فسادٌ أضعفَ جانبَ ديمقراطيّةٍ واعدة


2021-12-03    |   

فسادٌ أضعفَ جانبَ ديمقراطيّةٍ واعدة

كان الاهتمام بمكافحة الفساد من الأولويّات المعلنة لكلّ مَن حكم فترة التجربة الديموقراطية التونسية. في المقابل، كانت المؤشّرات الإحصائية تؤكّد أنّ الظاهرة تطوّرت وتمكّنت من أن تفرض ذاتها واقعاً يعايشه التونسيون جميعاً ويؤثّر في موقفهم من جمهوريّتهم الثانية. ففي آخر استبيان حول تطوّر حجم الفساد أجرته الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في نهاية سنة 2020، صرّح أكثر من 87% من التونسيين أنّ حجم الفساد قد زاد بعد الثورة. فما الذي يجعل عمليّة مكافحة الفساد في تونس بهذا الإخفاق؟ ولماذا عجزت الحكومات المتعاقبة رغم الموارد المرصودة وتعدّد الهياكل حديثها وقديمها المكلّفة كشف الفساد ومكافحته؟ ولماذا تحوّل الفساد إلى عائق أمام شرعيّة منظومة الانتقال الديمقراطي التونسية؟

في محاولة الإجابة عن جميع هذه الهواجس، نقدّر من الجيّد أن نعتمد على التقسيم الكلاسيكي لأشكال الفساد، أي الفساد الصغير والفساد الكبير والاستيلاء على الدولة (state capture).

الفساد الصغير في طريق مفتوحة

هو الفساد اليومي الأكثر حضوراً في تعاملات الناس اليومية. ضرب هذا الفساد كافّة القطاعات والمجالات بدون استثناء، وتوفّرت له الفرص والظروف للانتشار وتهديد الفئات الأكثر هشاشة. فاضطرّها السعيُ إلى الحصول على خدمات عمومية ضمِنها الدستور، كالحقّ في الصحّة والتعليم والعدالة والأمن إلى دفع رشاوى رفعت كلفة خدمات من المفروض الحصول عليها بالمجان أو بسعر رمزي. وتحوّل هذا الفساد إلى سلوك عادي مقبول اجتماعياً ومبرّر أخلاقياً، يلجأ إليه الناس في معاملاتهم الإدارية اليومية. وتؤكّد الأرقام المتداولة حجم انتشار هذا الفساد، ومنها الصادرة عن منظّمة الشفافيّة الدولية في 2019 التي أفادت بأنّ 18% من التونسيين دفعوا رشاوى في 2019.

لكن كيف استطاع هذا الفساد اليومي أن يطوّر أساليبه وينعم بالقبول والصمت؟

هذا القبول الصامت للفساد يعود أساساً إلى تردّي الخدمات العمومية وازدياد الطلب عليها (خدمات صحّية، خدمات إدارية متنوّعة…). وقد خلق هذا التردّي ضغطاً متزايداً للحصول عليها في ظلّ ضعف قدرة الإدارة على الاستجابة. وبالتالي أصبح اللجوء إلى الرشوة وسيلة ضرورية للتمتّع بهذه الخدمات العمومية وافتكاك حصّة منها. فالحصول على سرير في مستشفى أو رخصة أو التفصّي من دفع مخالفة إدارية أصبح أمراً ممكناً بدفع رشوة. هذا الفساد ناتج أيضاً عن إضعاف كافّة وسائل الرقابة عليه. فكلّما زادت فرص عدم الكشف عنه زادت فرص انتشاره، مع عدم قدرة الدولة على فرض القانون وتطبيق العقوبات ضدّ المرتشين. وهذا ما ينجم عن البيروقراطيّة الإدارية التي لا تزال غير قادرة على تطوير آليّاتها بهدف تقديم خدمات متطوّرة آلية لا تستوجب التعامل المباشر مع الإدارة، وعن استمرار خضوعها لثقافة سلطوية تكون فيها الإدارة حامية للطبقة السياسية بدلاً من كونها مزوّد خدمات عامّة محايدة.

في المقابل، رغم الوعي العامّ بخطر هذه الآفة وبحق المواطنين في خدمات عمومية جيّدة يبدي أغلبهم نفوراً من النضال من أجل القضاء على الفساد. فهم يعتبرون أنّ كلفة هذا النضال أغلى بكثير من الانغماس فيه، ليكون دفع الرشاوى أقلّ ثمناً من مكافحتها. لكنّ هذا الفساد الصغير الذي استشرى مباشرة بعد الثورة يبقى فساداً يمكن التحكّم فيه في حال توفّرت إرادة لذلك تسمح باتّخاذ جملة من الإجراءات البسيطة، كرقمنة الإدارة أو التحكّم في السلطة التقديرية للموظّفين أو محاسبة المذنبين مهما كانت قوّة حصاناتهم القطاعية أو النقابية أو السياسية.

فساد كبير بوجوه مكشوفة

عرف الفساد الكبير أيّام مجده خلال السنوات الأخيرة لحكم بن علي. لكنّه خفت وتضاءل في السنوات الأولى بعد 2011، لينزع عنه سريعاً ثوب الحياء ويصبح مكشوفاً يتحدّى الدولة ومؤسّساتها، مستغلّاً تشريعات لم يجرؤ أحدٌ على تغييرها أو مناقشتها في ظلّ سيطرة مجموعات متنوّعة من أصحاب المصالح والمنظّمات والتجمّعات القطاعيةـ وهي مجموعات تشكّل قوّة تصعب مواجهتها، لقدرتها على التأثير والإضرار وخلط الأوراق ومعاقبة من يتجرّأ على الوقوف أمامها من مسؤولين وسياسيين ووزراء. هذا الفساد هو فساد جاثم على أنفاس الاقتصاد التونسي وعلى كلّ مبادرة لتحريره من ريع أحكم خناقه واستحوذ على الدولة وهدّد مقوّماتها وسيطر على مؤسّساتها لخدمة مصالح اقتصادية وسياسية ضيّقة.

ديمقراطيّة بلا أنياب ونُخَب مفترسة

مكّن هذا الفساد نخباً قديمة وأخرى جديدة من فرص أكبر للإثراء والهيمنة في ظلّ منظومة مساءلة فاشلة، جعلت من هذه النخب كائنات فوق القانون. فقد عجزتْ الدولة خلال الفترة السابقة عن تطوير نظام مساءلة فعّال لأصحاب السلطة. فتغيير النظام السياسي تماشياً مع دستور 2014 لم يترافق مع تحوّل مماثل في الممارسات السياسية بصفة تتلاءم مع قيم الديمقراطية، بحيث بقيتْ آليّات المساءلة ضعيفة يسهل التلاعب بها وتوظيفها. لذلك ليس مفاجئاً استشراء الفساد لم تُنجَز إصلاحات حقيقية تضمن تركيز أسس المساءلة، في ظلّ مقاومة شرسة تمتلك مقوّمات كبيرة لإفشال كلّ إصلاح حقيقي ودائم.

تمكّنت النخب القديمة والجديدة من إعادة تشكيل خارطة الفساد لإعادة اقتسام التركة القديمة لبن علي وعائلته والتحكّم في الاقتصاد وضمان سيطرة مجموعات وعائلات معيّنة على امتيازات اقتصادية احتكارية لتحقيق أرباح كبرى، والاستحواذ على أنشطة ريعية كانت حكراً على عائلة النظام السابق والانقضاض على ما تبقّى من التركة القديمة في إطار توجّه اقتصادي يغلق باب المنافسة الحرّة أمام فاعلين اقتصاديين جدد ولا يسعى إلى تحقيق قيمة مضافة فعلية.

برزتْ أيضاً خلال العشر سنوات الماضية شبكات جديدة من الفاسدين تبحث لها عن مجال لبسط نفوذها وتطوير أعمالها تمثّلها بالأساس في شبكات المهرّبين التي توسّع نفوذها وأبرزت قدرات كبيرة على شراء الولاءات الجهوية والوطنية، ووصلتْ حدّ التأثير في أعلى سلطة قضائية كمحكمة التعقيب في قضايا متعلّقة بتهرّب ديواني بمبالغ خيالية.

استغلّ الفاسدون تحوّل النظام السياسي التونسي نحو نظام ديمقراطي وطوّروا وسائل التحكّم والاستحواذ على الدولة والسيطرة على دواليب الاقتصاد باستغلال وتطويع آليّات الديمقراطيّة. فمؤسّسات الدولة الديمقراطية الناشئة شابَها الضعف وعدم القدرة على بسط نفوذها على مراكز قوى قادرة على التغلغل بسرعة في مفاصلها. واستغلّت هذه القوى آليّة الانتخابات، وبوّابتها مجلس نوّاب الشعب التونسي، لبسط النفوذ على الدولة، وسخّرت قدراتها المالية الضخمة لتوجيه الرأي العامّ بشكل رئيسي عبر إعلام، أغلبه لم يعرف بعد طريق الاستقلال. فمن خلال متابعة القوانين التي تمّ التصويت عليها في السنوات الأخيرة، برز قانون المصالحة الإدارية الصادر في 2017 مثالاً صارخاً يؤكّد السعي المحموم نحو طيّ صفحة ملفّات الفساد الماضية بدون مساءلة أو محاسبة تكريساً للإفلات من العقاب، سواء التي تخصّ أصحاب الأعمال وعلاقاتهم مع المنظومة السابقة أو الموظّفين الذين عبّدوا الطريق أمام هذه التجاوزات. ورغم ما صاحب النقاش حول هذا الموضوع من جدل واعتراض فقد مرّ، ولو بصفة جزئية، بعد حذف العفو الذي شمل أصحاب الأعمال وتحوّل اسم القانون من قانون المصالحة الاقتصادية إلى قانون المصالحة الإدارية. عديدة أيضاً القوانين ذات الصبغة الاقتصادية التي كرّست هذا التوجّه، كالمصادقة على إعفاءات ضريبية موجّهة إلى دعم بعض القطاعات الريعية أو قانون إعادة رسملة البنوك العمومية في 2015، الذي مكّن هذه البنوك من إجراء عمليّات الصلح مع المدينين وأغلبهم من العائلات النافذة[1]. كما لم يمارس المجلس دوره الرقابي في متابعة قضايا الفساد الكبرى باستثناءات قليلة بدت كصدى صوت في بئر عميقة.

الأحزاب واجهة جديدة للفساد

تميل الأحزاب السياسية في الديمقراطيّات الناشئة نحو السعي إلى البقاء في السلطة أطول زمن ممكن والإبقاء على نفوذها من خلال تمويل فاسد للحملات الانتخابية أو الدخول في تحالفات خارج المنطق. وهو ما حدث عديد المرّات في انتخابات 2014 و2019 وأكّده تقرير محكمة المحاسبات حول تمويل الحملات الانتخابية الذي بقي حبراً على ورق. فتعطُّش بعض الأحزاب إلى السلطة بعد فترة طويلة من الإقصاء جعلها تركّز على ضمان بقائها بغضّ النظر عن الوسيلة، وذلك من خلال شراء الأصوات والدخول في علاقات سياسية تقوم على ارتباطات وتحالفات، غايتها حماية أو جلب منافع لأطراف ساندتها على حساب المجموعة في ظلّ قانون الصمت المبنيّ على التواطؤ وتشابك المصالح.

كما حوّل النظام الانتخابي القائم على التمثيل النسبي زعماء كبرى الأحزاب السياسية إلى قوّة يسعى الأفراد الراغبون في الوصول إلى السلطة إلى التقرّب منهم لضمان مكان في صدارة القائمات الانتخابية، وذلك بدل الاعتماد المباشر على إقناع ناخبيهم وتقديم مشاريع إصلاحية. وهو ما جعل الاعتماد على استخدام المال والزبونية المسار الأسرع للوصول إلى السلطة وضمان الحصانة وتحقيق الوجاهة والنفوذ السياسي في انتظار تحقيق العائد الاقتصادي على الاستثمار واسترجاع المصاريف التي صُرفت على الحملات الانتخابية. ولعلّ انتشار حالات تضارب المصالح بين النوّاب التي منعها القانون عدد 46 لسنة 2018 المؤرّخ في 1 أوت 2018 المتعلّق بالتصريح بالمكاسب والمصالح وبمكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح دليل آخر على تحقيق العائد على الاستثمار. فهذا القانون يمنع النوّاب من الدخول في علاقات تجارية مع الدولة إلا أن العديد منهم تعاقدوا مع الدولة في صفقات شملتْ مجالات متعددة كالأدوية والسيارات رغم معارضة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.

ماذا عن قوى الإصلاح؟

في ما عدا استثناءات قليلة، لم يتمكّن المواطنون والمجتمع المدني والإعلام من اكتساب أدوات المراقبة والتأثير بشكل فعّال في بناء سياسات دائمة لمكافحة الفساد. وبنتيجة ذلك، تحوّل الفساد إلى فساد مؤسَّسي تسيطر عليه مجموعات مصالح ضيّقة تتقن عمليّات الابتزاز والسيطرة. من جهة أخرى، تمكَنت البيروقراطيّة القديمة، أو ما اصطلح على تسميته بالإدارة العميقة، في الغالب من إفراغ أيّ محاولة للإصلاح من محتواها بإغراقها في متاهات شكلانية أبعد ما تكون عن تحقيق الأهداف في ظلّ افتقار الطبقة السياسية الجديدة إلى الخبرة والحنكة في تسيير الشأن الإداري. كما أثّر عدم الاستقرار السياسي الذي عرفته تونس بقرابة عشر حكومات خلال عشر سنوات على تنفيذ إصلاحات عميقة. فعدم اليقين السياسي جعل السياسيين يركّزون على إصلاحات وقضايا قصيرة الأجل بدلاً من القضايا طويلة الأجل التي تحقّق الإصلاح وتعزّز المساءلة والمحاسبة.

استغلال الإدارة هو أيضاً وسيلة للتحكّم في الدولة والسيطرة على دواليبها من خلال تعطيل أجهزتها الرقابية وإضعاف الإمكانيّات الموضوعة على ذمّتها، سواء البشرية أو المادية. ويبقى مثال هياكل الرقابة العامّة دليلاً على ذلك بتأخير عمليّة إصلاحها وتهميش دورها. ويتبدّى استغلال الإدارة أيضاً في إضعاف قدرتها على إنفاذ القوانين الزجرية أو تطبيقها بطريقة انتقائية. ومن الأدلّة على ذلك، الطلب الذي وجّهته الحكومة إلى الاتّحاد الأوروبي بصفة رسمية لرفع التجميد عن ممتلكات مروان المبروك (أحد أكبر أصحاب الأعمال الذين جُمّدت ممتلكاتهم باعتباره صهراً لبن علي).

التحدّي اليوم هو ألّا تنزلق السلطة الجديدة نحو فساد جديد قد تتوفّر له أرضيّة خصبة للانتشار في ظلّ إمكانيّة تراجع عديد المبادئ التي تقوم عليها مكافحة الفساد، ومنها في الأساس الشفافيّة وحرّيّة التعبير والمساءلة وتوازن السلط. في ظلّ تواصل حروب على الفساد هدفها تصفية حسابات سياسية وإقصاء معارضين، لم تنفُذ بعد إلى تفكيك الفساد عبر مؤسّسات متمكّنة ومستقلّة وقضاء ناجز.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة


[1] تونس: قائمة بأسماء رجال الأعمال الذين نهبوا أموال الشعب.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني