ملاحظات على هامش توطئة مشروع الدستور


2022-07-11    |   

ملاحظات على هامش توطئة مشروع الدستور

أثار مشروع دستور رئيس الجمهوريّة قيس سعيد عديد الانتقادات، التي طالتْ في جزء منها مضمون التوطئة، كما صياغتها التي خضعت للأسلوب الإنشائي على عكس المتعارف عليه من أن تكون بلغة سلسة إضافة إلى البساطة والوضوح. ولم تخلُ التوطئة كذلك من استبطان للمرتكزات النظرية والسياسيّة التي يؤمن بها الرئيس ونمط تفكيره الذاتي، وهو ما يتعارض مع الطابع الجامع للتوطئة وضرورة تعبيرها عن أقصى قدر ممكن من القيم الوطنية المشتركة.

قراءة متخيّلة للتاريخ الدستوري

بالنظر للتاريخ الدستوري، أهمل مشروع دستور قيس سعيد عامدا ذكر دستور 27 جانفي 2014 ودستور 1959، في ما توسع في ذكر النصوص الدستورية التونسية ابتداءً من دستور قرطاج، وصولا إلى النصوص الدستورية للقرن التاسع عشر كعهد الأمان ودستور 1861. لكن ما لفت الانتباه حقيقة، الإشارة عبر جملة استطراديّة تقترب في بنيتها من الأسلوب الخطابيّ إلى دستور “الميزان” أو “الزمام الأحمر” الذي تم إقراره زمن “عثمان داي” في بداية القرن السابع عشر. هذا الاستطراد الذي يعكس ولع سعيد الأثير بنفض الغبار عن بعض التفاصيل المُهملة من التاريخ الدستوري، بعيد كل البعد عن بعض الإشارات التاريخية الموجودة في دساتير أخرى مثل الدستور الفرنسي لسنة 1958 الذي ذكر إعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789 كأحد النصوص الحقوقية. حيث أسس هذا الاستناد لفقه قضاء دستوريّ كان ثوريّا بحق، من زاوية تطويره لمضمون بعض الحريات. ولكن أية قيمة للاستناد إلى نصّ متروك، لا نعلم شيئا عن محتواه، سوى أنها محاولة مسقطة من واضع النص للتنويه بثقافته التاريخية (وهي بالمناسبة إحدى أدواته الدعائيّة)؟ 

لو اقتفينا أثر هذا “الزمام” تاريخيا ، فلن نظفر سوى ببعض النُبذ المتناثرة هنا وهناك، من بينها ما أورده “أحمد بن أبي الضياف ” في كتاب الإتحاف بالقول: “وحصّن أمره -يقصد عثمان داي- بترتيب قوانين في الرعايا، استعان فيها بالكاتب أبي صندل، وعقلاء الجند، وأهل البلاد وقيّدها في دفتر يسمى عند رجال الدولة بالميزان…وبقي هذا الميزان دستورا يُرجع إليه”. ربما كان إقرار ابن أبي الضياف بمكانة هذا “الدفتر” بحثا عن جذور للنصوص الدستورية اللاحقة وإيجاد التأصيل لها ضمن التاريخ السياسي للبلاد. ونقصد هنا تحديدا عهد الأمان ودستور 1861، اللذيْن كان صاحب الإتحاف من المساهمين الرئيسيين في صياغتهما، غير أن هذا لا يعني قيمة علمية مستقرّة لهذا النصّ، خصوصا مع استمرار حكم الإطلاق وغياب تجسيد عملي لما يُفترض أنها قواعد قد أتى بها قانون “الميزان”. بل يبدو أن وضعه كان في ظرفيّة خاصّة، نستنتجها من السياق الذي تطرق فيه كتاب الحلل السندسية للوزير السراج إلى الموضوع. فبالرجوع إلى هذا المصدر نجد أن عثمان داي، وهو الحاكم المعروف باهتمامه الشديد بالجانب الأمني، قد سعى لحماية الأهالي من تعسف الجند أثناء تحصيلهم للضرائب، وأحدث منصب باي الأمحال الذي تولاه رمضان باي (وهو شخصيّة أخرى غير رمضان باي المرادي). ثم ذكر أن من بين دواعي هذا الإجراء، الحدّ من التجاوزات التي مارسها الولاة سابقا أثناء قيادتهم “المحلّة”. فربما اعتُبر قانون” الميزان” استكمالا لذلك الإصلاح عبر نوع من الضمانة القانونية الرادعة لقادة الجند كي يكفّوا أيديهم عن الأهالي وممتلكاتهم، أو وسيلة ظاهرية لاستمالة الأهالي سياسيّا، ثم أخذ هذا القانون طابعا إرشاديا خلال الفترات اللاحقة. غير أنه من الواجب التنويه هنا، بأن هذا “الزمام الأحمر”-بغض النظر عن مكانته القانونية الافتراضية – كان قد ضمن، حسب رواية ابن أبي الضياف قدرا واسعا من التشاركية في صياغته. إذ ساهم فيه “عقلاء الجند وأهل البلد” ولم يقتصر على ما جادت به قريحة الحاكم حينذاك، على الرغم من رسوخ النمط الاستبدادي للحكم في ذلك الزمن البعيد.

أيّة قيمة لذكر نصّ متروك سوى أنها تنويه بالثقافة التاريخية لواضع النصّ؟

خطورة الإشارة الضمنية للبناء القاعدي

من بين أكثر الأفكار إشكالية في التوطئة ما تتضمّنه الجملة الآتية من أبعاد شديدة الخطورة في صورة التأويل الموسع لها: “إنّنا نؤسس إلى تركيز نظام دستوري جديد يقوم لا فقط على دولة القانون بل على مجتمع القانون حتّى تكون القواعد القانونية تعبيرا صادقا أمينا عن إرادة الشعب، فيـستبطنها ويحرص بنفسه على إنفاذها ويتصدّى لكل من يتجاوزها أو يحاول الإعتداء عليها”. تنطلق هذه الجملة من الوظيفة الرمزية للتوطئة، لتقدم إشارة ضمنيّة لنظرية البناء القاعدي، أو إذا شئنا القول، هي بمثابة “حصان طروادة” لهذه النظرية و تجسيد عملي لما “يُريده” قيس سعيد ويراه من وظيفة للمجتمع في حالة استكمال أركان منظومته الفكرية على المستويين السياسي والقانوني. وبذلك نصلُ إلى مرحلة الشعار السياسي المُصاغ الذي يُراد أن تكون له قيمة دستورية بدرجة أولى ثمّ تنزيله لإيجاد نوع من “الرقابة الذاتية” للمجتمع في مرحلة ثانية.

إذ أنّ الحرص على إنفاذ القانون و”التصدّي لمن يتجاوزه أو يحاول الاعتداء عليه” هي وظيفة الدولة التي تحتكر الاستخدام الشرعيّ للقوة. فكيف للمجتمع أن يمارس هذه الوظيفة وعبر أية آليات؟ وعدا عن أنّ مثل هذا الدور الجديد للمجتمع يتعارض من حيث الأساس مع مفهوم التطوّر الاجتماعي L’évolution sociale بما يعنيه من تطوير المجتمع الدائم لمنظومته القيمية، فإنه يسعى كذلك إلى إلغاء مساحة المجتمع الخاصة تجاه السلطة، عبر تمهيد الطريق نحو هذه الأخيرة للسيطرة عليه بدعوى إرساء “مجتمع القانون”. أما النقطة الأشدّ خطورة، فتتعلق بآليات إنفاذ القانون المتاحة لدى “الشعب”، والتي سكت عنها النصّ. فهل سنشهد مهامّ جديدة للتنسيقيات الشعبيّة لتُصبح جهازا ردعيّا موازيا، أشبه بالمُحتسبين، “للتصدي لمن يتجاوز القانون أو يحاول الاعتداء عليه”؟ (وهو دور يبدو أن التنسيقيات باتت تتوق إلى ممارسته حسب تكييفها الخاصّ هذه الأيام). أم هل سيخلق النظام السياسي الجديد، المبني على “توازن بين الوظائف” لا السّلط كما ورد في التوطئة أيضا، حالة من المثاليّة التي تنتفي معها الحدود بين السلطة والمجتمع وينضبط فيها الأفراد طوعيا لقواعد القانون؟ أو لعلّ تركيز “مجالس محلية” وما تمثّله في نظر أطروحة سعيّد ومُشايعيه من تجسيد “للإرادة الشعبية” سيمنحها إمكانية أداء هذا الدور المُفترض، الجامع في آن بين شوكة الدولة والضبط الاجتماعي؟ وأية ضمانة تبقى للحقوق والحريات في خضم كلّ ذلك؟

لغة إنشائية تتخفى وراءها السردية الذاتية

من المهم الإشارة كذلك إلى غلبة اللغة الإنشائيّة، القائمة على المبالغة، وكأنما تم اختزال التاريخ ضمن التجربة التونسية. حيث أشارت التوطئة إلى أن الشعب التونسي قد حقق “صعودا شاهقا غير مسبوق في التاريخ” يوم 17 ديسمبر 2010، (مع إهمال متعمّد قام به واضع النص لتاريخ 14 جانفي)، فضلا عن اعتباره ما حدث يوم 25 جويلية 2021 بمثابة تصحيح مسار للثورة و”للتاريخ”، بعدما لم يلقَ الشعب خلال العقد التالي للثورة سوى “الشعارات الزائفة والوعود الكاذبة”. هذه السرديّة التاريخية المُغرقة في الذاتية من وجهة نظر رئيس الجمهورية، تتجاهل مسؤولية هذا الأخير ضمن تلك المرحلة ولا تسائل دوره ضمنها. بل تمضي أكثر من ذلك في تبرير المسار المُفضي إلى مشروع الدستور باستشارة شعبية لم يُشارك فيها إلا 5 بالمائة من مجموع السكان ولم تُصرّح حتى أغلبية المشاركين فيها بنيتها اعتماد دستور جديد. كما أشار النص إلى نتائج الحوار الوطني “الشكلي”، والتي لم يتمّ اعتمادها، كعنصر تبريري آخر في المسار نحو مشروع الدستور مُبديا الغرض من ذلك  ب “أن لا ينفرد أحد بالرأي أو تستبدّ أي جهة بالاختيار”. 

إن هذه الصياغة تحيلنا إلى مفهوم أساسي متعلّق بالتوطئة، يتمثّل في “سلطتها المتكاملة” the integrative power. إذ أنها تمثّل أفضل تجسيد لفكر واضعي الدستور. لذلك يفترض فيها أن تكون محلّ أقصى قدر ممكن من الإجماع السياسي وأن تظلّ قادرة على الصمود لأطول مدى ممكن، لا أن تُهجر بشكل سريع أو أن تكون قائمة على التصحيح السياسي وردّ الفعل. في حين أنّ الصياغة المعتمدة، وعلى عكس ذلك تعبّر تماما عن الصياغة المنفردة للنص، عبر تاريخ موحّد للثورة ( 17 ديسمبر) على عكس الصياغة المعتمدة في توطئة دستور 2014 التي شملت كذلك تاريخ 14 جانفي. كما أن الدستور عموما لا يعكس فحوى الحوار السابق لصياغته، باعتراف معظم الأطراف نفسها التي شاركت في المداولات.

عن الهوية والتموقع

أما على مستوى الهوية الوطنيّة، فقد تمّت الإشارة إلى الانتماء إلى الأمة العربية بداية وإلى الأبعاد الإنسانية للدين الإسلامي، والانتماء إلى القارة الإفريقية التي تجد جذورها في التسمية القديمة لتونس، كنوع من الإعتزاز التاريخي أو بعبارة أخرى شكلا من التجسيد لجزء من “الرواية التاريخية” للدولة. من الطبيعي أن يتم التركيز في التوطئة على الأهداف الوطنية ومسألة الانتماء، غير أن هناك غيابا لتنسيب خاص في ما يتعلّق بالأقليات العرقية والدينية، وهذا ما يتعارض مع الهدف من التوطئة كإطار جامع وموحد، لا كوسيلة ترمي إلى إقصاء الأقليات. كما تغيب الإشارة إلى أبعاد أخرى من بينها البعد المغاربي (رغم إبرازه في الفصل السابع من الدستور) أو المتوسطي. ومع استحضار التوطئة لقيم التمسك بالشرعية الدولية والانتصار للحقوق المشروعة للشعوب، تمّ التأكيد على دعم القضية الفلسطينيّة والتنصيص على القدس كعاصمة لفلسطين، دون ذكر تجريم التطبيع. غير أن الحديث في التوطئة عن رفض الشعب للدخول في تحالفات في الخارج يضحي شكلا من أشكال الإسقاط غير المدروس لمعجم اللغة الدبلوماسية الظرفية على النص الدستوري، إضافة إلى المشاكل التي ستتولّد عندما يتعارض هذا النصّ مع الأمر الواقع من الناحية العمليّة. فكيف يمكن ملاءمة هذا المبدأ مثلا مع وضع تونس الحالي كحليف رئيسيّ خارج منظمة حلف شمالي الأطلسي؟ أو مع فرضية دخول البلاد مستقبلا في تحالفات تفرضها الظرفيّة الإقليميّة أو الدوليّة؟ هذا إضافة إلى صعوبة تحقيق هذا المبدأ وسط التحوّل من التحالفات الدولية البارزة ذات الإطار المنظم مثلما كان عليه الحال خاصة أثناء الحرب الباردة إلى أشكال براغماتيّة ومرنة من التحالفات، تتخذ طابع التنسيق المشترك، أو حتى دون أشكال دبلوماسيّة معلنة أحيانا.

إجمالا، لم تكن مثل هذه التوطئة مفاجأة لمن يدرك طبيعة اهتمامات رئيس الجمهوريّة ونمط تفكيره، بل حتى بصمته اللغوية الحاضرة بقوة على امتداد أقسام هذه التوطئة. لكن ما يُثير القلق فعلا هو مدى التأسيس القانوني على مثل هذا النصّ إذا ما تمّ اعتماده، نظرا لضبابيّة عديد الأفكار واحتمالها لتأويلات واسعة وخطيرة. 

توطئة الدستور تعكس إجماعًا سياسيًّا، توطئة 2022 عكست ردود أفعال ظرفيّة

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، البرلمان ، تشريعات وقوانين ، استقلال القضاء ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني