عيترون تقاوم العدوان بزراعة التبغ


2024-03-25    |   

عيترون تقاوم العدوان بزراعة التبغ
شتول التبغ في عيترون

في مشهد سوريالي يترجم أهمية شتلة التبغ في اقتصاد الجنوبيين التي يسمّونها “شتلة الصمود”، حمل المزارع يوسف طعّان المنطاع (الآلة التي يحفر بها لزراعة الشتول) في عيترون، البلدة الجنوبية التي تتعرّض للعدوان الإسرائيلي يوميًا، وجعل يغرزه في الأرض ليشكّل ثلمًا مستقيمًا للشتول. تحت سماء تخترقها المُسيّرات المعادية على مدار الساعة، كانت سوسن، ابنته طالبة الأوّل ثانوي، “تغلّ” شتلة تبغ (أي تغرس باللهجة الجنوبية) في الحفر وراءه، فيما تطمر شقيقتها (خامس ابتدائي) وشقيقها (ثالث ابتدائي) الشتول بالتراب. وفي موازاة ثلم الأب يوسف، كان بكره، (سنة أولى جامعية)، يؤسّس ثلمًا آخر بالمنطاع، فيما تتبعه شقيقته الثالثة (ثاني متوسط) لتزرع الشتول وراءه، ويتولّى شقيقها الثالث (ثالث ثانوي) دمل (طمر) الشتول. وعلى صخرةٍ مشرفة على الحقل، جلس جدّ الأبناء، ووالد يوسف، مرتديًا قبعة تردّ عنه الشمس، مطمئنًّا إلى عدم تخلّي ذريّته عن الأرض التي قضى عمره في رعايتها والحفاظ عليها.

    

ومن عيترون على الحدود مع فلسطين المحتلة، إلى تبنين التي تعتبر خطّ مواجهة ثانيًا، ينقل يوسف أبناءه يوميًا، جيئة وذهابًا، إلى مدرستهم الرسمية. فقد خاطرت العائلة، بخلاف معظم عائلات المنطقة الحدودية مباشرة مع فلسطين، وقرّرت عدم مغادرة بيتها وأرضها، والأهم زراعة ما يمكن من دونمات التبغ، بعدما قضى العدوان الإسرائيلي على الموسم في غالبية البلدات والقرى الجنوبية، مع توسّع رقعة الاستهداف، خارج الشريط الحدودي المباشر.  

وكما المزارع يوسف طعان، فعل جاره المزارع إبراهيم عبد المنعم (أبو محمد) محاولًا زراعة خمسة دونمات من التبغ تحت العدوان المستمر، ليكونا، المزارعين الوحيدين اللذين رُصدا في الحقول الخطرة  من بين نحو 5322 مزارعًا ممنوعين من الوصول إلى أراضيهم في 43 بلدة حدودية. ويشكّل هؤلاء، أي مزارعو القرى الحدودية، جزءًا من 13043 مزارعًا جنوبيًا من 23 ألف في كل لبنان موزّعين على 192 قرية، من بينها أراضي عكار والبقاع.

في الأيام العادية، وخارج العدوان الإسرائيلي الذي دخل في 8 آذار شهره السادس على جنوب لبنان، كان مشهد المزارعين طعان وعبد المنعم ليعتبر عاديًا في سياق نشاط آلاف المزارعين والعمال المعاونين الذين ينتشرون في كل حقول الجنوب، في هذه الفترة من كل عام، موسم زراعة التبغ التي تشكّل مصدر عيش لأهل الأرض وعمودًا أساسيًا في اقتصاد الجنوب، ودخلًا وحيدًا لآلاف العائلات تاريخيًا، وفق ما تثبته أرقام إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية، “الريجي”.

ويسمّي مزارعو التبغ، المناطق الحدودية: “خزّان الريجي” نظرًا للكمية الكبيرة التي تنتجها من التبغ. ففي بلدة عيترون وحدها هناك 882 مزارعًا، أما في عيتا الشعب فهناك 791 مزارعًا، أما رميش ففيها 703، وهي رخص ساعدت أهالي هذه البلدات على الصمود في منطقة تشهد اعتداءات إسرائيلية متكررة منذ 1948 ولغاية اليوم. ونظرًا إلى أنّ 99% من القرى التي تعتمد عليها “الريجي” لإنتاج التبغ فارغة كليًا من السكان، من المتوقع انخفاض الإنتاج بنسبة تتراوح بين 45% بحسب مدير الزراعة والمشترى في الريجي في الجنوب المهندس جعفر الحسيني و60% بحسب المزارعين. مما ينعكس انخفاضًا بالنسبة نفسها على مداخيل المزارعين من هذه الزراعة. 

ولا تقتصر الحركة الاقتصادية التي تدرّها شتلة التبغ على الجنوبيين بما يجنيه المزارعون فقط، بل تنسحب أيضًا على كامل الحلقة التشغيلية للقطاع وما يرتبط به، وبالتالي تحرّك الاقتصاد برمّته: من المزارعين إلى الأيدي العاملة إلى أصحاب جرّارات الفلاحة وأصحاب صهاريج المياه وصولًا إلى أصحاب محال بيع المنتجات الزراعية. 

 مزارعان من عيترون يتحدّيان طائرة الـ “إم كا”

“الموت موجود بكلّ لحظة، أنا بدي إزرع أرضي وطعمي أولادي، شو بنتظر إصبع المعكرونة؟”، هذا ما  يقوله إبراهيم عبد المنعم من بلدة عيترون (882 مزارعًا) في اتصالٍ مع “المفكرة”، هو الذي يزرع حقوله الواقعة داخل القرية والبعيدة عن مرمى النيران. ويضيف عبد المنعم أنّه وبعدما كان يزرع حوالي ثمانية دونمات في السنوات الماضية، اليوم في نيّته زراعة خمسة فقط، وقد تمكّن لغاية اليوم من زراعة دونم واحد منها فقط. وهو يترقّب الظروف الأمنية كي يباشر بفلاحة جزء من أرضه وزراعتها “يعني بنتظر لتهدأ شوي وبزرع، لما يكون في قصف ما في حدا يتجوّل أبدًا”. ويضيف أنّه قام بزراعة مشتله بنفسه قبل حوالي شهر ونصف الشهر، ويواجه “أبو محمد” صعوبة في إيجاد الأيدي العاملة، فهو وبعدما كان جميع أفراد عائلته يتعاونون لزراعة الموسم، يستعين اليوم ببعض المزارعين الذين ما زالوا متواجدين في القرية أو يأتون لتفقّد منازلهم بين الفينة والأخرى.

يروي عبد المنعم لـ “المفكرة” أنّ مشواره مع شتلة التبغ بدأ منذ الطفولة حين كان يعاون والده في الزراعة، واليوم هو أب لأربعة أطفال أصغرهم بعمر السنة، يحتاجون إلى الكثير من الأموال لتغطية نفقاتهم، “نحنا أولاد ضيعة ومزارعين تعبنا لوجدنا حالنا، الأرض ما بتنترك”. 

ويضيف عبد المنعم أنّه عدا عن حاجته إلى تحصيل رزقه ورزق أولاده، يزرع أرضه رغم المخاطر كفعل تحدّ للعدو الإسرائيلي بالدرجة الأولى، “بدّي إبقى بأرضي وإزرعها، وإلّا لشو عم يستشهدوا هالشباب! كرمال نحن نفل؟”. ويضيف: “الأرض لتبقى موجودة، لازم نفلحها ونزرعها ونأكل من خيراتها”، و”لولا شتلة التبغ ما كان حدا اتعلّم من أولاد الجنوب وما كان في لا مهندس ولا أستاذ ولا محامي”.

ويشير إلى أنّ العديد من المزارعين في المنطقة يودّون زراعة أرضهم، لكنّهم لا يجدون من يساعدهم، كون زراعة التبغ تحتاج إلى معونة من جميع أفراد العائلة، من هنا لا يخاطر أحد من المزارعين في الشريط الحدودي المتاخم بوضع أفراد عائلته تحت الخطر. 

بدوره يقول المزارع يوسف طعان إنّه لا يملك ترف اختيار عدم زراعة أرضه، فكأبّ لثمانية أولاد فهو مضطرّ لزراعتها رغم المخاطر. “أنا إذا ما زرعت دخان كيف بدّي طعمي أولادي؟” يسأل في اتصالٍ مع “المفكرة”. ويشير إلى أنّه عادة كان يزرع حوالي 30 دونمًا، أمّا هذا العام ففي نيّته زراعة 12 دونم فقط، ولم يزرعها منها حتى اليوم سوى خمسة، معتبرًا أنّ خطر هدير طائرات الاستطلاع والغارات المتتالية على القرية لا يقلّ أهمية عن هدير الجوع والفقر.

ويوجّه طعان عتبًا وملامة على إدارة حصر التبغ والتنباك التي لم يعتبر أنّها لم تقف إلى جانب المزارع في محنته، لا بل قامت في الموسم السابق في تشرين الأول 2023 الذي تزامن مع بدء اندلاع الحرب، باستلام الكيلوغرام من المزارعين بحوالي 6 دولارات كحد أقصى، رغم الظروف المعيشية والأمنية التي يواجهونها علمًا أنّ ثمن الكيلوغرام بلغ قبل الأزمة حد 8 دولارات. ورغم أنّ المزارعين كانوا يطالبون برفع السعر، لكنهم رضخوا خوفًا من كساد موسمهم أو احتراقه نتيجة العدوان. ويضيف أنّ “الموسم الماضي كان أوّل موسم بيقبّضونا بالدولار، كلّ الأزمة كانوا عم يقبّضونا عاللبناني”. ويشير إلى أنّ “الريجي” لغاية اللحظة لم تبادر إلى إرسال أي مساعدات، مكتفيًا بمطالبتها بإعطاء المزارع حقّه وثمن تعبه عبر رفع سعر الكيلوغرام. 

شتلات تبغ

توقعات بانخفاض الإنتاج ما بين 45% و60%

يبلغ عدد مزارعي التبغ في بلدة عيترون وحدها 882 مزارعًا، أما في عيتا الشعب فهناك 791 مزارعًا، ورميش ففيها 703. لذلك يقدّر الحسيني أن ينخفض الإنتاج هذا العام بنسبة 45%، حيث أنّ 99% من القرى التي تعتمد عليها “الريجي” لإنتاج التبغ فارغة كلّيًا من السكان.

إلّا أنّ خليل ديب، عضو تجمّع مزارعي التبغ في الجنوب، يتوقع أن ينخفض الإنتاج إلى حد 60%، فبرأيه العدوان أثّر على المزارعين في المنطقة ككلّ وليس على مزارعي القرى المتاخمة فحسب، موضحًا أنّ المزارع حتى في القرى البعيدة نسبيًا خائف من التجوّل في الحقول والأراضي فيما طائرات الاستطلاع تحلق في السماء. كذلك هناك قرى حتى لو كانت تعتبر آمنة إلّا أنّ المزارع لا يمكنه الوصول إلى حقوله البعيدة، ضاربًا مثال قريته شقرا التي تعتبر بعيدة عن الحدود نسبيًا إلّا أنّ أحدًا من المزارعين لم يتجرّأ على زراعة أرضه خوفًا من قذيفة أو استهداف للحقول.

وهذا ما يؤكده ريمون عون من بلدة رميش الجنوبية، وهي قرية تعتبر محيّدة نوعًا ما، لكن أكثرية أراضي المزارعين متاخمة للحدود مع فلسطين، فهو اليوم لن يتمكّن سوى من زراعة نصف مساحة أراضيه التي اعتاد زراعتها في الأعوام السابقة وهي 30 دونمًا، كون قسم كبير منها بعيد وهناك خطورة في الوصول إليها وتعريض العمال وأفراد العائلة للخطر. “عندي 10 دونمات بأرض يارون ما رح اقدر إزرعها، كمان في أرض كفركلا ما بقدر روح، كرمال هيك راح إزرع بس جوّات الضيعة”، يقول عون لـ “المفكرة”.

ويترقّب مزارعو القرى الحدودية أي بارقة أمل لوقف إطلاق النار أو لإعلان هدنة، كي يتمكّنوا من العودة إلى قراهم وزراعة ولو دونمات قليلة من حقولهم، قبل حلول منتصف شهر نيسان، وهي الفترة التي يبقى فيها المزارع قادرًا على زراعة التبغ.

وحاول بعض مزارعي المناطق الحدودية الاستعداد لهذه الخطوة فزرعوا قبل نحو شهر من اليوم مشاتل بذور التبغ قرب منازلهم، لإنبات الشتول كمرحلة أولى، تمكّنهم لاحقًا من نقلها إلى الحقل، للزراعة، ولكن ازدياد حدة الاعتداءات الإسرائيلية وتوسع رقعتها، حالا دون الزراعة اليوم، وبقيت المشاتل بانتظار نقلها إلى الأرض وإلّا ستتلف. 

يروي بهيج مهدي من بلدة عيترون في اتصال مع “المفكرة”، أنّه على الرغم من نزوحه مع بداية الحرب من عيترون إلى قرية برعشيت، إلّا أنّه عاد قبل حوالي الشهر ونصف الشهر إلى القرية لزراعة “مشتله” على أمل الهدنة. “المشتل بدو 45 يوم ليكبر، كنت إجي تحت القصف قول خلّيني إزمط بالمشتل إذا صار هدنة بيكونوا الشتلات طلعوا بلحّق إزرع بس هالشي ما صار”، مضيفًا أنّ شتلات “مشتله” اليوم أصبحت كبيرة وضعيفة وهي لا تصلح حتى إلى نقلها للحقول. وكان مهدي يزرع حوالي 18 دونمًا من الأرض ولا يقلّ إنتاجه عن 22 ألف دولار سنويًا، وهو كلّ ما يملك ليعيل عائلته. ويضيف أنّ زراعة الأرض تحتاج إلى أيدٍ عاملة وهو لن يعيد عائلته إلى القرية ويعرّضها للخطر من أجل زراعة التبغ. “أنا الموسم باكل منه أنا وعيلتي وأحفادي”، لافتًا إلى أنّه إذا لم يزرع ويحصّل المال فإنّه أيضًا لن يتمكّن من زراعة الموسم المقبل “ما نحن منسلّم ومنزرع من المصاري لي منقبضها، إذا ما قبضنا كيف منزرع”.

مزارعو الجنوب: “الموسم بمهبّ العدوان”

مع ذلك، يؤكّد مزارعون لـ “المفكرة” أنّ كامل موسم التبغ في مهبّ ريح العدوان هذا العام. إذ حتى لو توقف العدوان في نيسان، فإنّهم لن يتمكّنوا من زراعة الموسم، لأنّ الأرض تحتاج إلى تجهيز عبر حراثتها  ثلاث مرات، ورشها بالمبيدات (لتعقيمها) والأسمدة لتغذيتها. وهذا لم يحدث، ولذا فإنّ المحصول، حتى لو زرعوه، سيكون ضعيفًا. من هنا بات المزارعون على يقين بأنّ “الموسم راح” وأنّ لا إنتاج ولا مصدر رزق لمن يعتمد على التبغ كمصدر وحيد للعيش. ولا يعلم المزارعون ما ستؤول إليه أوضاعهم، مع ضبابية إمكانية تعويض الدولة خسائرهم ومحاصيلهم لغاية اللحظة. ويدور نقاش في لبنان اليوم يبيّن خلافًا سياسيًا حول التعويض على أهالي الجنوب، إذ غالبًا ما تُستثنى الزراعة من التعويضات التي تقتصر، في حال الاتفاق عليها، عادة، على التعويض عن الخسائر في الأرواح البشرية والوحدات السكنية والتجارية والمصالح. 

وفي حين ذكرت تقارير إخبارية أنّ هناك بحثًا جاريًا بين رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري، حول إمكانية التعويض على المتضرّرين من مزارعي التبغ في القرى الحدودية خصوصًا بلدات رميش وعيترون وحولا وميس الجبل، في مبادرة تقوم بها “الريجي”، يتولى إدارتها المهندس ناصيف سقلاوي، نفى مكتب السقلاوي في اتصال مع “المفكرة” الخبر، مؤكّدًا أنّ لا بحث جاريًا بشأن التعويضات لغاية اللحظة.

من جهة ثانية يعتبر المهندس جعفر الحسيني أنّ الوقت ما زال مبكرًا للحديث عن مساعدات أو تعويضات،  فبرأيه وإذا ما حصل وقف لإطلاق النار، ففي استطاعة المزارعين زراعة مواسمهم، ولو كان الإنتاج ضعيفًا بسبب عدم تهيئة الأرض. أما عن تقديمات الإدارة خلال الأشهر الستة الماضية، فاقتصرت بحسب الحسيني، على توزيع بعض المبيدات والأسمدة. كذلك قامت الإدارة قبل نحو شهر بتجهيز المشاتل للمزارعين في منطقة السعديات، استعدادًا لإعلان هدنة أو وقفًا لإطلاق النار تُوزّع على أثرها الشتلات على المزارعين.

في المقابل، يطالب نقيب مزارعي التبغ والتنباك، حسن فقيه، “الريجي” بضرورة التعويض على المزارعين بطريقة أو باخرى معتبرًا، أنّ المزارع لن يتمكّن من زراعة حتى الموسم المقبل، 2025، إذا خسر موسمه ولم يحصل على مساعدة أو تعويض.

ويضمّ خليل ديب، عضو تجمّع مزارعي التبغ في الجنوب، صوته إلى صوت فقيه، إذا يطالب أيضًا إدارة “الريجي” بالتعويض على جميع المزارعين الذين يملكون الرخص ولم يتمكّنوا من زراعة أرضهم بسبب العدوان، على أن يحتسب التعويض نسبةً إلى الكمية التي سلّمها كلّ مزارع  في العام 2023. ويرفض ديب في اتصالٍ مع “المفكرة”، التمييز بين مزارعي القرى في التعويضات لأنّها تخلق حالة من اللا عدالة، فبرأيه “كما لم يتمكّن مزارعو بلدة عيترون ورميش وميس الجبل وحولا من زراعة أراضيهم، كذلك مزارعو بلدات دير ميماس وكفركلا وغيرها”. 

بدوره يوضح الحسيني أنّ “الريجي” هي مؤسسة عامّة تتبع مباشرة إلى وزارة المالية لذلك لا يمكنها صرف أي تعويض أو مساعدات إلّا بناء على قرار من وزارة المالية، مشيرًا إلى أنّ ثمن الكيلوغرام يتحدّد بناء على حسابات تتضمّن تكلفة إنتاج المزارع مع إضافة ربحه. لذلك يعتبر الحسيني أنّ 6 دولارات ثمن الكيلوغرام هو سعر منصف للمزارعين. 

الحلقة التشغيلية للتبغ: مئات العائلات توقف عملها 

يقول الحسيني في حديث مع “المفكرة” إنّ هامش ربح مزارع التبغ يتراوح بين 50% و40%، وهي نسبة عالية لا يحققها أيّ مزارع  آخر برأيه، مضيفًا أنّ زراعة التبغ هي زراعة مساعدة وليست أساسية “يعني أستاذ المدرسة بيزرع دخان، والموظف بيزرع دخان”، علمًا أنّ قيمة هذه النسبة في حال “تقريشها” لن تتجاوز 150 دولارًا للدونم الواحد أو 200 دولار كحد أقصى. يقول دياب: “منشقى كلّ السنة نحن وكل أفراد العيلة، وأوقات في نسوان كبار بالسنّ بيشتغلوا، كلّه كرمال 150 دولار بالدونم”. 

وفي عملية حسابية لكلفة دونم زراعة التبغ والحلقة المعيشية المرتبطة بها فهناك: 

أصحاب الجرّارات التي تفلح الأرض، وقد بلغت كلفة فلاحة الدونم الواحد في العام 2023 حوالي 10 دولارات، هذا ويحتاج الدونم إلى ثلاث فلحات، فتبلغ قيمة فلاحة الدونم 30 دولارًا. وبالرغم من أنّ زراعة التبغ اتّسمت تاريخيًا بأنّها زراعة عائلية تقوم على أكتاف أفراد العائلة، إلّا أنّها تتيح الكثير من فرص العمل المياوم وخصوصًا عند كبار المزارعين. ويحتاج كلّ دونم أرض إلى نحو أربعة عمال لزراعته، ويبلغ بدل العامل اليومي 15 دولارًا، وتستغرق زراعة الدونم يومين، أي أنّه يحتاج إلى 8 عمال، بكلفة 120 دولارًا.

أيضًا يحتاج كلّ دونم إلى “نقلة” من المياه تكلفتها حوالي 15 دولارًا. إضافة  الى “شوالين”من الأسمدة قيمتهما حوالي 70 دولارًا، عدا عن المعدات الزراعية مثل الخيطان وخراطيم المياه والنايلون، وبدل نقل يوميّ إلى الحقل.

وينضمّ أصحاب المحلات الزراعية إلى الحلقة الاقتصادية للتبغ حيث يحتاج كلّ دونم إلى “شوالين” من الأسمدة، إضافة إلى الأدوية، وبكلفة لا تقلّ عن 110 دولارات. كما يضمن (يستأجر) المزارعون كل دونم أرض بنحو 20 دولارًا للموسم. عدا عن أنّ المزارعين يصرفون مداخليهم من التبغ في محلات السمانة وفي البناء وفي تعليم أبنائهم وفي شراء الطعام وغيره، وبالتالي تزدهر حركة هذه القطاعات مع كلّ موسم.

من هنا وفي عملية حسابية أوّلية، تبلغ تكلفة زراعة الدونم حوالي 350 دولارًا، ولا  يسمح للمزارع بتسليم أكثر من 400 كيلو تبغ عن أربعة دونمات، أي بمعدّل 100 كيلوغرام للدونم الواحد التي يبلغ ثمنها ما بين 550 و600 دولار. وهذا يعني أنّ ربح المزارع (العائلة) هو من 200 و250 دولارًا، أي 50% وهي النسبة التي حدّدها الحسيني. 

ويرفض الحسيني اعتبار هامش الربح هذا منخفضًا، مفسّرًا أنّ التسليم هو بحسب الكمية وليس بحسب المساحة، أي يمكن لصاحب الرخصة (4 دونمات) إنتاج 400 كيلوغرام كما يُسمح له، ولكن من خلال زراعة دونم ونصف فقط وليس أربعة دونمات. “إذا الواحد لازم يسلّم على رخصته 400 كيلو، في يزرع بس دونم ونص وبيطلعولوا 400 كيلو وبالتالي الكلفة بتقلّ”، بحسب الحسيني.

وكمعظم القطاعات لا تخلو زراعة التبغ من الزبائنية السياسية، وتظهر بحسب دياب، من خلال توزيع رخص زراعية (4 دونمات) على أفراد (غير مزارعين) محسوبين على فريق سياسي معيّن. ويبلغ عدد الرخص في الجنوب والبقاع الغربي حوالي 18700 رخصة منها حوالي 5 آلاف رخصة “وهمية”. وانطلاقًا من أنّ الريجي لا تستلم أكثر من 100 كيلوغرام في الدونم الواحد، يقوم أصحاب الرخص “الوهمية” بشراء فائض الإنتاج من المزارعين الحقيقيين بأسعار زهيدة وتسليمها لـ “الريجي” بالسعر المعتمد، “يعني المزارع ببيع فائض إنتاج الدونم بـ 5 آلاف ليرة لأصحاب الرخص الوهمية، وهو ببيعه للريجي بـ 12 ليرة قبل الأزمة”.

نزحوا والقلب مع الشتلة 

نادر فنيش من بلدة الضهيرة، يقول في اتصال مع “المفكرة” إنّ خسارته لا تقتصر على زراعة مواسم التبغ، فهو مزارع يمتلك جرّارًا ينتعش عمله خلال موسم التبغ من خلال الفلاحة ونقل المياه للمزارعين. “أنا على الفلاحة باخد 15 دولار وبفلح بالنهار 5 دونمات يعني يوميتي من الفلاحة كانت بتوصل لشي 60 دولار، عدا عن نقل الماي بطلّع كمان شي 70 دولار”. وكان نادر فنيش قد بقي صامدًا ووالدته في القرية لغاية شهر شباط الماضي، إلّا أنّ حدة الغارات جعلته ينزح إلى مدينة صور وقلبه في الضهيرة.

فاطمة مواسي وأختها فهدة، اضطرّتا مع بداية العدوان لمغادرة عيترون والنزوح إلى بيروت، وعلى الرغم من أنّ جسديهما “هنا” في بيروت إلّا أن قلبيها وروحيهما “هناك” حيث الحقول التي بقيت ” بور”. وهما اللتان شارفتا على الستين من عمرهما، قد خشنت يداهما من صمغ التبغ وحفرت شمس الحقول عميقًا في جلدهما، ومنذ ستة عقود والنبتة هي مصدر عيشهما. بداية في كنف ذويهما، واليوم تعيل فاطمة بناتها بعد وفاة زوجها عبر زراعة أربعة دونمات من التبغ، أما فهده فتزرع خمسة. وتقول فاطمة في اتصال مع “المفكرة” أنّها تتمنّى لو كانت في القرية، “مثل العام الأوّل هيديك السنة كان رمضان وكنّا عم نزرع دخان، نروح من الخمسة الصبح للخمسة عشية، قول للبنات شو ما بدكم عملوا أكل للإفطار”.

وتؤكد فاطمة أنّها اليوم تعتاش على المساعدات، وأنّها إذا لم تزرع  الموسم الحالي 2024 فإنّها لن تتمكّن من زراعة موسم العام 2025، “نحن لازم يكون معنا مصاري مش بس لنعيش السنة كمان لنفلح الأرض السنة الجاي ونجيب سماد ومبيدات”.

“يا ريتني هلّق بالضيعة وعم بزرع الأرضيات”، تقول فاطمة مواسي وهي تتنهّد عبر الهاتف. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني