عودة في ذاكرة الانتقال الديمقراطي (2): من “سنوات الطّين” إلى “سنوات الرمل”


2024-03-30    |   

عودة في ذاكرة الانتقال الديمقراطي (2): من “سنوات الطّين” إلى “سنوات الرمل”

“سنوات الرمل: تفكُّر في معارك الانتقال الديمقراطي 2011-2014” من منشورات سوتيميديا سنة 2021، في 211 صفحة، للكاتب عدنان منصر، أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية والناشط السياسي الذي أعلن عن مغادرته الساحة الحزبية سنة 2018. لهذا المعطى أهمية أوليّة في تقدير سبب كتاب ثنائية الرمل والطين. فلقارئ “سنوات الطين: تونس من الديمقراطية الكسيحة إلى الإستبداد الشعبوي 2019-2023” أن يلاحظ أن هناك امتدادا منهجيّا ومضمونيّا مع “سنوات الرمل: ” انطلاقا من محاولة تقديم تحليل وفهم لما بعد 2011. يمتاز الكتابان بأسلوب السّرد الذي يتعاضد مع المنهج التاريخي المُتخفّف من قواعد المنهج الشكليّة من حيث التعريف المباشر للمصطلحات والمفاهيم وإشكالية الكتاب. لكن الجهاز المنهجيّ يحضر في المتن لضبط سلسلة الأحداث خلال الفترة التي يغطّيها. للقارئ أن يُقبل بسهولة على قراءة كل منهما، لكنهما سيستفزّانه في مساحة التأويل والتحليل التي يخلقها الكاتب معه بموضوعية حاول الكاتب توخّيها.

“سنوات الرمل” كتاب متوسط الحجم لكنّ إشكالياته مكثّفة حول فترة حسّاسة. اختار الكاتب تجاهها أن يُقدّم “محاولة في الفهم ومنهجا للفهم” بناء على مسافة زمنية من الأحداث ومسافة من تجربته الشخصية. يتميّز أسلوب كتاب “سنوات الرمل”، خلافا لـ”سنوات الطين” بحضور ضمير المتكلم. فالكاتب يتحدث بصورة مباشرة عن بعض تفاصيل تجربته الشخصية قبل وبعد 2011 في سياق تحليله للأفكار. كما يورد نصوصا نُشرت حول قضايا بعينها يتناولها في الكتاب. إلا أن ذلك لم يمسّ من كثافة الكتاب التحليلية، حيث لم يتحول إلى مذكّرات شخصية بل جعلت منه صفحات الإحالة الشخصية نوعا من الاستدلال على رؤية الكاتب وحججًا للتأكيد أو التفنيد.

تبدأ القراءة هنا بما ختم به الكتاب. هو صغير الحجم لكن مكثّف جدا، وقدّم صورة قاتمة يصعب بعدها التدارك وصناعة البدائل (فصل ختامي: أسئلة الأمس…أسئلة اليوم (ص. 193-209). لنستذكر أن الكتاب صدر في شتاء 2021 عن فترة تأزّم حقيقيّة لمسار الانتقال الديمقراطي، لم تخلُ من الشعبوية، وانتهتْ في صيفه بالشعبوية وهي تحتكر السلطة. فما هي مآلات البناء على الرمل ومآلات ما بعده، وهو نتاجه؟

أكّد الكتاب هذه الخلاصة في خمسة فصول مع الفصل الختامي. وخلافا لـ”سنوات الطين”، نجد الكاتب يصرّح بالسقف التاريخي التخصصي للتناول والتحليل، كما راجع دور المؤرخين أنفسهم بين التبني والنقد، في سياق تناوله لهيئة الحقيقة والكرامة (ص. 41-46). وذلك لما لدورهم من أهمية في قراءة التاريخ ومراجعته علميا في وقت كان الصراع على أشدّه. صراع سرديّات متضادّة أخفتْ صراع مواقع وهيمنة. لم تكنْ السرديات معلّقة في الهواء، ولم تكن قابلةً للحلّ عبر القول التاريخي العلمي، لأن التوازنات المرتبطة بها خلفها نُخَبٌ قديمة وجديدة كانت هي المشرفة على عملية الانتقال من الثورة إلى ما بعدها. هذا مع ملاحظة أن القول العلميّ خالطتْه السرديّات نفسها، كما في حالة بيان المؤرّخين ردّا على بيان عبد الجليل التميمي والنقاش حول عمل الهيئة في ظلّ الصراع حولها، وما انكشف عن أن عملها أصبح محلّ تجاذب سرديتيْن تحاول كل منهما أن تحتكر التاريخ. استعمل البيان عبارةً أنكرها الكاتب من خلفية علمية، وهي مصطلح Négationniste، الذي لا يرى المنصر أيّ وجاهة لاستعماله  بخصوص سرديات، لا هي مقدّسة ولا هي بريئة من نُظُم الهيمنة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. كان جديرا، انطلاقا مما يؤكّده الكاتب، أن تكون برودة التاريخ وقوله العلمي رافعة النقاش الحقيقي حول التاريخ المشترك. وهو معطى يبدو أن الكاتب يتمسّك به في تناوله لصراع السرديات ودور النخب.

رقصة النخب على إيقاع السرديات: تحلّل الأدوار وإعادة إنتاج القديم

صراع السرديات بين البورقيبية واليوسفية هو صراع غير نقي، لأنها غير مقدسة من حيث المبدأ علميّا، سوى ما قدّسه أنصارها. إلاّ أنّ تبني كل منهما لم يعكس تصورات أو نقاشات حولها، بل انطلق مما تشرّع له من  مواقف وسلوكيّات سياسيّة، وما تسمح به من مكاسب ضمن منظومة مهيمنة. السرديّة الأولى هي سرديّة تاريخيّة تمكّّنتْ من وضع عمق لها سواء في الأذهان (التعليم/الإعلام) أو المؤسسات الرسمية للدولة. هي سردية برعاية رسميّة طويلة. أما السردية المقابلة فلا ترقى أن تتحول إلى “سردية”، حسب الكاتب. هي أقرب لـ”شعوذة” غير “قابلة للبقاء”. وقد قدّم في ذلك قراءة من منطلق تاريخي لتنسيبها. في المقابل، وضع الكاتب السرديتيْن على المحكّ. كلتاهما طوال الفصل الأول عكستا صراعا مصلحيا سياسيا، لم يرغب فيه أي طرف بالتنازل. لكن تفاوضا على التموقع والهيمنة قد حصل. لذلك كانت علاقة السردية البورقيبية بالحقيقة كعلاقة السردية الثانية بالثورة، ذلك أن أنصارها في النهاية قد انفصلوا عن الثورة (ص. 28). بينهما لم يكن ممكنا أن ننتبه إلى واقع التهميش التاريخي خارج المجال الجغرافيّ والسياسيّ الذي تهيمن فيه السردية البورقيبية، كما لم يكن ممكنًا أن يتمّ تنسيب الثانية ودراسة شخصية صالح بن يوسف كما هي. لذلك يتبنّى الإسلاميون بن يوسف لأنه ألقى خطابا في الجامع الأعظم (7/10/1955)، لكن فقط في إطار تبرير علاقة الجامع بالسياسة (ص. 31)، ما يعني أنه يوظّف لتحقيق عائد إيديولوجي يغيب بعده. أما أنصار السردية البورقيبية فقد أعادوا إحياءَها (خصوصًا مع تأسيس نداء تونس) لأنها توفر شرعيّة منظومة الهيمنة القديمة. انتهى الأمر إلى تحقيق انقسام حقيقيّ أضرّ بعمل هيئة الحقيقة والكرامة. وهو عملٌ يستحقّ النقد من الناحية العلميّة حسب الكاتب (ص40-41)، لأن تعطيلها أصبح سيّاسة دولة مع الباجي قايد السبسي وحكومتيْ الصيد والشاهد. كان الهجوم على سهام بن سدرين الشجرة التي تخفي غابة الصراع المُحتدم بين أنصار السرديّتين. لم يكن مُمكنًا فتح السرديّتيْن على بعضهما البعض، عبر القول العلميّ التاريخي. وشاهد ذلك، كما يورد الكاتب، بالإضافة إلى ما سبق ذكره عن موقف الرئيس والحكومة، هو موقف حكومة حمادي الجبالي. لم تعطّل الحكومة مشروع متحف الزعيم بسقانص (أفريل 2013)، لكن ردّة الفعل الساخرة خلال المجلس الوزاري كانت مؤشّرا مهمّا على مشروع الرئيس المنصف المرزوقي (اليوسفي). لا يمكن فتح سرديّتين مغلقتيْن بالممارسة والمصالح والاعتبارات الشخصيّة. فحتى “مصالحة” العائلتيْن (ابنة بورقيبة وأرملة بن يوسف) برعاية الرئاسة انتهتْ إلى الفشل “لأنها واجهت صدّا وإعراضا منعاه من التقدّم أكثر في هذا الطريق” (ص.37). يمكن القول أنّ الفصل الأول اهتمّ  بنشوء وارتقاء السرديّات المُغلقة تصوّرا وممارسة، والتي أدّتْ في النهاية إلى ضرب موضوع العدالة الانتقالية. فانسحب التاريخ إلى الوراء ومن وراءه تقدير وتقييم ما تحقّق فعلا وإعادة اعتبار لمظلوميّة المهمّشين في تاريخ البلاد.

للقارئ أن يتصوّر مُسبقا ما سيقول الكاتب عموما عن النخب. فهي قد “رقصت” (رقصة النخب عنوان الفصل الثاني) على إيقاع العقل السياسي الكامن وراء عملية الانتقال. وهو عقل نتاج شخصية ثقافية معينة في جانب منه (ص. 99)، يحمل طبيعة التجار في التفاوض على وضعية لا غالب ولا مغلوب (ص. 92). وسمته الأساسية هو سقف منطق الدولة باعتبارها العقل الكامن وراء الجهاز الهرمي أو المنظومة القانونية الذي يحدد السلوك في الأوقات العادية وبالأخصّ  في الأزمات الكبرى. فمثلت لذلك واسطة تجديد وتغيير النخب عن طريق تعيين أو تسمية تقوم بها الدولة أو عن طريق الانتخاب. ثمّة ولا شك مجريات سابقة لكن ما كان يعطي باستمرار القوة التنفيذية والإجرائية والواقعية هو “النصّ الصادر عن سلطة الدولة” (ص64). هذا المعطى تاريخي حسب الكاتب بين الاستعمار وما قبله، وبين الاستعمار والاستقلال، وبين الثورة والانتقال الديمقراطي. وفي الانتقالية ثمة “قطيعة مضمونية” حيث تبرز دائما نخبة جديدة متميزة عن السابقة، وغالبا بمنشأ مختلف وفكر جديد. تحضر دائما قدرة استيعابية لدى الدولة في توجيه الثورة عليها.

قارن الكاتب بين ثورة علي بن غذاهم وثورة 2011. فما تلاهما متشابهٌ في النهاية، حيث انكفأتْ الدّواخل أمام الدولة والنخب المرتبطة بها. بحيث أصبح غير ممكن تدارك التهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي برعاية الدولة التي أصبحتْ هيكلا لإدارة الفساد والاستبداد السياسيّ في سجلّ الثورات ضدّها (ص66-67). رقصتْ النخب ضمن هذه الهيكلة والطبيعة ذات العمق الثقافي والتاريخي للمجال السياسي بمركز دولتي مغلق. وفق هذا التمشي يتعرّض الكاتب لمسار 2011 وصولا إلى 2014، من اعتصام القصبة 1و2، واعتصام القبة واعتصام القصبة 3 وفضّه بالقوة (الذي استقال إثره من هيئة تحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي) وصولا إلى توافق 2013 ودستور 2014. لقد نجحتْ نخبة المنظومة القديمة في استعادة السيطرة بالنظر إلى منظومة المصالح والبنية الثقافية المتجذرة في الثروة والإدارة والإعلام وكل حقول الفعل الأخرى. أدارت هذه النخبة صراعها بنجاح ضدّ  “نخبة الثورة” المنقسمة على نفسها. فتسميّتها كنخبة ثورة، بما تعنيه من وحدة، لم تكن إلا فرضيّة تستند إلى مرجعية الثورة في سياق كان الشارع لا يزال يطالب بها (ص. 99). رغم هذه المحصلة، يوازن الكاتب بين أن يكون خطّ الوسط القانوني وفق منطق الدولة مكسبا تاريخيا، وبين الهيمنة التي توظفها وتتعدّاها. وهنا مربط الفرس، كما يشير، لأن منطقًا انتقاليّا في إدارة الأزمة يتجاهل متطلبات الحرية والعدالة، لا ينتج إلا إعادة تدوير للهيمنة. بما يعني ذلك من تدوير لنخب الهيمنة القديمة، وبما عناه ذلك من توافق النخب الجديدة معها، خاصّة الإسلاميين الذين لا يتناقضون جذريا مع المنظومة (ص. 98). في نفس الوقت، لم يستثنِ الكاتب أحزابًا أخرى دخلت في مساحة التفاوض الانتقالي مع المنظومة القديمة، التي تأكدت تدريجيا أنها قادرة في حال لم تكسب أن تغادر من دون خسائر. وبين الرهانيْن بلغت أقصاهما فتواصلت كما هي. يبقى أن المحوريّ في قراءة الكاتب، كما يبدو لنا، هو هذا التواصل التاريخي في إدارة الأزمات والانتقالية المُعقلنة، الذي أمل هو نفسه أن يؤول إلى الاستجابة العادلة للقطاعات المهمّشة والمظلومة. وفي ذلك، وردت في موقعيْن ملاحظات شخصية تُحسب للكاتب، عندما أقرّ أنه فقد القدرة كفاعل شريك في مرحلة الترويكا على التمييز بحيث لم يلاحظ أنّ خط الانقسام بين المنظومة والثورة قد تمّ محوه (ص. 103) أو عندما تحدث عن نفسه كبرجوازي صغير مؤمن بالثورة لكن في نفس الوقت محافظ ومتخوف من الفوضى، يحرص على أن تنتهي الأزمات بحلول، ويفضّل أن تكون الحلول، قدر الإمكان،  ضدّ المنظومة القديمة (ص. 89). ما يشي بإعادة قراءة لدوره كجزء من النخبة المنتقدة نفسها. بالمحصلة “رقصة النخب” انتهت من إيقاع الصراع بين المنظومة والثورة (في الدولة، كما نُقدّر ذلك)، إلى صراع المجتمع (النمط والنموذج المجتمعي الثقافي). إلاّ  أنّ التوازن الحاصل في الدولة لم يسمح بتذويب تاريخ السرديات السلبيّ، ولم يسمح أن يمتلك الانتقال سرديّته. وكيف ذلك إذا كانت الرقصة من دون راقصين يتبنّون إيقاعها الخاص.

الدولة المغلقة: الصراع عليها دون المجتمع الديمقراطي

يواصل الكاتب في باقي الفصول خطّه الناظم للأفكار. وبدا لنا أنّه يتعلّق بفكرة أساسيّة تعتبر أنّ المهمة كانت حماية الثورة من أعدائها وحمايتها من الدولة نفسها (ص. 143). وهو ما رفعه مطلبا مباشرا لحكومة الترويكا في مقال منشور على موقع نواة (أورده الكاتب من الصفحة 140 إلى الصفحة 144). ينبئ ذلك بالتحوّل الذي كان بصدد الحصول، وهو يبدو منطقيّا إذا تابعنا التطوّر المنطقيّ للفصول السابقة عن النخب والسرديّات المتصاعدة. إذ أنّ حركة النهضة كانت في سيْر حثيث نحو التطبيع مع الدولة ومنطقها كما وصفه في الفصول السابقة. لقد أخذتْ الحركة من الدولة عقلانيتها الباردة والظالمة ومن الثورة طاقتها. وهو ما تطلّب الاقتراب من المنظومة القديمة التي فاوضت على حضورها بمناورات رشيقة. وقد بدأت هذه المناورات بتحالفاتٍ موضوعية تاريخيّة ترسخت فيها المنظومة القديمة على امتداد سنوات. وهو ما يعتبره الكاتب سببًا فيما كان يواجه الترويكا داخل الدولة. لقد كانت مغلقة ومفاتيحها عند أهلها القديمين. أورد لذلك أمثلة على غاية من الأهمية وتحتاج للمراجعة والتحليل أكثر. منها ما أورده عن العلاقة بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية بحيث يبدو الرئيس المنصف المرزوقي كائنا غريبا عن الدولة، إلا في الحدود الدنيا للبروتوكولات المقدسة في السلطة. كان المرزوقي في حالة عمى حقيقي عمّا يحصل على الأرض. تنضاف إلى ذلك عملية تسليم البغدادي المحمودي ووضعية وزراء الترويكا، كما يؤكد الكاتب. فهم بدورهم في وزارات يسيّرها الجهاز الإداري الذي أغرقهم في التفاصيل البيروقراطية اليومية وحجب المعلومة عنهم مع تقديم معطيات مغلوطة. ويحيل تبعا لذلك على أحداث مهمة في فترة 2011-2014، خاصة أحداث الاعتداء على السفارة الأمريكية وثكنة العوينة وأحداث الرشّ مع تفصيل مهم في مجرياتها بناء على معاينة وليس فقط تحليل، كما يؤكد الكاتب.

تعاضدت الوضعية التي مرّت بها تجربة الترويكا في الحكم مع توليفة الهيمنة التابعة للمنظومة القديمة، التي جاء التفصيل فيها تعميقا للفصليْن السابقين المكثّفين تحليلا ومفاهيم. هي توليفة تاريخية تحرّكت مرتكزاتها بفعل الثورة لكنها سرعان ما استرجعت المبادرة بفضل الأسبقية التاريخية لجذورها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وخاصة امتدادها في الدولة (إدارة ومؤسسات وقيم). خلال الفترة من 2011-2014، عملتْ هذه المنظومة على استعادة المبادرة، وتموضعتْ في كل مرة إيديولوجيا وسياسيا وصولا إلى الاستثمار بقوة في قاعدتها المناطقية (ص. 163)، خصوصًا  بدخول الباجي قائد السبسي على الساحة السياسية. بمناسبة الانتخابات الرئاسية، كانت المواجهة بينه وبين المنصف المرزوقي مواجهة استثمرتْ تاريخ الدولة مشروطا بمحدّداته السوسيولوجية والثقافية والمناطقية والإيديولوجية. فيما أصبح المرزوقي الرمزية المخالفة لهذه المحددات. وانضاف لها خطاب تحقيري على أساس لون البشرة واللباس وطريقة الكلام. عبر موضوعات الإرهاب والمرأة تم الاشتغال على إحراج أخلاقي للمتحالفين مع حركة النهضة، مستغلين كل أخطائهم الممكنة. فـ”المرأة” مثلا، تحولت، كما يشير الكاتب، إلى منجز حداثي للدولة البورقيبية حصرًا وتم استثماره بكل قوة في الصراع السياسي. حُصر الحداثيون، الذين تصوروا أنهم قادرون على لجم الإسلاميين (ص. 108) إذا تطلب الأمر، في الزاوية مضطرّين إلى تبرير أنفسهم في موضوعات ربما تقدّموا فيها من حيث المبدأ على من أصبح يمتلكها حصريا سياسيا (ص. 168).

من الخلاصات المهمة، التي يتحدث عنها الكاتب بشكل شخصيّ في صفحاتٍ مختلفة وعديدة، هو تحوّل النهضة استراتيجيّا وتكتيكيّا نحو التطبيع مع الدولة كما هي. وهو مسار محسوب ومدروس الى حدّ بعيد. كان في ذلك حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة ضحية جديدة في معسكر كان يُحسب على الثورة، فيما هي قد تحوّلت إلى أصل تجاري يواجه الأصل التجاري للإرث البورقيبي. أكد الكاتب على أنّ هناك سوء تقدير في مراحل التحالف معها، حيث لم يتفطّن كالعديدين إلى أنّ خط التمييز ثورة-منظومة قديمة بدأ بالانحسار لصالح “التوافق” الذي مُهّد له على مهل موضوعيا واستراتيجيا. داخل حزب المؤتمر، أصبح الجناح الانتهازي (جزء من اعضاء الهياكل القيادية) نهضة ثانية، بحيث أصبح المنتمون له يعتبرون “…أنّ الاطّلاع على ما يحدث في الحزب، بالتفصيل وأحيانا بالنقل المباشر، واجب سياسيّ لا تحدّه أي اعتبارات” (ص. 165). ما يطرح قضية سياسية وأخلاقية. لم تكن الترويكا، حسب الكاتب، بريئة لكن أكبر أخطائها هي أنها لم تكن ثورية. فالثورة، أصل تجاري فاوضت به حركة النهضة، ولم تتمّ حمايتها من أعدائها ولا من الدولة بتأخر الإصلاح والمحاسبة بالأخصّ في القطاعات الحساسة كالقضاء (ص. 143)، حيث استعمل شعار الثورة كما في قرار عزل القضاة بغاية “تعويض هيمنة بأخرى”.

حاول الكاتب رسم صورة شاملة للفترة بحيث يتبيّن أنّ المسؤولية مشتركة فيما آلت إليه الثورة وآل إليه الانتقال الديمقراطي. مخافة تعميم المسؤوليّة، أصرّ الكاتب على أن هناك مسؤوليّة أخلاقية يجب الاعتراف بها. ويشير إلى أنّه يتحملها على المستوى الشخصي مُحيلا على بعض التفاصيل الشخصية في تنقلاته للجهات. لكن يبدو أن هذا الاعتراف شخصي، حيث يؤكّد على أنه لم يحصل من الأغلبية. تلك المسؤولية التي بالتخلي عنها، تم إعادة إنتاج الهيمنة وغلق قوس الثروة وتوظيف الانتقال بشراكة بين نخب المنظومة القديمة والنخب الجديدة خصوصا من الإسلاميين. في الأثناء، انزاحت القضايا الأساسية للمجتمع على الهامش كما انزاح الناشط من القصرين رثّ الثياب (ص. 151-152) الذي لم تُغطّه الثورة لأنها تحولت إلى “قميص” عثمان (ص. 172).

خاتمة: عودة إلى البداية

لقد “أخطأنا جميعا الطريق”(ص. 15) في البناء “على الرمل تحت ظلال كثيفة من السذاجة والتزييف والإنكار” (ص. 16). أصبح الانتقال كما الديمقراطية غريبيْن، من غربة الثورة. إنّ الفشل، انطلاقا من الكتاب، هو مما نحن عليه، فالمجتمع الذي تلتهمه الشعبوية اليوم فقد الأدوات المناسبة ليصنع مشروعه. أما النخب فقد انتهت إلى الخضوع لمنطق انتقالي تاريخي ثقافي. من حيث لم تخترقه الثورة، تواصلت منظومة الهيمنة القديمة. يؤكد الكاتب لذلك أن الكتاب ليس بيانا ضد الديمقراطية بل ضد ممارستنا لها. معطى وجبَ الانتباه له سريعا لأنّ آثاره التدميرية تتواصل. يشدّ الانتباه في أحد النصوص التي أعاد نشرها الكاتب (نُشر سنة 2012) أنه قال “هل حان زمن اليأس؟ قطعا لا، ولن يحين أبدا” (ص. 142). ربما نطرح عليه السؤال اليوم: هل حان زمن اليأس؟ شخصيا وجماعيا؟ ألا يمكن أن نحاول مرة أخرى، أن نبدأ من جديد؟

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني