“
عشرات الأشخاص الأجانب وجدوا أنفسهم صبيحة الأربعاء 22 أيار 2019 في العراء أمام مبنى كانوا يقطنونه في منطقة المصيطبة في بيروت. وتحول هؤلاء مع المبنى المؤلف من أربعة طوابق إلى حديث البلد، بعدما عملت شرطة بلدية بيروت على إخلائهم وغالبيتهم من الجنسيتين السورية والبنغلادشية. وأدت الحادثة إلى استنكار على وسائل التواصل الاجتماعي لرميهم في الشارع من دون أي بديل، حيث تراوحت الأرقام المتداولة حول أعدادهم ما بين 200 إلى 400 شخص، من ضمنهم عائلات وأطفال.
بعض هؤلاء شاهدتهم المفكرة، وخصوصاً أربع عائلات سورية مع أطفالها، قرب المبنى مع أغراضهم، فيما توزع الأخرون من العائلات السورية والعمال السوريين على أقاربهم. وقالت المتحدثة الإعلامية باسم المفوضية السامية للاجئين ليزا أبو خالد ل”المفكرة” أن المفوضية تمكنت من مقابلة أربع عائلات سورية من قاطني المبنى تبين أنهم مسجلون لدى المفوضية. وأشارت أبو خالد إلى أن أفراد هذه العائلات “اختاروا البقاء عند أقارب لهم بدل المأوى المؤقت الذي عرضناه عليهم”.
محافظ بيروت يتحدث عن إتجار بالبشر
اعتبر محافظ بيروت القاضي زياد شبيب، الذي يتحمل مسؤولية القرار، في اتصال مع المفكرة “أن إخلاء المبنى هو إنقاذ للعمال والعاملات والعائلات السورية، بسبب سوء الظروف الصحية والمعيشية والخدماتية والبيئية التي يسكنون فيها”. وزاد شبيب على الظروف السيئة للمبنى ليوصف الواقع أنه “كان إتجاراً بالأشخاص”.
ولكن هل نرمي ضحايا الإتجار بالأشخاص في الشارع ليصبحوا أكثر عرضة للإستغلال؟ سؤال يرد عليه محافظ بيروت بالقول: “حصلت على تطمينات من المعنيين بالمبنى بأنهم سينقلون السكان إلى مبنى آخر”.
ولدى سؤاله عمّن أصدر قرار الإخلاء، يؤكد شبيب أنه كمحافظ لديه صلاحية “ضابطة عدلية وإدارية”، ويمكنه اتخاذ القرار وتنفيذه، نافياً أن يكون هناك أي عقود إيجارات بين سكان المبنى من الأجانب ومالكي المبنى أو القيمين عليه. “لقد طلبت من القيمين على المبنى إخلاءه قبل شهور ومن ثم أنذرناهم بالأمر قبل أسبوع”.
وأكد محافظ بيروت القاضي زياد شبيب أن بإمكان من تضرر من القرار أن يقدم المراجعة المناسبة، لأن حال المبنى تنطبق عليه عدة أفعال جرمية وستتم ملاحقة هؤلاء المرتكبين، وأن أقل ما يمكن القيام به هو إقفاله وليس فقط إخلاءه. واعتبر بالتالي أن وجود السكان داخل المبنى لم يكن ضمن الأطر القانونية والإنسانية. وأشار إلى أنه تقدم بدعوى جزائية ضد المالك.
ويضيف شبيب “للأسف في كل قضية لها علاقة بالأجانب نأخذ الشق العنصري منه، وأنا أؤكد لو كان المخالفون من الجنسية اللبنانية لتصرفت بالطريقة نفسها”.
مصدر من الشرطة قال أن عملية الإخلاء حصلت بناء على الشكاوى المتكررة من سكان الحي والأبنية المجاورة، بسبب الروائح المزعجة التي كانت تنبعث من المبنى، بالإضافة إلى الأصوات والصراخ الذي كان يصدر ليلا، وهو فحوى الشكوى التي أفاد بها الأهالي.
وبالاطلاع على القرار بإقفال مبنى الآغا وختمه بالشمع الأحمر، تبين أنه انبنى على التحقيق الذي أجراه قسم المراقبة وكشف وتقرير فوج الحرس بتاريخ 22 أيار 2019، حيث ورد فيه: ” وبناء على التحقيق الذي أجراه قسم المراقبة رقم 601/2018 ق.م. وكشف وتقرير فوج الحرس بتاريخ 22/5/2019، حيث تبين أن البناء القائم على العقار رقم 1928 المصيطبة المعد للسكن أساسا، تم التحوير في وجهة إستعماله إلى غرف مؤجرة من قبل أشخاص من تابعيات غير لبنانية، لا تستوفي أدنى شروط الصحة والسلامة العامة، بالإضافة إلى وجود أعمال منافية للحشمة والآداب العامة داخل المبنى مما يشكل ضررا ومحاذير على المحيط والجوار”. ويلحظ إذا أن القرار انبنى على ثلاثة أسباب: تحوير في وجهة استعمال المبنى، وعدم استيفاء شروط الصحة والسلامة العامة، ووجود أعمال منافية للحشمة والآداب العامة. ويلحظ أن السبب الأخير ورد على عموميته، من دون الاستناد إلى أي تحقيق جزائي. كما نلحظ بالمقابل أن القرار خلا من أي إشارة إلى جرائم الإتجار بالبشر التي كان أشار إليها المحافظ في وقت سابق في حديثه لل “المفكرة”. كما أنه خلا من أي ضمانات أو تعهدات من صاحب المبنى لإيجاد مأوى بديل للسكان.
من جهته، ينفي وكيل المبنى عماد نجدي أن يكون له أي علاقة بقبض إيجارات من العمال والعائلات السورية. ولدى سؤاله عن شركات التنظيفات التي تدفع إيجارات إسكان عمالها من البنغلادشيين شهرياً، كما أفادنا العمال أنفسهم، نفى علاقته بالأمر وأحالنا للحديث مع شريكه ربيع الصقر. يزعم الصقر أن جميع سكان المبنى “كانوا يقيمون مجاناً، وهم لا يدفعون سوى بدل الكهرباء والمياه”. وعندما واجهناه بما قاله هؤلاء عن دفعهم إيجارات، نفى موضوع الإيجارات. وكما في كل الروايات، ألصق التهمة بالناطور “يمكن الناطور مأجرهم”. وعندما سألناه عن عدد الغرف الموجودة في المبنى، وعن حال المبنى، أنكر أن يكون الوضع مزريا وسيئاً.
كما شدد الصقر على أنه لم يتسلم أي إنذار خطي من بلدية بيروت بشأن إخلاء المبنى، مشيراً إلى أنه توجه بكتاب إلى محافظ بيروت يطلب إعطاءهم مهلة 3 أشهر لمعالجة الموضوع ونقل سكان المبنى.
خواطر العمال
وتبين لفريق “المفكرة” الذي تمكن من دخول الغرف أن المبنى مؤلف من أربعة طوابق، كلا منها من شقتين. لكن تم تقسيم كل شقة إلى عشرات الغرف. لا تتخطى مساحة كل غرفة خمسة أمتار عرضاً وطولاً كحد أقصى، بالإضافة إلى الحمام والمطبخ المشترك، أو المطبخ الموجود داخل الغرفة نفسها.
“خربشات” وخواطر مكتوبة على الجدران تخبر أن هؤلاء يسكنون في المبنى منذ ما يزيد عن عشر سنوات وأكثر. غرف تؤجر بمبالغ تتراوح من 200 دولار وصولا إلى 500 دولار، حسب حجم الغرفة وعدد الأفراد المستأجرين. يمكن للغرف أن تكون مشتركة، وهذا ما كانت تفعله شركات التنظيفات التي يصل عدد الذين تُسكنهم الغرفة نفسها من عمالها إلى 15 شخصا وهم من الجنسية البنغلادشية، بحسب ناطور المبنى وهو سوري الجنسية (طلب عدم ذكر أسمه).
أما العوائل السورية، وهم من مختلف الأعمار وأكثرهم من الأطفال، فيعيشون، كما العمال والعاملات من بنغلادش، في ظروف غير صحية وغير سليمة أبدا، مجردين من أبسط حقوقهم في النظافة والصحة والبيئة السليمة، وأيضاً الخصوصية”. فكل الأبواب مشرّعة على بعضها البعض، وحتى الشبابيك مشرعة على المباني المقابلة، وتفتقر الغرف والشقق للمطابخ، كما يستحم السكان على الشرفات.
شادي (إسم مستعار) وهو سوري الجنسية، كان منهكاً من إخلاء الغرفة التي يسكنها مع زوجته منذ 3 سنوات. وهو يعمل في مطعم يقول “أنا أوراقي مكسورين” (ليس لديه إقامة). إذا المطعم بيعرف بيزعبني، عندي كهربا براسي، ما معي حق دوا، الأمم ما عم تطلع فينا”. يضيف “إذا ما بلاقي بيت برجع على القصف بسوريا أحسن لي”. ويؤكد أنه تبلغ بأمر الإخلاء منذ أربعة أيام، إلاّ أن وكيل المبنى، عماد نجدي، أخبر القاطنين أن الأمور تمت تسويتها مع البلدية، وأنه لا داعٍ للخوف، فتبين “أن كل ما قيل غير صحيح”.
حاتم (إسم مستعار أيضاً) وهو سوري الجنسية، يعمل ناطوراً للمبنى منذ أربع سنوات. تتجسد مهمته حسبما أفاد، بجباية الإيجارات، التي كانت تدفع بشكل نقدي. أما بعض شركات التنظيفات فتدفع شيكات عن عمالها البنغلادشيين. هذا الكلام يناقض ما أدلى به الوكيل عماد نجدي ل “المفكرة” من “أن أصحاب المبنى لا يتلقون أي إيجار من السكان، وإنما يدفع هؤلاء بدل مياه وكهرباء”. كما يناقض كلام السكان من سوريين وبنغلادشيين الذين أكدوا أنهم كانوا يدفعون إيجارات: “كنا إذا تأخرنا يرمون أغراضنا في الشارع”، كما قالت إحدى العاملات البنغلادشيات.
بالإضافة إلى ذلك، كان حاتم يجمع النفايات مثله مثل أي ناطور في مبنى عاديّ. إلاّ أن الخوف كان باديا عليه بشكل كبير من أن يرموا عليه مسؤولية ما حصل بسبب هشاشة وضعه. ويؤكد حاتم طيلة الوقت ويكرر أن لا أعمال منافية للأخلاق كانت تحصل داخل المبنى، وأن كل ما يقال هو من أجل تبرير ما حصل، من قبل عناصر الشرطة، وأشار إلى أن الوكيل أكد له أن الأمر تمت تسويته مع البلدية، وهذا ما أخبر به السكان، ليطمئنوا.
“روبيل”، عامل تنظيفات من الجنسية البنغلادشية، يسكن في المبنى منذ سنتين ونصف مع مجموعة من العمال ويعملون لصالح الشركة نفسها، وكان عددهم 15 شخصا في غرفة واحدة. وبحسب روبيل، كانت الشركة تدفع إيجار الغرفة 250$ شهريا، وعندما سألناه عن مصيرهم بعدما حصل، قال أن الشركة وجدت لهم بيتاً آخر في الشارع المقابل.
مآخذ “المفكرة” على القرار
وبسؤالنا للمدير التنفيذي للمفكرة المحامي نزار صاغية عن تعيلقه على القضية، أفاد: “أن يُرمى هذا العدد الكبير من الناس في الشارع وجلّهم من غير اللبنانيين ليس حادثة عابرة وهي تشكل شاهدا آخر على هشاشة أوضاع هؤلاء، وفي الآن نفسه استقواء الإدارة العامة عليهم، سواء تمّ الأمر من خلال القانون أو من خارجه.
المحافظ برر قراره بعدة معطيات، التدقيق في كل منها يطرح علامات استفهام كثيرة.
يتحدث المحافظ عن حماية الجيران. فهل هو حمى قاطني منطقة الحمراء، وتحديدا المقدسي، من الحانات التي حوّلت طوال سنوات حياتهم إلى جحيم؟ قدّم هؤلاء للمحافظ شكاوى وعرائض عدّة، انتهت كلها من دون أيّ إجراء ولم يتغيّر شيء حتى تدخّل القضاء. يذكر أن كل تلك الحانات كانت تعمل خلافا للقانون ومن دون أي ترخيص بل حتى من دون توفّر أيّ من شروطها القانونية.
يتحدث المحافظ عن تحوير وجهة استعمال المبنى وعدم توفر شروط السلامة العامة فيه. هل هو أوقف العمل في فندق الإيدن باي الذي باشر الاستثمار من دون أن يكون له رخصة إشغال حتى، دون الحديث عن المخالفات الجسيمة المرتكبة فيه والتي ما تزال في عهدة مجلس شورى الدولة الذي لا يعمل؟ ثم، ماذا يعني تحوير استعمال المبنى والاستعجال في إغلاقه لهذا السبب، فيما يتضح من الشهادات أن هذا الاستعمال حاصل منذ سنوات؟
يتحدث المحافظ عن الإخلال بالآداب العامة. وعلى فرض صحة ذلك علما أنه فيما ليس هنالك أيّ ملاحقة قضائيّة في هذا الخصوص، فإن المحافظ لم يجد حرجا في فرض عقوبة جماعية بحق جميع سكان المبنى، من دون اي تفرقة بين شخص وشخص أو شقة وشقة. وهو بذلك تصرف تماما كالبلديات التي عمدت إلى طرد جميع عمالها السوريين بحجة أن أحدهم ارتكب فعلا جرميا.
وما يجدر لفت النظر إليه بشكل خاص، هو أن المحافظ خصّ المفكرة بالحديث عن جرم خطير كجرم الإتجار بالبشر لتبرير طرد العمال من مساكنهم. “فهل تمّت مخابرة النيابة العامة بهذا الخصوص، كما تفرض القوانين على أيّ موظف عامّ أن يفعل عندما يأخذ علماً بجرم معين؟ هل تحركت النيابة العامة ضدّ أي كان، هل تمّ توقيف أيّا كان كما يفترض أن يحصل في الجرائم الخطيرة؟ أليس من الغريب أن ينتهي التذرّع بهذا الجرم إلى طرد سكان المبنى بشكل جماعي، وعمليا إلى تهجير الضحايا المفترضين؟ هل يعقل أن يغضّ المحافظ الطرف عن الجناة، مقابل تهجير الضحايا الذين يفرض القانون على العكس من ذلك، وجوب حمايتهم وإيوائهم عند الضرورة؟ واللافت أن المحافظ ادّعى بأنه استحصل على ضمانات من مالك المبنى بإيجاد مساكن بديلة لهم. وهذا القول هو بمثابة إقرار بأنه لم يتخذ أيّ تدبير لحمايتهم إزاء تكرار جرائم الاستغلال أو سواها بحقهم، طالما أن المالك هو المسؤول الأول لما وصلت إليه الأوضاع التي تحدث عنها المحافظ داخل المبنى. فهل الإتجار بالبشر فعل تقوم به جدران المبنى الذي تم إغلاقه بالشمع الأحمر، أم الجناة المفترضون الذين بدا المحافظ وكأنه أمّنهم على إعادة إسكان العمال المطرودين في مكان آخر؟
والأهم، ما هو سند تدخّل المحافظ: ما هو الخطر الداهم الحاصل في البناء علما أن استخدام المبنى هو على حاله منذ سنوات وأنه لم يسجل فيه أي جرم من أي نوع كان؟ وألا يشكّل توسّع المحافظ في ممارسة صلاحياته في هذا المجال بمعزل عن الهيئات القضائية المختصة، سابقة مؤدّاها تجريد العمال الأجانب واللاجئين في لبنان من أي حقوق وضمانات والحكم عليهم بمزيد من الهشاشة؟
أسئلة كثيرة تطرحها هذه القضية نضعها برسم وزيرة الداخلية وهيئة التفتيش المركزي والنيابة العامة على حدّ سواء”.
“