قيس سعيد والدين: صراع الإمام وأستاذ القانون


2022-07-15    |   

قيس سعيد والدين: صراع الإمام وأستاذ القانون

داخل نص الدستور الجديد المعروض للاستفتاء يتجَاوَرُ نسَقان مختلفان في المعرفة والتشريع؛ نسق مشتقّ من مرجعية دينية ذات نزعة فقهية أصولية، ونسق آخر مشتقّ من الدولة الحديثة وأسسها الفلسفية القائمة على مقولات الفرد والحقوق والتعاقدات القانونية-الوضعية. ويبدو أن هذا التجاور النسقي، الغامض والملتبس، يَتَناسب مع فكر الرئيس قيس سعيد وتكوينه المعرفي والديني، ومع رؤيته لحركة التاريخ والمجتمع.

طيلة المدة الفارطة، خاض الرئيس سعيد في إشكالات فكرية وعقائدية مختلفة، من بينها دَسترة العلاقة بين الدين والدولة ومفهوم الأمّة ومعاني الانتماء. وطيلة تلك السجالات كان أستاذ القانون الدستوري يتّهم خصومه بقصور الفهم وعدم الإلمام بوقائع التاريخ والاجتماع. كان الرئيس يُحاجج من موقع الإمام الواثق بصحة معرفته الدينية والتاريخية. وهذه النزعة العقَدية في الحجاج لا تعكس فقط الموقع السلطوي الذي يخاطب منه الآخرين، وإنما تشير أيضا إلى الانغلاقية الأرثوذكسية في قراءة التراث الإسلامي، والتي سبق وأن عبّر عنها الرئيس في موقفيْن بارزيْن: الأول بمعارضته المساواة في الميراث، والثاني بتأييد حكم الإعدام.

لا يبرز الرئيس سعيد فقط كمالك فعلي للسلطة السياسية، وإنما كمستحوذ أيضا على سلطة التأويل والشرح. وهو ما يستدعي قراءة في تصوره للمسألة الدينية بجانبيْها النصي والتاريخي، لأن هذا التصور لم يُدرج فقط في الدستور وإنما سيكون له تأثير على السياسة الدينية للدولة وتشريعاتها ومؤسساتها المتعلقة بهذا الجانب. يُحاول هذا المقال البحث في المصادر المعرفية والتاريخية التي يُشكّل من خلالها الرئيس سعيد رؤيته للظاهرة الدينية.      

العلاقة بين الدين والدولة في خطاب الرئيس سعيّد

يعترض الرئيس قيس سعيد على الصيغة الدستورية القائلة: “تونس دولة دينها الإسلام”، وهي صيغة تكرّرت في دستور 2014 بعد إدراجها في دستور 1959. لأنها تعطي للدولة دينا رغم أنها ذات معنوية وليست مشمولة بخطاب التديّن، في حين أن صفة الإسلامية -في نظره- يجب أن تُسند إلى الأمّة. وقد عبّر الرئيس عن هذه الفكرة قائلا: “كُنتم خير أمّة أخرِجت للناس وليس خير دولة أخرجت للناس”. فُهِمَ من هذا الخطاب أوّل الأمر أن الدولة ستلتزم الحياد إزاء المسألة الدينية وسيكتفي الدستور الجديد بتوصيف انتمائي- ثقافي يشير إلى انتساب غالبية المجتمع التونسي إلى الإسلام والأمة الإسلامية. ولكن النصّ الجديد تدحرَجَ نحو إلزام الدولة بوظيفة دينية حصرية، تجعلها غير محايدة وأكثر هيمنة على المجتمع باسم امتلاك الشرعية الدينية والسياسية في الحفاظ على مقاصد الإسلام الخمسة. وهو ما نصّ عليه الفصل الخامس الذي ورد فيه: “تونس جزء من الأمة الإسلامية وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية”. وقد أضيفَ لهذا الفصل صيغة “في إطار نظام ديمقراطي” خلال التحويرات الأخيرة التي أدخلها الرئيس على نسخة 30 جوان 2022. هذا التنصيص يجعَل الدولة أكثر التصاقا بالدين ويُسند إليها وظيفة عليا مقدّسة تتمثل في “تحقيق مقاصد الإسلام”، وسيترتب عن هذا الإلزام تشريعات ومؤسسات مرتبطة بالمقاصد وليس بالحقوق فقط. ولئن حافظ المشروع الجديد على الحقوق الدينيّة الواردة في دستور 2014، من بينها حرية المعتقد وحرية الضمير وحرية القيام بالشعائر الدينية، إلا أنه لم يُرفقها بضمانات كافية تؤسس لعدم انتهاكها في المستقبل باسم حفظ الدين من قبل الدولة.

لم يُنهِ الرئيس سعيّد الجدل حول الصيغ الدستورية الفضفاضة السابقة التي قد يجري استخدامها لإقامة حكم ديني أو انتهاك الحقوق الدينية. وإنّما أعَادَ إنتاجها بأسلوب قابل للتأويل في اتجاه إقامة علاقة تداخل بين الدولة والدين، تجعل من الدولة وعاءً قابلًا للامتلاء في المستقبل بسياسات دينية وتشريعات تجنح نحو الأسلمة، وتؤسّس لانتهاك الحقوق العامة والفردية باسم “تحقيق مقاصد الإسلام”. خاصة وأن النصّ الجديد حذف بشكل مقصود التنصيص على الدولة المدنية، التي وردت في الفصل الثاني من دستور 2014 بهذه الصيغة: “تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلويّة القانون. لا يجوز تعديل هذا الفصل”.

كُتبَ دستورا 1959 و2014 ضمن سياقات سياسية وثقافية مختلفة. وقد انعكس الصراع السياسي بين مختلف القوى الاجتماعية والسياسية داخل النصّين. ولم يُحسم داخلهما الجدل نهائيا حول علاقة الدين بالدولة. ولكن من خلال السياقات التاريخية يمكن تتبّع طبيعة هذه العلاقة في الممارسة السياسية والتشريعية. لقد مالت التجربة البورقيبية نحو السيطرة على الفضاء الديني ضمن سياسة دينية قائمة على “دولنة الدين” وليس “تديين الدولة”. وهكذا جرى “تكريس إسلام الدولة بدل دولة الإسلام”.[1] وشكلت هذه الممارسة مدخلا لتقويض النفوذ الاجتماعي للطبقات المتمكسة برؤية تقليدية للمجتمع والدولة، من خلال نسف أساسها الاجتماعي المتمثّل أساسا في مؤسسة الأوقاف. وفي الوقت ذاته شرعت الدولة في تحديث المؤسسات التشريعية والتربوية وتقمّص خطاب فقهي-سياسي معادي للأعراف والتقاليد والتصورات الدينية القديمة. أما دستور 2014 فقد وُلِد من رحم الصراع الأيديولوجي والسياسي حول مشروع الدولة الجديدة وعلاقتها بالدين والمجتمع. وانتهى صراع التيارات الحداثية وحركة النهضة الإسلامية بالقبول بنسخة دستورية نهائية جسّدها دستور جانفي 2014. وطيلة الفترة الممتدة بين أكتوبر 2011 وجانفي 2014، خاض المجتمع المدني والسياسي الرافض لمشاريع الأسلمة نقاشات وضغوطات من أجل وضع ضمانات دستورية تَحُول دون التأسيس الواضح لدولة دينية[2]. من ضمنها التنصيص على مدنية الدولة والاعتراف بالحقوق الدينية والفردية، وإسقاط مشاريع دستورية أخرى تضمّنت التنصيص الصريح على اعتماد الشريعة مصدرا أساسيا في التشريع.

دستور جوان 2022 وُلِد أساسا من داخل أزمة سياسية ودستورية، استخدمها الرئيس سعيد شيئا فشيئا نحو الاستحواذ على كل السلطات وفرض مرتكزات مشروعه السياسي والعقائدي. ولم يُكتب النصّ الجديد من داخل دينامية التداول داخل جمعية تأسيسية، وإنما حَمَل آثار الرئيس وبصماته الفردية، وأعادَ في نفس الوقت استنساخ فصول من دستوري 1959 و2014. ويسعى البعض إلى تزكية النصّ الجديد بوصفه مواجهة عقائدية لمشروع الإسلاميين، ولكن هذه القراءة تُغفل البحث في التصوّر الديني للرئيس قيس سعيد وخاصة تنصيصه على ربط الدولة بدور جديد يتمثل في تحقيق مقاصد الإسلام.    

مقاصدية قيس سعيد: الإيمان القطعي بالنصّ على حساب الواقع والانسان

أثارت فكرة دستَرة مقاصد الشريعة الكثير من الجدل في الآونة الأخيرة. ففي الوقت الذي اعتبرها البعض تراجعا عن الدولة المدنية، وصَفَها البعض الآخر بالنظرة التجديدية التي تقطع مع القراءة الحرفيّة للنصّ الديني. في هذا السياق، يمكن القول أن نظرية المقاصد تطرح إشكاليتين رئيسيتين: تتمثل الإشكالية الأولى في غياب تعريف واضح ودقيق لمصطلح “مقاصد الشريعة الإسلامية” في التراث العربي الإسلامي منذ الصياغة الأولى لهذا المصطلح على يد الإمام الجويني والغزالي وتطوّره مع الفقيه الأندلسي الإمام الشاطبي في فترة لاحقة[3]. وحتى الإحيائية المعاصرة لنظرية المقاصد مع علال الفاسي ومحمد الطاهر بن عاشور لم تَحسم الجدل حول غياب تعريف دقيق ونهائي لمصطلح المقاصد. أما الإشكالية الثانية فتتمثل في منزلقات الملاءمة بين مقاصد الشريعة التي تعود في نهاية المطاف إلى تأويل أصولي مربوط بمصلحة الجماعة الدينية في الفترة الوسيطة، وحقوق الانسان والمواطنة التي تضمن الحق بغض النظر عن الاختلافات الدينية والجنسية والفكرية.

إن الإطار الفكري والاجتماعي الذي نشأت فيه نظرية مقاصد الشريعة لم يخرج عن سياق مباحث أصول الفقه الإسلامي التقليدي، وكان يُعبّر عن ثقافة إسلامية يُحرّكها منطق تحصين جماعة المؤمنين وتصحيح اعتقاداتها الدينية، ضمن مجتمع رَعَوي يهيمن فيه الحكام والفقهاء الذكور على بقية شرائح المجتمع. ومن خلال المقارنة بين مقاصد الشريعة ومبادئ حقوق الإنسان الحديثة، يشير الباحث التونسي مصطفى العلوي إلى أن “الجماعة الدينية وليست الجماعة الإنسانية هي محور اهتمام مقاصد الشريعة الأساسي على عكس مبادئ حقوق الإنسان”.[4] ولعلّ الجوهر الأصولي التقليدي لنظرية المقاصد يَطرح إشكالا كبيرا بخصوص تعارضها مع قيم المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان. ولا يبدو التنصيص على تطبيقها ضمن “نظام ديمقراطي” كفيلاً بالحيلولة دون الانزلاق نحو نزعة مقاصدية تؤسس لانتهاك الحقوق والحريات.

إن العودة إلى مواقف الرئيس قيس سعيد من بعض القضايا تُعطي إضاءة أولية حول تصوراته الدينية وحول تأويله لفكرة المقاصد. عَارَض الرئيس بشدة مطلب المساواة في الميراث، لسبيين اثنيْن: الأول ديني مفاده أن هناك نص قرآني قطعي الدلالة حَسم قضية الميراث منذ القرن السابع ميلادي. والسبب الثاني اجتماعي، عبَر عنه الرئيس سعيد قائلا: “منظومة الإرث في الإسلام وفي مجلة الأحوال الشخصية قائمة على العدل وليس على المساواة الشكليّة. أنت كزوج مطالب بالإنفاق على زوجتك وعلى أبنائك. وهي ليست مطالبة بذلك”. يُفهَم من موقف الرئيس سعيد من قضية الميراث أن العدالة بمفهومها الديني والإلهي حسمت القضية ولسنا في حاجة إلى المساواة لأنها “شكلية” في نظره. وهذه العدالة يترتب عنها علاقة تبعيّة اجتماعية بين المرأة والرجل، طالما أنّ الزّوج يملك سلطة الإنفاق. هذه النظرة لا تأخذ فقط بحرفيّة النصّ الديني، وإنما تستخدم التأويل الحرفي لتثبيت واقع اللامساواة بين النساء والرجال باسم العدالة الإلهية. ولا تعترف بحركة المجتمع التي دَفعت النساء التونسيات -بفضل كفاحيتهن- نحو تحقيق استقلاليتهن المالية رغم هيمنة عَدم الاعتراف الاجتماعي بذلك، ورغم استمرار الإرادة في حرمانهن من حقّهن في النفاذ إلى الملكية والمساواة في الميراث، من خلال استراتيجيا استدعاء المقدس لتعزيز الهيمنة البطرياركية. 

يشير أيضا موقف الرئيس إلى أن التمسّك بنظرة مثاليّة للعدل على حساب الحقّ في المساواة والمواطنة وحقوق الإنسان بشكل عام، يجعل مقاصد الإسلام تلعب دورا مضادّا لمفهوم الحقّ كرابطة قانونية واجتماعية. وتظهر أولويّة النص على حساب الإنسان في مواقف أخرى للرئيس سعيد، من بينها مساندته لعقوبة الإعدام من داخل مبدأ “القصاص”، وهو مبدأ قبلي حافظ عليه النص الديني. وهكذا تُصبح النظرة الدينية التقليدية أكثر قدسيّة من حياة الإنسان، وإعلاء المبدأ الديني يفوق إعلاء مصلحة الإنسان. إن هذه النماذج تعطي فكرة أوليّة عن المنهجية الحرفية التي يؤوّل من خلالها الرئيس سعيد النصّ الديني دون تحكيم لقيم المساواة والمواطنة والعدل الاجتماعي، ودون مسايرة حركة تطور التاريخ والمجتمع.   


[1] آمال موسى. بورقيبة والمسألة الدينية، تونس: سراس للنشر، 2006، ص: 162.

[2] آمنة بالناري. الديني والسياسي وإشكالية الدسترة (ضمن ندوة الديني والسياسي واشكالية الدولة الحديثة)، ط1، بيروت: مؤسسة مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث، 2018، ص 172.

[3] محمد شهيد. مقاصد الشريعة: في إشكالية التعريف (بحث عام) مؤسسة مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث، 2015، ص: 3.

[4] مصطفى العلوي. نحو ثورة دينية في اسلام القرن الواحد والعشرين: مقاصد الشريعة ومقاصد الانسان المسلم الحديث. (بحث عام)، مؤسسة مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث، 2016، ص: 10.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني