذات القيمة الدستوريّة السّابقة رغم ثراء التراث التشريعي الفرنسي. لقد اكتفت التوطئة بالإشارة الى النصّ التأسيسي الأشهر الّذي جاء تعبيرا عن مبادئ الثورة الفرنسيّة والّذي تأسّست على أثره كافّة التجارب السياسيّة اللّاحقة والّذي أتمّته الجمهورية الخامسة. فلا يعقل مثلا أن تشير توطئة دستور الجمهوريّة إلى قانون نابليون لسنة 1804 (Code Napoléon de 1804) ولا إلى وثيقة فيلير كوتيري (Ordonnance de Villers-Côtterets) الصادرة في 1539 على أهميّتهما التاريخيّة، ذلك أنّهما لا يتوافقان مع روح النظام الجمهوري.

يمكن الاستنتاج إذن أنّ استحضار الإرث التشريعي في توطئات الدساتير له وظيفة سياسيّة شديدة الارتباط بطبيعة النظام الّذي تريد السّلطة التأسيسيّة إرساءه ويتجاوز مجرّد السّرد التاريخي. فهل ينطبق هذا على الإرث الدستوري التونسي المذكور في توطئة الدّستور؟

لاشكّ أنّ الذاكرة الجماعيّة الرسميّة التونسيّة تنظر بعين الفخر إلى عهد الأمان ودستور 1861 باعتبارهما سبقا في العالم الإسلامي. لكنّ البحوث التاريخيّة الجادّة ما فتئت تنسّب هذه الرؤية استنادا إلى قراءة نقديّة لهذه النصوص انتهت إلى أنّها لم تقوّض أسس الحكم الملكي الاستبدادي المطلق والثيوقراطي ولم تبن تصوّراتها لا على الاعتراف بحقوق الانسان الأساسيّة والطبيعيّة ولا على المواطنة القائمة على مبدئي الحريّة والمساواة أمام القانون[5]. وليس أدلّ على فشل هذه التجربة التحديثيّة من انتفاضة الرعيّة ضدّها في 1864 نظرا لطابعها الفوقي المفروض من قبل النخبة الحاكمة والقوى الأجنبيّة المتنافسة على تونس آنذاك.

من جهة أخرى، يبدو الاقتصار على الإشارة الى هذين النصّين غريبا. حيث تمّ تجاهل دستور 1959 الّذي حرّره مجلس تأسيسي منتخب إثر التخلّص من الهيمنة الاستعماريّة، وذلك عبر انتخابات شاركت فيها مختلف الفعاليّات السياسيّة وشارك في كتابته ممثّلون عن مختلف الفئات الاجتماعيّة والقطاعات المهنيّة. وأهملت التوطئة أيضا دستور 2014 وهو أوّل دستور ديمقراطي في تاريخ البلاد، حُرّر هو الآخر من طرف مجلس تأسيسي منتخب لأوّل مرّة انتخابا حرّا وتعدديّا. ومهما كانت المؤاخذات على هذا الدستور فلا يمكن إنكار المسار الثوري والتحرّكات الشعبيّة الّتي وقفت في وجه الإسلام السياسي ممثّلا في حركة النهضة. هذا المسار الّذي أفضى الى رضوخها والتصويت على دستور مبنيّ على منظومة حقوق الإنسان الكونيّة والدولة المدنيّة وسيادة الشعب والفصل بين السلطات وحياد مؤسّسات الدولة. انّ هذا الإهمال لا يمكن أن يكون عفويّا، بل هو تعبير عن تمثّل شخصي وذاتي لتاريخ البلاد لا يعدو أن يكون سوى تعويضا لسرديّة وطنيّة بسرديّة شخصيّة.

أهملت التوطئة دستور 2014، وهو أوّل دستور ديمقراطي في تاريخ البلاد

توطئة تعكس رغبة في إعادة كتابة التاريخ

انّ قارئ توطئة الدستور الصادر بالرائد الرسمي بتاريخ 30 جوان 2022 يلاحظ للوهلة الأولى تكرارا متواصلا بل إطنابا في ذكر التاريخ. إذ تكرّرت كلمة “تاريخ” ومشتقّاتها تسعة مرّات مقابل مرّتين فقط في توطئة دستور 2014. ولعلّ هذا التكرار دليل على هوس كاتب النصّ بالتاريخ وصناعة التاريخ وإعادة كتابة التاريخ. فلئن كان أحد عناصر التوطئة استحضار التاريخ المشترك للشعوب-والتّي عادة ما تتسّم بالتعميم وتتجاوز الظرفيّة السياسيّة الضيّقة-فانّ توطئة مشروع الدستور الجديد كانت بمثابة بيان سياسيّ un pamphlet يهاجم به رئيس الجمهوريّة خصومه السياسيّين الظرفيّين عن طريق خطاب مفرّق لا جامع. فلنتناول بالتفصيل الرواية (بمعنى la version) الّتي تقدّمها التوطئة لتاريخ تونس.

في البداية تجدر الإشارة الى أنّ تمثّل التاريخ الّذي تقدّمه التوطئة لا يقوم على التواصل والاستمراريّة بل على تقسيمه الى قطع وشرائح [6]des tranches et des strates، وفترات متقطّعة من الأزمات تتخلّلها بعض الأعمال البطوليّة من قبل أشخاص أو مجموعة أشخاص يتّسمون بالفضيلة المطلقة. هذه الأعمال البطوليّة تتجسّد في تاريخين اثنين: 17 ديسمبر 2010 و25 جويلية 2021، مقابل تجاهل تواريخ أخرى لا تقلّ أهميّة على غرار الاستقلال وإعلان الجمهوريّة و14 جانفي 2011، تاريخ فرار الرئيس الأسبق والتاريخ المتعارف عليه لانتصار الثورة.

في ذات الإطار، من اليسير الاستنتاج عند قراءة الفقرة الأولى من التوطئة أنّ الهدف الرئيسي منها هو تبرير ما اصطلح على تسميته بحالة الاستثناء الّتي ليست بدورها سوى نتيجة لما قام به الرئيس في 25 جويلية 2021، في محاولة لإضفاء مشروعيّة تاريخيّة على هذا الحدث (لن ندخل هنا في الجدل الدستوري والمتعلّق بالتكييف القانوني لما قام به الرئيس، ان كان انقلابا أم لا، ونكتفي بالقول بأنّ ما حدث في 25 جويلية هو مخالفة لنصّ الدستور).

إنّ هذه النزعة التبريريّة يمكن أن تستشفّ من خلال التقييم “السوداوي” للفترة الممتدّة من 2011 الى 2021. إنّ الإطلاق والتعميم هو السّمة الأساسيّة للأنظمة الشعبويّة بما أنّها تخاطب العواطف والأحاسيس لا العقول. فلا غرابة في أن يعتبر الرئيس أنّ الفترة الّتي عرفت فيها تونس مناخا ديمقراطيّا ترسّخت فيه الحريّات الفرديّة والجماعيّة، ونشطت خلالها التنظيمات السياسيّة والمدنيّة والنقابيّة باختلاف مشاربها ونٌظّمت خلالها أربع محطّات انتخابيّة حرّة ونزيهة أفضت إحداها إلى فوزه وغيرها من المكاسب الحقوقيّة الّتي نجح المجتمع التونسي في مراكمتها”عشرية سوداء”، تنحصر فقط في “الشعارات الزائفة” و”الوعود الكاذبة”.

 لا شكّ أنّ نفس هذه الفترة كانت فترة استفحال جديد للفساد، وممارسة باتريمونياليّة للسّلطة وتكاثف للحركات المتطرّفة وللعمليّات الارهابيّة والاغتيالات السياسيّة وإدارة هاوية للدولة تفتقد الكفاءة. الاّ أنّ تجاهل المكاسب والاكتفاء بالمساوئ يدلّ على رغبة في مسح فترات من تاريخ البلاد وتغييبها حتّى تبدو “حركة تصحيح المسار” كلحظة إنقاذ للدولة وتبدو الاستشارة الوطنيّة والحوار الوطني المزعومين خطوات لإرساء أسس “النظام الديمقراطي الحقيقي” و”الجمهوريّة الجديدة”. انّ قراءة التاريخ المقدّمة ليست قائمة على المراكمة ولا على دور المؤسّسات في التقدّم بحركة التاريخ وانّما على دور الأشخاص والقيم كالفضيلة والنقاوة والشرف. هي إذن قراءة تعكس تمثّلا مسيانيّا messianique للتاريخ.

تقدّم التوطئة قراءة مسيانيّة للتاريخ، تقوم على دور الأشخاص والقِيم

في سجلّ آخر، تقترن هذه القراءة الطهوريّة للتاريخ بأزمة في السرديّة الوطنيّة التونسيّة. لاشكّ أنّ صعود حركات الإسلام السياسي وحركات اليمين المتطرّف في الانتخابات المتتالية منذ 2011 يمكن تفسيره جزئيّا بتراجع أثر الرواية الوطنيّة الرسميّة في نفوس جزء من المواطنين وهي أزمة استغلّتها تلك القوى أحسن استغلال. من ذلك التشكيك في حقيقة استقلال البلاد والتشويه المتعمّد لصورة الرئيس الأوّل للجمهوريّة الحبيب بورقيبة ورموز الحركة الوطنيّة واعتبار أنّ هذه الأخيرة قد تمّ الالتفاف عليها من قبل عملاء الاستعمار مقابل تبنّ لقضايا صالح بن يوسف والفلاّقة ومؤخّرا الحملات المتعلّقة بالثروات الوطنيّة “وينو الملح؟” “وينو البترول؟” وغيرها من الحذلقات. لا يجد البحث التاريخي العلميّ حرجا في تناول هذه القضايا بالدّراسة والنقد والتحليل ولكنّ التوظيف السياسي يمثّل إشكالا حين تحوّل الى ظاهرة مجتمعيّة.

انّ هذه الأزمة الّتي تعايشها السرديّة الوطنيّة ليست فقط تونسيّة بل عالميّة ولا يمكن عزلها عن أزمة الديمقراطية التمثيليّة وصعود التيّارات الشعبويّة واليمينيّة المتطرّفة، ولعلّ أبرز دليل على ذلك هو الصعود اللاّ مسبوق لهذه الحركات في الانتخابات الفرنسيّة الأخيرة. وليس المرشّح اليميني إريك زمور Eric Zemmour سوى التعبيرة المثلى عن هذه الأزمة عبر تشكيكه المتواصل في جملة من الشخصيّات والأحداث والقضايا الّتي بنيت عليها السرديّة الوطنيّة للجمهوريّتين الرابعة والخامسة إثر الحرب العالميّة الثانية. لقد نجح ايريك زيمور Eric Zemmour في احتلال المنابر الاعلاميّة لتنقية صورة الماريشال بيتان Pétain ونزع التهم المتعلّقة به حول ترحيل مئات الآلاف من اليهود الى المعتقلات، وكذلك تنسيب الصورة البطوليّة للجنرال ديغول De Gaulle الّتي تحفظها الذاكرة الفرنسيّة.

إنّ القراءة الانتقائيّة والطهوريّة للتاريخ والهوس بإعادة كتابته والأزمة الّتي تعايشها الرواية الوطنيّة التونسيّة بالإضافة الى المرجعيّة الشعبويّة للرئيس الّتي لم تعد تدع مكانا للشكّ، جعلت من التوطئة نصّا ركيك التركيب، متضمّنا لمفاهيم لا نقتفي لها أثرا الاّ في خطابات رئيس الجمهوريّة من قبيل “الصّعود الشاهق في التاريخ”. ولكن الأخطر يتمثّل في تنصيب نفسه، من خلال حركة 25 جويلية، لا فقط مصحّحا لمسار الثورة، بل أيضا “لمسار التاريخ”. انّ هذه النرجسيّة المفرطة وهاجس المشروعيّة المجسّدة لإرادة الشعب دفعت الرئيس إلى إعادة كتابة التاريخ بالاعتماد على قراءة شخصيّة تتعارض مع القراءة العلميّة النقديّة للتاريخ وكذلك مع الذاكرة الجماعية والسرديّة الوطنيّة. 

تكرّرت كلمة “تاريخ” ومشتقّاتها تسعَ مرّات، بما يدلّ على هوسٍ بإعادة كتابة التاريخ

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة


[1] انظر: البشروش (توفيق)، جمهوريّة الدايات في تونس (1591-1675)، سيراس للنشر، تونس 1992;

انظر كذلك مقال خير الدّين باشا الصّادر في موقع المفكّرة القانونيّة بتاريخ 11-07-2022 “ملاحظات على هامش توطئة مشروع الدستور” هنا

[2] لمزيد الاطّلاع على هذه المسألة يمكن مراجعة:

البقلوطي (الحبيب)، “النظام السياسي القرطاجي (814-146 ق.م) هو أقدم نظام جمهوري دستوري ديمقراطي في تاريخ تونس وكامل غرب المتوسّط”، مجلّة البديل، العدد 3، 2013، ص19-36 ;

 تلي (محمد العيد) وآخرون، “دستور قرطاج ومؤسساتها خلال المرحلة الأرستقراطية (480-237 ق.م)”، مجلة الأكاديميّة للدراسات الاجتماعيّة والانسانيّة، المجلّد 13، العدد 02، جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف، الجزائر، 2021، ص ص:127-137

[3] Hibou (Béatrice), « Le réformisme, grand récit politique de la Tunisie contemporaine », Revue d’histoire moderne & contemporaine, vol. 56-4, no. 5, 2009, pp. 14-39.

[4]” دستور فرنسا الصادر عام 1958 شاملا تعديلاته لغاية عام 2008″ مقتطف من constitueproject.org

[5] حول نقد التجربة التحديثية التونسيّة والنصوص الدستوريّة خلال القرن التاسع عشر انظر:

التيمومي (الهادي)، تونس والتحديث (1831-1877) أوّل دستور في العالم الإسلامي، دار محمّد علي للنشر، صفاقس، 2010.

Bachrouch (Taoufik), La crise de la conscience tunisienne au XIXe siècle, Atlas éditions, Tunis, 2014

[6] حول مسألة التحقيب التاريخي راجع:

Le Goff (Jacques), Faut-il découper l’histoire en tranches ?, Paris, Le Seuil, 2014

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، محاكم دستورية ، أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني