عامان على 4 آب: الأهالي يطلبون العدالة بكلّ اللغات ويؤكّدون: ليس يوماً واحداً وليس يوماً للذكرى

عامان على 4 آب: الأهالي يطلبون العدالة بكلّ اللغات ويؤكّدون: ليس يوماً واحداً وليس يوماً للذكرى

عامان على التفجير المشؤوم، وعدّاد الضحايا ما زال يواصل ارتفاعه حتى بلغ 233 ضحية، فلم يلتفت أحد من المسؤولين إلى مئات الجرحى المصابين بإعاقاتٍ جسدية والذين يعانون في منازلهم حد الموت، فقضى ثمانية منهم خلال العام الثاني للتفجير، هم عباس مظلوم، إبراهيم حرب، رامي فوّاز، جوليا عودة، جانيت عودة، رندة رزق الله، ريتا حرديني، جورج حداد. أما أصحاب المنازل المتضررة فلم يتمّ التعويض عليهم سوى باليسير. عامان ولا تزال ليليان شعيتو ولارا حايك في المستشفيات في شبه غيبوبة. عامان وأهالي الضحايا يهرعون وراء حقيقة وعدالة لم تتوان السلطة عن عرقلتها ولم تحرّك ساكناً للعمل على تحقيقها. 

حلّ موعد الذكرى السنوية الثانية لتفجير المرفأ هذا العام ليشكف الستار ويظهر عمق الأزمة، فربما يكون الرابع من آب هو التاريخ الوحيد “المتاح” أمام اللبنانيين كي يجتمعوا للتعبير عن سخطهم، إلّا أنّ مشهدية الأمس كانت محزنة: فأهالي الضحايا توزّعوا ضمن أربعة تجمّعات بينما تراجعت أعداد المشاركين والمتضامنين، وأثناء إلقاء الأهالي كلماتهم أمام حديقة سمير قصير انهارت أربع صوامع قمح من الجزء الشمالي للإهراءات ما أضاف سوريالية على المشهد وبدا كأنّه انهيار شعب سئم انتظار من ينقذه.  

الرابع من آب، لم يعد تاريخاً عابراً، ولا يجب أن يكون، لذلك كان تراجع أعداد المشاركين في إحياء الذكرى مقلقاً ومفزعاً، فيبدو أنّ قسوة أحداث هذا العام على صعيد ملف التفجير وحده إن وضعنا جانباً الانهيار الاقتصادي، من عرقلة للتحقيق ورفض كلّي للامتثال لطلبات المحقق العدلي أنتجت يأساً لدى الكثير من الناس وأتت على عزيمتهم على النزول إلى الشارع. والكلّ لديه خساراته وقلّة من يستطيعون لملمة أنفسهم والوقوف لملاقاة أهالي الضحايا والتضامن معهم أو المطالبة بأي شيء لأنفسهم. لذلك لم تتمكن المسيرات الثلاثة التي جابت شوارع بيروت من حشد بضعة مئات من الأشخاص.  

ولكن رغم كلّ ذلك كان الأهالي مصرّين على اختلاف تجمّعاتهم ورغم الإحباط العام الذي كان واضحاً في الأمس، على مطلب الحقيقة والعدالة، ورغم جراحهم المفتوحة تعهّدوا بالاستمرار.

مسيرات ثلاثة جابت بيروت ووقفة للجنة التأسيسية

سار أهالي الضحايا هذا العام في مسيراتٍ ثلاثة إضافة إلى وقفة داخل المرفأ، المسيرة الأولى لمجموعة “4 آب” التي انطلقت عند الساعة الثالثة ظهراً من أمام قصر العدل مروراً بالسفارة الفرنسية وصولاً إلى حديقة سمير قصير، والثانية لـ “جمعية أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت”، الذين تجمّعوا في الساعة الرابعة أمام مبنى جريدة النهار بانتظار وصول مسيرة “4 آب”، ومن هناك ساروا سوياً باتجاه المجلس النيابي قبل أن يعودوا ويتجّهون صوب تمثال المغترب نقطة التجمّع الأخيرة للمسيرات الثلاثة، أما الثالثة فهي لأهالي “شهداء فوج الإطفاء” التي انطلقت عند الساعة الرابعة من مركز الفوج في الكارنتينا باتجاه تمثال المغترب حيث كان حشد المتضامنين بانتظارهم. كذلك نظّمت “اللجنة التأسيسية لتجمّع أهالي شهداء وجرحى ومتضرّري انفجار مرفأ بيروت”، وقفةً عند بوابة المرفأ رقم 3 بحضور عددِ من الأهالي والصحافيين.  

وإن تعدّدت المسيرات والشعارات إلّا أنّ المطلب واحد هو “الحقيقة والعدالة”، وما يفرّق هؤلاء إنّما تتحمّل مسؤوليته السلطة اللبنانية، ففي ظلّ تدخلّاتها السياسية في القضاء اللبناني وعدم إقرارها لقانون استقلالية القضاء، وفي ظلّ استمرارها في عرقلة التحقيق والتضليل والإفلات من العقاب، اختلف الأهالي (وهذا حقّهم) على سبل الوصول للحقيقة وتحقيق العدالة، ففيما تتمسّك جمعية الأهالي بتحقيق القضاء لبناني، تطالب مجموعة “4 آب” بتحقيقٍ دولي، كذلك مجموعة فوج الإطفاء، أما اللجنة التأسيسية للأهالي فتطالب بضرورة تنحّي القاضي بيطار بينما تتمسّك “جمعية الأهالي” بوجوده لحين استكمال تحقيقاته وصدور القرار الظني.

مسيرة “تجمّع 4 آب”: 4 آب مش ذكرى 4 آب بدّه ثورة”

البداية كانت من أمام قصر العدل في بيروت، الشاهد على غياب العدالة وعلى المماطلة بالتحقيق على مدى سنتين، أمام هذا القصر تجمّع عند الساعة الثالثة مئات المواطنين يتقدّمهم بول وترايسي نجار والدا ألكسندرا الطفلة الضحية، وأمامه أيضاً رُفعت اللافتات التي وعلى اختلاف ما كتب عليها التقت عند مطلب العدالة كحقّ لأهالي الضحايا يبحثون عنه حيث يجدون سبيلاً إليه، سواء بالقضاء المحلّي أو الدولي.

وعلى بعد أمتار من قصر العدل روت المحامية ديان آصاف صديقة الضحية كريستال العضم قصّة “سنتين من دون عدالة عبر التمسّك بالحصانات التي من المفترض أن تكون لحماية النائب بأعماله التشريعية وليست لحمايته من أفعاله الجرمية”، وعبر “محاولة إحالة الوزراء إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي نصفه من النواب، والذي  لم يحاكم يوماً أحداً”.

وتطرّقت آصاف في كلمتها إلى محاولة كفّ يد القاضي بيطار عبر دعاوى تعسفية افتراضية، وعشوائية وعبر التهديدات التي تستهدفه على وسائل الإعلام وحتى في قلب قصر العدل، فضلاً عن تعطيل مجلس الوزراء ومحاولة فرض ازاحة القاضي مقابل العودة إلى مجلس الوزراء”.

وطالبت آصاف باسم الضحايا بأن يفرج وزير المال عن التشكيلات القضائية حتى يتمكّن القاضي بيطار من استكمال مهمّته، وبتعديل القانون وفرض غرامات باهظة على معرقلي العدالة، بالإضافة إلى إسقاط الحصانات فوراً، والعمل على تشكيل لجنة تقصّي حقائق من مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لأنّ السلطة السياسية في لبنان تسيطر على القضاء.

بعد قصر العدل، توجّهت المسيرة إلى مبنى السفارة الفرنسية حيث علت أصوات المواطنين بهتافات تذكّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي سار بين الركام بعد انفجار الرابع من آب، بوعده لهم بالوقوف إلى جانبهم من أجل تحقيق العدالة المغيّبة عن قصد في الداخل.

وطالبت تريسي نجار في كلمة ألقتها باللغة الفرنسية السفارة والسلطات الفرنسية بالإسراع في فتح تحقيق دولي يكفل إظهار الحقيقة التي لا تزال غائبة بعد سنتين من وقوع الانفجار”.

ومن أمام السفارة الفرنسية أيضاً حثّت ممثلة منظمة “هيومن رايتس ووتش” آية مجذوب فرنسا على تقديم قرار بإنشاء بعثة دولية لتقصي الحقائق في الجلسة المنتظرة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أيلول المقبل لا سيّما أنّ التحقيق المحلي متوقف.

وفيما أشارت مجذوب في كلمتها إلى أنّ تاريخ لبنان في كشف الحقيقة في جرائم كبرى ومحاسبة المسؤولين غير مشجعة لا سيّما أنّ النظام اللبناني مصمّم على حماية هذه السلطة من المساءلة، وحماية سياسة الإفلات من العقاب، أوضحت أنّ “هيومن رايتس ووتش” وقفت إلى جانب أهالي الضحايا لحشد الدعم من أجل تحقيق دولي من قبل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عبر كتابة رسائل لأعضاء المجلس  وتنظيم مؤتمرات صحافية لحث المجتمع الدولي على التحرّك وعقد لقاءات مع دبلوماسيين في بيروت وجنيف وعواصم مختلفة حول العالم.

وأشارت مجذوب إلى أنّ كلّ المطالبات قوبلت بالصمت أو اللامبالاة أو التعتيم، وأنّ هناك حاجة اليوم إلى الضوء الأخضر من فرنسا، لأنّ دولاً كثيرة لا تريد السير في التحقيق من دون دعم فرنسا، نظراً للعلاقة الخاصة بينها وبين لبنان.

ومن السفارة الفرنسية توجهت المسيرة إلى حديقة سمير قصير حيث كانت كلمة لبول نجّار استعاد فيها تفاصيل يوم الانفجار الذي غيّر حياته تماماً كما غيّر حياة مئات الأشخاص.

تحدث نجّار عن لحظات الخوف وعن الصدمة عن فقدان ابنته ألكسندرا وعن ألم مستمر منذ سنتين لا سيّما في ظلّ غياب العدالة “ما يجعل كلّ يوم 4 آب”.   

وعلى وقع هتاف “4 آب مش ذكرى 4 آب بدّه ثورة” وهتافات أخرى تسأل من أدخل النيترات إلى لبنان ومن غضّ النظر عن تخزينها مع التأكيد على محاسبة كلّ من كان له دور في تفجير المرفأ، توجّهت المسيرة من وسط بيروت إلى تمثال المغترب المحطة الأخيرة لمسيرات أهالي ضحايا انفجار المرفأ.

مسيرة أهالي الضحايا: مشانق وتوابيت  

لم تغب 17 تشرين عن تجمّع لأهالي الذي ضم العشرات عند مبنى جريدة النهار ولو بخجل، فللمكان رمزيّته، هناك حيث الشارع المؤدي إلى المجلس النيابي “مركز السلطة التشريعية”، وحيث فقئت عيون العشرات في تظاهرة الثامن من آب العام 2020 أي بعد أيام قليلة على التفجير. 

ارتفعت المشانق التي أرادها الأهالي والمشاركون مصيراً للمرتكبين، وحملوا مجسّمات لتوابيت كتبت عليها شعارات “دولتي فعلت ذلك”، “4 آب”، وخلفهم ارتفعت صور عدد من الضحايا. وعلى كل تابوت اتّكأت أم ثكلى، لم تجفّ مقلتا والدة الضحية أمين الزاهد، بعيناها الخضراوين والمتعبتين تنظر ولكنها تبدو كأنّها لا ترى لا تسمع، “كل شي بهالسنتين كان صعب، الاشتياق يلّي ما بيخلص صعب، وبدل ما تكبري حد إبنك صرتي عم تربّيلوا ولادو”، وتضيف شقيقته ريما: “لازم ينحطّوا بهيدول التوابيت، بدل ما يكونوا بالمجلس النيابي وبلجنة العدل”.

يعلّق والد أحد الضحايا حاملاً مشنقة قائلاً: “لازم تتعلّق مشانق كلّ السياسيين بالبلد، يموتوا مثل ما قتلولنا أولادنا”. ووجّه بعض المتضامنين رسائل إلى رجال السلطة عبر تلطيخ أيديهم باللون الأحمر ورفعها في وجه كلّ كاميرات التلفزة في إشارة إلى أنّ بعض المسؤولين ملطّخة أياديهم بالدماء. كذلك شاركت نقابة المهندسين رافعة لافتة عليها صور وأسماء ضحايا المهنة الستة. 

“وينن اللبنانيين، شو عم يعمولوا ببيوتهم، نزلوا نزلوا طالبوا بحقكم وحق يلّي ماتوا”، يصرخ أحد المتضامنين عاتباً على ضعف المشاركة في الذكرى الأليمة.

ومع وصول مسيرة مجموعة  “4 آب”، حمل الأهالي مجسّمات التوابيت، وفتحوا الطريق أمام المتظاهرين للتقدّم باتجاه المجلس النيابي، و”كأنّه الهدف المبتغى”، كما قال أحدهم. فهرع المتظاهرون نحو المجلس في مشهد يذكّر بتظاهرات 17 تشرين، وبخطوات ثابتة، ودقات قلوب متسارعة، وعلى صوت القرع على التوابيت التي شهرت بوجه العساكر، هناك تمكّن المتظاهرون من نزع السياج الحديدي والأسلاك الشائكة، فما كان من القوى الأمنية إلّا أن ألقت قنابل صوتية باتجاههم. عندها بدأ الأهالي بدعوة المتظاهرين والمتضامنين إلى الانسحاب لإكمال المسيرة.

كلمة الأهالي: لكلّ ظالم نهاية 

جميع كلمات التجمّعات طالبت بالحقيقة والعدالة، وبأن يسلك القضاء طريقه والعدالة مجراها، فأكدت رئيسة “جمعية أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت” ماريانا فَدوليان، شقيقة الضحية غايا فدوليان أنّ الأهالي يحاربون الطبقة السياسية والسلطة الفاسدة التي لم يرفّ لها جفن من هول فظاعة الجريمة، “بكل وقاحة نراها تضع العراقيل الواحدة تلو الآخر متذرّعة بالحجج القانونية”.

وتساءلت فدوليان “كيف يكون للمطلوبين الحق في الترشّح في الانتخابات، لا بل الفوز الساحق وبدون منافس؟”، وشككت في شفافية الانتخابات طارحةَ أسئلة حول إعادة انتخابهم قائلةً: “هل الشعب انتخبهم ولم يجد فيهم عيباً؟ أم أنّ الترهيب والضغط والعوز كانوا أسياد الموقف؟”.

وأشارت فدوليان إلى أنّ إعادة انتخاب هؤلاء “المطلوبين”، أعاد لهم الحصانات وتمكنوا من أن يصبحوا أعضاء في لجنة الإدارة والعدل، على الرغم من أذونات الملاحقة المتكررة بحقهم.

وتابعت فدوليان تساؤلاتها ” كيف لنوّاب أن يصوتوا لأشخاصٍ هم أساس البلاء وسبب كل المصائب؟”، وسردت ما حدث في مسار التحقيق قائلةً “بدأوا بطلبات الرد ومن ثم مخاصمة الدولة، حتى وصلوا إلى كف يد القاضي بيطار لأنه قام باستدعائهم”.

ووصفت فدوليان وزير المال “بالوزير المعرقل الذي منع من التوقيع على التشكيلات القضائية بأعذار واهية لا أساس لها من الصحة من خلال رئيس مجلس النواب، بحسب قول الرئيس ميقاتي”، مستغربةً عدم تنفيذ مذكرات التوقيف والجلب الصادرة بحق المتهمين. وقالت “لمن يحمي المطلوبين، أنتم تشاركون بالجريمة لأنه بحمايتكم هذه تعرقلون سير العدالة، وتقفون بوجهنا وتساعدون في هروبهم من المحاسبة والإفلات من العقاب”.

واتهمتهم بتعطيل القضاء من خلال التدخلات، “وكأنّكم تخافون على مناصبكم من أن تطالها الإدانة والتهمة”، واعتبرت أنّ الشريف الذي لا يد له في الجريمة لا يخاف من شيء”.

كذلك تطرقت فدوليان إلى حريق الإهراءات متّهمة المعنيين بالاستخفاف بالمنشأة والحريق الذي التهم الإهراءات من دون حراك بانتظار سقوط البقية منها. “الشاهد الصامت على الجريمة النكراء يجب أن يبقى، ونؤكد لكم أنه بسقوط قسم منه سنبقى متمسكين ومصرّين وسنضحّي بكلّ ما نملك للحفاظ على الجزء الصامد”. 

وأخيراً اعتبرت فدوليان أنّ الفساد هو من قتل ضحاياهم، “والتسويات التي تفكرون بها لن تسري علينا، وإنّ لكلّ ظالم نهاية”.

 وكان البطريرك بشارة الراعي قد ترأس قداساً في صبيحة الذكرى السنوية على راحة نفس الضحايا في  كاتدرائية مار جرجس في وسط بيروت، واعتبر أنّ لبنان اليوم يواجه جريمتين، الأولى هي تفجير المرفأ والثانية هي جريمة تجريد التحقيق وعرقلته، وشدد على ضرورة محاسبة من علم بوجود النيترات وسكت عنها وتلكأ وغطى ومن عطل التحقيق.

ووصف الراعي ما يحصل بـ”لعبة توزيع الأدوار بين المسؤولين”، وطالب بضرورة استكمال القاضي بيطار لتحقيقاته، وشدد على ضرورة اللجوء إلى التحقيق الدولي “في حال استمرّت عرقلة التحقيق العدلي في لبنان”.

أهالي شهداء الإطفاء يطلبون العدالة بكلّ اللغات

من الصعب أن يعود أهالي شهداء فوج الإطفاء إلى المكان حيث كانت بداية رحلة أبنائهم وبنتهم إلى موقع “التفجير الكبير”، ولو أنّهم عالقون في المكان: مركز فوج اطفاء بيروت في الكرنتينا، ولو أنّ الزّمن، متوقف بالنسبة اليهم منذ عامين بالتمام، حين اندلع حريق في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، وسارع عشرة عناصر من الفوج  يلبّون النداء هم: رالف ملاحي، شربل كرم، رامي الكعكي، نجيب حتي، شربل حتي، جو بو صعب، جو نون، ايلي خزامي، مثال حوا وسحر فارس. إلّا أنّ النار نفسها، الملغومة بمئات الأطنان من مادة نيترات الأمومنيوم المتفجرة، التهمتهم وحوّلت أجسادهم  إلى أشلاء وحوّلتهم إلى أبطال. 

والدة جو نون لم تترك حبل الحب السُرّي الذي يربطها بشهيدها ينقطع. تقف صامتة، تحتضن صورته، تتأملها وتتعلق نظراتها بها، وتتحدث إليها: “اشتقتلك كتير يا امي، يا الله شو صعبة إنّي كلّ يوم نام وأوعى وإنت مش حدي”.

أما وداد والدة الشهيد ميشال كرم، فتسير بخطى بطيئة إلى كرسي وضعت خصيصاً لها في مكان يقيها من لهيب الشمس، ومن هناك يعلو صوت نحيبها ويغطّي على صوت الموسيقى التي عزفتها فرقة “موسيقى أحرار كفرذبيان”.

كذلك، ريتا حتّي والدة الشهيد نجيب حتي، الممسكة بصورة حبيبها، كما تسمّي شهيدها، وبين الحين والآخر تجتاحها نوبة بكاء مترافقة مع نوبة غضب ومرارة: “لن يخففهما شيء إلا تحقيق العدالة عبر كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن التفجير”، تقول أم نجيب.

4 آب بالنسبة للأهالي، أمهات وآباء وأخوة وأخوات وأصدقاء ورفاق، ليس يوماً واحداً، وليس يوماً للذكرى، “إذ لا يمكن لنا أن ننتقل إلى يوم آخر قبل التحرر من الدماء التي سالت منهم، وهذا يكون بعدم إفلات المسؤولين عن جريمة انفجار المرفأ من العقاب” تضيف ريتا.

بالأمس، خلعت الأمهات والأخوات ثيابهنّ السوداء ولبسن الأبيض الملطّخ بالأحمر، تعبيراً عن الدماء الغزيرة التي سالت على الأرض، فطفت متوهجة غضباً صاخباً، لهذا الغضب وحده تريد الأمهات أن يصغي العالم هذا اليوم.

كانت باحة مركز الإطفاء، تضجّ بعائلات الشهداء انضمّ اليهم، حشد من سكان الأحياء المجاورة والمتضامنين، وفوق رؤوسهم كان يرفرف علم كبير ملطّخ بالأحمر، وتحلّقوا  حول علم آخر أرادوه عريضة موقّعة لرفعها إلى مجلس حقوق الإنسان، كتب عليها: 

“أقسم بدماء الشهداء والضحايا

بأجسادهم المقدّسة التي تناثرت على أرض بيروت

أقسم بدمائهم الطاهرة

بدموعِ الأمهات والأخوات والآباء والمسنّين

بوجعِ المصابين، بجروح الجرحى والمتألّمين،

أنّنا لن نيأس ولن نرضخ ولن نتراجع ولن نستهين حتى نعلن للعالم هويّة ذلك المجرم الحقير

الّذي أذلّنا وأصابنا ويتّمنا وشرّدنا وبعثر وطننا وهدم بيوتنا”. 

نعوش بلا أجساد

وتلا الأهالي القسم في باحة مقرّ الفوج وردّده الحشد وراءهم، وانطلقوا مع المشاركين، بمسيرة راجلة، باتجاه مكان الانفجار، لينضمّوا إلى المسيرتين اللتين انطلقتا من قصر العدل ومن مبنى النهار في وسط بيروت. سلكت المسيرة الطريق نفسها التي سلكها الإطفائيّون الشهداء قبل سنتين، تقدّمتهم سيارة إسعاف وسيارة إطفاء، ورفع المشاركون صور الشهداء عالياً، ولافتات تطالب بالعدالة وعدم إفلات المجرمين من العقاب. كما حملوا مجسّمات نعوش فارغة، نسبة إلى النعوش التي حملوها قبل عامين، بلا أجساد أحبّائهم، وكتب على كلّ منها اسم ضحية أو شهيد، مع عبارة “العدالة” كما حملوا لافتات تدعو إلى “محاسبة المسؤولين عن التفجير وكشف الحقيقة”. 

رسائل من أهالي فوج الإطفاء إلى الحكومة والأمم المتحدة

وحمل أهالي شهداء فوج الإطفاء رسالتين تلوهما لدى وصول مسيرتهم إلى الرصيف المقابل للإهراءات، الرسالة الأولى موجّهة إلى الحكومة، أعلنوا فيها أنه: “إذا لم تتم إعادة قاضي التحقيق طارق بيطار إلى منصبه ليتمكّن من القيام بواجباته من دون مزيد من العوائق، مع قدرته واستعداده لإصدار تقريره النهائي، خلال 90 يوماً من تاريخنا هذا، عندها سنطلب من مجلس الأمن بكل احترام، النظر بالقرارات التالية واعتمادها، إذا كان هذا الشيء مناسباً:

أ- إنشاء وتوفير التمويل لهيئة مختصّة ومستقلة مكلّفة بالتحقيق بأسباب انفجار مرفأ بيروت وتحديد المسؤولية عن هذه المأساة.

ب- الطلب من الحكومة اللبنانية وقاضي التحقيق وجميع الأطراف الأخرى في لبنان تسليم اللجنة جميع المعلومات والوثائق والبيانات التي يملكونها عن كل شيء يتعلق بتفجير مرفأ بيروت والتعاون بشكل كامل مع اللجنة المستقلة. 

أما الرسالة الثانية فوجهها أهالي الضحايا إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، عبّروا فيها عن ثقتهم بأنّ “حقيقة هذا الحادث المأساوي وتحديد المسؤوليات، سيتم من دون دعم ومساعي الأمم المتحدة”، و”على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، أن يدركا الآن أنّ هذه الإجراءات (القضائية) المحلية عقيمة بشكل لا يمكن معالجته ولا يمكن أن تؤدي إلى الحقيقة أو العدالة”. وحثّ الموقعون مجلس الأمن النظر في القرارات التي ذكرت في الرسالة الأولى إلى الحكومة. وختمت الرسالة بـ “الضحايا الناجون، وأقرباء الذين قضوا نحبهم، والشعب اللبناني، عانوا بشدة وانتظروا بفارغ الصبر إغاثتهم وإنهاء معاناتهم بتحقيق العدالة. آمالهم معلقة الآن على الأمم المتحدة. نتطلّع إلى إجراءاتكم السريعة”.

أهالي اللجنة التأسيسية داخل المرفأ

وعند البوابة رقم 3 للمرفأ، وقفت مجموعة من الأهالي والأمهات الثكالى، الذين يتجمّعون تحت ما يعرف باللجنة التأسيسية، الذين يتخذون من ذلك المكان موقعاً ثابتاً لتحرّكاتهم، لما له من رمزيةٍ، فمن هنا لطالما عبر أبناؤهم الذين كانوا بمعظمهم يعملون داخل المرفأ أحياء، ومن هنا خرجوا أمواتاً بعد انتظار إيجاد جثثهم لأيامٍ وليالٍ طوال، ومن هنا انطلق حراك الأهالي عندما كانوا ينتظرون أخبار عن مفقوديهم

 لا يختلف الوجع هنا، الدموع ذاتها والحرقة ذاتها، كلّ أمّ تحمل صورة ضحيّتها، تنتظر عدالة أرهقت كاهلهم.

رئيس اللجنة إبراهيم حطيط شقيق الشهيد ثروت حطيط، طالب في كلمته أيضاً بالعدالة والحقيقة، لكن مع قاض عدلي آخر، فهو يتهم القاضي بيطار بـ”الاستنسابية”، لعدم استدعائه عدداً من القضاة الذين علموا بوجود النيترات، علماً أنّ هذا ليس من صلاحية القاضي بيطار بل من صلاحية النيابة العامة التمييزية وعلماً أن بيطار طلب منها الادعاء على ثلاثة قضاة. وجدّد حطيط دعوته لوسائل الإعلام والجسم القضائي بالاطّلاع على المستندات التي يملكها، و”التي تكشف الحقيقة كاملةً”، على حد قوله. 

وعند الساعة السادسة “عبر” الأهالي عتبة المرفأ، ولهذه العتبة “سحرها”، فهي الحد الفاصل بين التماسك والانهيار، بين الحقيقة والحلم، قبل العتبة نار متأججة وبعدها السلام، قبل العتبة صراخ وبعدها وشوشات، قبل العتبة اختناق وبعدها النفس.

على الطريق القصيرة الفاصلة بين البوابة ومكان إضاءة الشموع على الأرواح نهر من المشاعر والبكاء، “والدة الضحية الأمين تصرخ “هون كنت تمشي يا إبراهيم، وين دعسات إجريك لبوسهم”، شقيقة ضحية أخرى “روحك هون يا علي أنا حاسي فيها”. ومن تمثال الأرزة يقترب حطيط مضيئاً شمعةً قرب صورة شقيقه ثروت، وتخنق الدموع صوته “الجهوري”، فيما صوت المروحيات التي تحاول، متأخرة، إخماد حريق الإهراءت أقوى من كل الأصوات. ولكن لا يسمح العسكر لهم بالبقاء لأكثر من عشر دقائق، فيودّعون الأرواح والإهراءات بنظرةٍ أخيرة ويعبرون خارجين. 

أهالٍ لم يستطيعوا المشاركة في الذكرى فالتزموا قبور أبنائهم

مقابل المسيرات الثلاث والتجمّع في المرفأ، ثمّة أهالٍ يعيشون خارج المدينة لم يتمكّنوا من المجيء للمشاركة في إحياء الذكرى مع أقرانهم من الأهالي. فالأزمة الاقتصادية جعلتهم عاجزين عن تأمين أجرة الطريق ذهاباً وإياباً فاكتفوا بزيارة قبور ضحاياهم، أو إقامة مجالس عزاء في منازلهم. تقول علا زوجة الشهيد حمد العطّار، إنّ والدة زوجها لم تستطع القدوم من البقاع نظراً للتكلفة المرتفعة، إضافة إلى التعب الجسدي لإمراة كبيرة هدّها الحزن. وأضافت العطار أنّ الأمر لا يقتصر فقط على القاطنين خارج المدينة، بل يطال حتى المقيمين في بيروت، “أجرة التاكسي لحالها عالمرفأ شي 200 ألف، أنا لو ما لقيت حدا يجيبني يمكن ما كنت بشارك”. وهو أمر لفتت إليه ماريانا فدوليان التي أكّدت أنّ تكلفة المواصلات غالباً ما تحول دون مشاركة العديد من الأهالي في كثير من التحرّكات الشهرية أو الطارئة.

6:07 حين توقّف الزمن وانفجرت المدينة

التحمت المسيرات الثلاثة عند تمثال المغترب وبدت الإهراءات رغم انهيار جزء منها قبل دقائق، صلبة تماماً كالأهالي الحاملين ثقل الفقد وثقل الظلم وثقل الصدمة ولكن الصامدين والمصرّين على مواصلة الطريق الصعب الذي لا تكفّ السلطة عن تعبيده بالعراقيل. وهناك بدا الأهالي قد استنفدوا كلّ الوسائل لتحصيل حقّهم في معرفة الحقيقة وإحقاق العدالة، فبدأوا توجيه الكلمات إلى شعوب العالم التي تشاركهم المصاب، وبلغاتها لتتضامن معهم، باللغة الإنكليزية توجّهوا إلى أهالي ضحايا 11 أيلول، بالإيطالية إلى أهالي ضحايا المافيا، بالإسبانية إلى أهالي ضحايا مجازر بينوشيه الجماعية في تشيلي، بالفرنسية إلى أهالي ضحايا الاعتداءات الإرهابية في تولوز. صرخ الأهالي وانفعلوا بلغات ليست لغاتهم الأم، علماً أنّنا غالباً ما ننفعل بلغتنا الأم، وهذا إنّ دلّ على شيء فعلى إحباطهم من عدالتهم الأم.

عند السادسة وسبع دقائق، ساد الصمت قبل حتى أن يعلن الأهالي أنّ الساعة حانت، الساعة التي خسر كلّ شخص في الحشد وكلّ شخص خارج الحشد وخارج السلطة، أحداً أو شيئاً أو إحساساً. وحلّت دقيقة الصمت ثقيلة ترافقها أصوات صفارات سيارات الإسعاف والإطفاء على ناس بدا على معظمهم التعب ورغم ذلك حملوا أنفسهم ونزلوا إلى الشارع ليحيوا الذكرى مع الأهالي وليطالبوا بشيء لهم كتعويض عن خساراتهم في 4 آب وكلّ الظلم الذي تبعه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، تحقيقات ، الحق في الوصول إلى المعلومات ، فئات مهمشة ، استقلال القضاء ، لبنان ، مجزرة المرفأ ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني